لاول مرة في حياتي ارى بغداد عاصمة بلادي وذلك في صيف 1963، انذاك كان النزول الى بغداد يحتاج الى ورقة عدم التعرض من مدير الناحية، كان الغرض من سفرتنا هو الهروب من الظروف الصعبة التي مرت بها المنطقة، من حملات الجيش والجحوش والحرس القومي، وقد كانت البلدة محاطة بالربايا اضافة لدوريات الشرطة، خرجنا بعد انتصاف الليل، عائلتنا وعائلة عمي حبيب وكانت القافلة تضم رجلين كبيرين في السن وهم كل من ايليا ساكا دمان وعيسى توما قاقا اضافة الى والدي ووالدتي واخواني وزوجة عمي وبناتها الصغيرات، حملنا الاغراض وبعض الاطفال الصغار على حمارين وتركنا القوش عابرين بيادر محلة التحتاني ونحن على اشد ما نكون خوفاً من هجمات متوقعة، ولكن الله كان في عوننا فاجتزنا محيط القوش الخطر وسلكنا طريق الوادي( خو رؤوله) قاصدين قرية حتارة كبير الايزيدية. وصلنا الى حتارة وقصدنا بيت المضمد شابا سعدو قيا فاستضافتنا زوجته( حسينة طعان) الى فطور فاخر، ثم ساعدونا في ايجار سيارة شوفرليت برتقالية بيك اب لصاحبها درويش( اذا لم تخونني الذاكرة)، ودعنا والدي يونس والعم عيسى ليعودا الى القوش، فيما نحن اخذنا السائق عبر الكنود ، في طريق ترابي وعر الى الشارع الرئيسي الذي اوصلنا في اخر المطاف الى محطة قطار الموصل، فحجزنا في قطار النهار وما كان المساء الا ونحن في بيت عمي ايليا دمان في البتاوين( الأورفلية) نمنا ليلتنا فوق السطوح العالية، وفي الصباح خرجت امام الدار الكبيرة من ثلاث طوابق، وكل غرفها مؤجرة للعوائل من مختلف بلدات وقرى شمالنا الحبيب، لفتت انظاري قطعة معدنية امام باب دارنا الجديدة( القابلة نجيبة حنا)، بعد قليل وقف اعرابي بدراجته النارية امام البيت وهو يروم بيع الحليب الطازج.
عشنا ظروف صعبة من لغة لا نألفها الى غرفة ليس فيها اسرّة ولا مقاعد فافترشنا ارضيتها، قضينا نهارات غير مألوفة من حر بغداد، الى ان ترحم في حالنا خالي بولص عندما كان يسكن منطقة السنك بجلب مروحة متهرئة، تخرج ضوضاء في حركتها، اكل عليها الدهر وشرب، لكننا عشقناها فاقتربنا منها جميعا للتمتع بالهواء الذي تحركه، قبل ذلك لم ارى مروحة كهربائية في حياتي لان القوش ببساطة لم تكن وصلتها الكهرباء حتى سنة 1968، وكم من مرة مديت اصابعي الى مروحتها فكانت تحدث جلبة فتأتي امي لتعاقبني ضربا. اما مشكلة الماء البارد فكان بيت داود سليمان بلو وزوجته الراحلة نعمي يزوداننا بالثلج من قوالب مربعة في ثلاجتهم المهيبة. وفي العصر صرنا نتابع التلفزيون الذي وضعه اقربائنا في حوش البيت لتسليتنا، لاول مرة في حياتي رأيت الشاشة الصغيرة، ولا زلت اتذكر افتتاح المحطة والبرنامج المسائي وافلام كارتون ثم نشرة الاخبار التي رايت فيها لاول مرة رئيس العراق عبد السلام عارف.
كنت فوق سطح البيت الذي انا نازل فيه اتمعن في نجوم السماء الجميلة في رصفها، في توهجها، في نظامها الدقيق، اضافة الى المناظر والاعلانات الضوئية في كل اتجاه وعلى الاسطح والعمارات العالية كم كانت الالوان المختلفة للاضوية والنيونات تبهرني انا القادم من بلدة الفوانيس والسُرُج والشموع، واعجبت ايضا بالباص( الامانة) خصوصا رقم( 4) الذي كان ينطلق من ساحة الاندلس الى ساحة الميدان، عبر شارع النضال وتونس والسعدون والرشيد، في شارع الرشيد كانت المخازن الراقية على طول الخط، وعلى الارصفة باعة المفرد من السكائر، والعلك، والحلويات، وحاجات رخيصة، وكتب قديمة، واغاني، وصور، ومغامرات بوليسية، وكنا نصادف ماء سبيل بارد، فنطفأ عطشنا من التجوال الطويل.
في الايام التالية صرت اكتشف تدريجيا العالم المحيط، فامشي مسافة ثم اعود واوسعها، لتشمل حديقة الاطفال التي تتجمع فيها عوائل المهاجرين من الشمال، كان بائعي المرطبات والباقلاء في مقدمة من نتقرب منهم، في تلك الحديقة المحاطة، بالياس والمياه الدائرة حولها بانتظام، وساحة النصر التي جلبت انتباهي فيها صيدلية الكندي وصيدلية قندلا، وكنيسة الارمن البيضاء الجميلة وامامها الممر ومن جانبيه الازهار والاشجار، حديقة الامة التي فيها بحيرة صغيرة يعوم فيها البط، وجسر صغير يعبره بخاصة الاطفال، ويرمون الشامية ليلتقطها البط، شارع السعدون والعبور الى الجانب الاخر حيث سينما السندباد، ومطعم نزار، واكسبريس فلسطين، ومحل عبد الكريم قنبر أغا للساعات، ومكتبة. في ساحة التحرير رايت تمثال السعدون، والمنصة التي كان الزعيم عبدالكريم قاسم يخطب من فوقها، في شارع الرشيد شاهدت معرض شركة فتاح باشا، وسينما الشعب، وروكسي، وسينما الخيام، كم كانت السينما تستهويني وقد اخذني خالي الى سينما الشعب يوما في المربعة، حيث شاهدت فلم عنترة بن شداد الذي بقيت سنوات اروي لاقراني مغامراته، وفي عام 1966 اقتنيت نسخة من كتاب عنترة الذي لازالت بلاغته واشعاره ترن في اذني. مرة تمشينا انا وصديقين ولاول مرة من البتاوين عبر جسر الجمهورية الى الصالحية، حيث شاهدت مبنى اذاعة الجمهورية العراقية، ثم وصلنا حتى مستشفى السكك. مرة اخرى بل قل مرات قطعنا شارع السعدون، عبر فندق بغداد، وسينما النصر، الى ساحة الجندي المجهول، فرايت النار المتوهجة والجندي الذي يقطع مسافة قصيرة تحت النصب، وهو يحمل بندقية او رشاش مركب عليها الحربة. لم تنته جولاتي الا بعد رجوعي من بغداد مع بدء العام الدراسي في القوش.
انطلقنا فجر يوم 19/ 4/ 2012 انا واخي فريد بسيارة شقت طريقها عبر الموصل، فتناولنا فطورنا الشهي في قضاء بيجي، ثم عند وصولنا مشارف بغداد صار تشدد غير مألوف سيما وقد عبرنا عشرات نقاط التفتيش بسهولة وقد كانت المنطقة من الغزلاني، حمام العليل، الشرقاط، والقيارة فيها حماية خاصة ملحوظة فكل مسافة قصيرة، ترى عسكريا يذرع او يقف بكامل اعداده التسليحي، في منطقة الطارمية تأخرنا اكثر نسبيا ولاول مرة سأل ضابط عن هويتي فرحب اجمل ترحيب، بعد قطعنا مسافة قصيرة استلمت سيدة القوشية شاركتنا السفرة، مكالمة من بغداد بان انفجارت تحصل الان في الطارمية وفي مناطق اخرى من بغداد، وكنا لم نسمع بها ولم تؤثر قيد شعرة على مزاجنا الرائق في سفرتنا تلك. اوصل السائق السيدة الالقوشية اولا ثم شق طريقه ونحن في شوق الى مرآى بغداد التي هي أم مدن الشرق قديما وحديثا ثم دخلت السيارة شارع يسمى( ابو الطيارة) في الدورة في وقت الظهيرة، فاستقبلنا الاهل بالاحضان ثم كانت المائدة بانتظارنا، وهي عامرة بمنوعات الاكلات البغدادية الطيبة. تكلمنا عن الاوضاع، فقالوا عنها جيدة، فقلت هل بالامكان التجوال لارى بغداد مرة اخرى بعد انقطاع طويل، وهكذا مع العصر خرجنا بسيارة الخال فعبرنا جسر ابو الطابقين الى الرصافة وعبر اماكن لا زالت ترن اجراسا في اذهاننا، عند تذكر ايامها الماضية، حتى وصلنا ساحة التحرير التي كان همّي الوصول اليها، فعهد خالي السيارة الى شرطي في محيط الساحة ليراقبها( خوفا من السرقة) استرخصنا مفرزة الشرطة هناك للقيام بالتصوير، وكان لنا ما اردنا ولكن للاسف كانت عاصفة هوجاء تمر في تلك الاثناء، فتحول لون الصور الى بعض الاصفرار الذي ترونه:
قبل عودتنا الى البيت زرنا مقرات الاحزاب الوطنية في ساحة الاندلس، وفي المساء جلسنا في الحديقة الامامية التي كانت تزداد اخضرارا كلما عمقنا النظر فيها، وقد لا تتصورون انهم يبقون الباب الخارجي مشرعا الى منتصف الليل، رغم طلبي المتكرر ايصاده. في اليوم الثاني المصادف الجمعة 19- 4 خرجنا صباحا انا وفريد اخي وخوالي د. عزيز وجمال في نزهة ومررنا حول ساحة الفردوس التي شاهدنا فيها قاعدة تمثال الدكتاتور المقبور، واسترعى انتباهنا كثافة الشرطة وهم يحملون العصي بايديهم، وعند وصولنا ساحة التحرير كانت حشود اخرى للشرطة عند نصب الفنان الخالد جواد سليم، ولم يذعنوا لسيارتنا حتى بالتوقف، ولذلك اضطررنا ان نتجه في شارع النضال المزدحم جدا بالمارة والسيارات، فاستدرنا عائدين الى ساحة الطيران حيث شاهدنا جدارية فائق حسن التي ما زالت تتحدى الفضاء، ومررنا امام كنيسة الارمن التي هي الاخرى محافظة على جمالها ورونقها وتصميمها الهندسي البديع منذ قرابة ستين عام.
تجولنا في شوارع البتاوين ووقفنا عند السوق حيث الوضع هنا مختلف، فالمنطقة متضررة وخالية تقريبا من سكانها المسيحيين، سواء في المحلات او المرور في العصاري في تلك الشوارع، التي كانوا يتميزون بملابسهم العصرية المتحررة التي تضاهي الدول المتقدمة، والسؤال هل ستعود ايام الستينات والسبعينات اليها؟ فاخبرها بما فعلته الدكتاتورية واكمله الارهاب الاعمى. في المكان الذي فيه الكهرمانة والاربعين حرامي، سمح لنا الشرطة الطيبين بالتصوير، فعبرنا محترزين من سيل السيارات الى النصب واخذنا راحتنا في التصوير، وكذا فعلنا على مشارف دجلة الخير، حيث وقفنا في منطقة جميلة جدا وامام نصب يقابل مبنى جريدة( طريق الشعب) هناك كانت تقابلنا من الجهة الاخرى لدجلتنا، المنطقة الخضراء وقبة القصر الجمهوري، الذي عاث فيه فسادا جزاري شعبنا قرابة اربعة عقود من الضيم.
نسيت ان اذكر اننا في الصباح وفي شارع ابو الطيارة، وقفنا امام محل للمزكوف، فاشترينا عدد من السمك النهري الفاخر، وحددنا موعد رجوعنا اليه في الظهر، وهكذا استلمنا وجبتنا الشهية. مررنا امام محل يحمل اسم بلدتي العريقة( القوش ) فنزلنا وسلمنا على صاحبه وقال هذا الاسم فقط بقي من كل بغداد، فصورنا معه وجلسنا قليلا نستمتع باحاديثه وبحبه لالقوش وفرحه بلقائنا، كان اسمه لؤي ايليا قلو المحترم، واود ان اذكر زيارتنا الخاطفة الى نادي بابل الكلداني الذي كان في السبعينات والثمانينات يعج بالناس من كل حدب بغداد وصوبها.
في المساء عبرنا عن اسفنا لعدم المرور امام حي المنصور فاصر الخال ان يصحبنا في سيارته اليه، وما ان دخلناه ليلاً حتى رأينا ما هو غير متوقع، من رقي الحي نفسه، فانا في حياتي لم ادخله، وتخيلت نفسي وكانني في عاصمة راقية من عواصم الدنيا، بمحلاته باضوائه بمطاعمه، ولاول مرة ارى اكثر من مطعم للبتزا، ورايت محلات الذهب التي تشع وتتوهج بكمية وتنوع وتصميم ما معروض فيها، ورأيت جمهوراً لا يعد ولا يحصى من الجنسين وبملابسهم حديثة الطراز، هل انا في حلم؟ أرْكنّا السيارة على الرصيف ورحنا نتجول بفرح غامر جهتي الشارع، وقد شرعت شركات تركية بتوسيع وتبليط جديد وارصفة رائعة لذلك المعلم البغدادي المعاصر، متى يا رب تصبح كل احياء بغداد مثل المنصور.
في اليوم الاخير لسفرتنا ذهبنا في الصباح الى دير الدورة، وتجولنا فيه وتكلمنا مع ساعوره وبعض المواطنين لكننا للاسف لم نلتق الكاهن المسؤول لانه كان يقوم بتعميذ عدد من اطفال الولادات الجديدة في بغداد الحبيبة. في النهار جهزنا انفسنا لحفل زواج ابن الخال خالد جمال اودو، وبعد الظهر تهيأ موكبنا للتحرك الى بيت العروس، هنا تطوع احد الجيران، وهو مسلم الديانة بسيارته، لنقل مجموعة منا كبادرة طيبة ومجانية نظرا لعلاقة الجيرة التي تربطهم، في مدينة الامين ونحن نزمع اخذ العروس الى الكنيسة إلتمَّ علينا الجيران من كلا الجنسين ومن الاطفال وهم مبهورون بأزيائنا العصرية، ربما كان منظرا لم يألفوه لفترة طويلة، ايضا كان وقع الدبكة في حوش البيت والاغاني التي رافقتها والهلاهل التي شقت ذلك الفضاء، ابلغ الاثر في المنطقة، ثم توجه موكب السيارات الطويل، وهو يطلق العنان لابواقه الرنانة.
في مراسم البوراخ في كنيسة مار يوسف بخربنده، التقيت الكثير من المعارف والاصدقاء، لم ارهم منذ ثلاثين سنة، وقد ابدع جوق الشمامسة من الشبان في اعطاء المناسبة رونقها وبهائها وقدسيتها. مع نهاية المراسم الرائعة تعالت الهلاهل والزغاريد فردت صداها ارجاء هيكل الرب، وغادرنا الى سياراتنا التي صارت تطلق صفاراتها بشكل متواصل. وصفى بنا المقام في نادي العرسات الذي ابتسم وابتهج بقدومنا، فدخلنا قاعته على انغام الزورنه والطبل، ثم توالت مراسم الحفل الرائعة واكتظ الاقارب والمدعوين الى القاعة وقد ميزنا عدد كبير منهم بعد الفراق المفروض، وانشدت شعرا برّد قلبي المتعطش لجمهور اكن له كل الاحترام والمحبة، وقد اجاد عريف الحفل الدكتور عزيز اودو القادم من بلد النرويج في تقديم فقرات الحفل، وكانا نجمي الحفل العروسان خالد اودو وريتا الريس في عرشهما الملوكي حيث مرّ من امامهم الجميع مهنئا ومتمنيا.
رجعنا في المساء واستعدنا لموعد مغادرتنا فجرا الى القوش عرين الاسود، وسهر اكثرنا حتى حلول موعد قدوم السيارة التي تقلنا، اودعنا اهل الدار الطيبين المضيفين، ومرقت سيارتنا بين نقاط التفتيش وشوارع بغداد التي كانت لا تزال تغفوا في نومها حتى وصولنا قضاء بيجي، وكالعادة استرحنا وتناولنا فطورنا الشهي. وبعد مغادرتنا بقليل خابرت ابن عمتي صباح شعيا عكيل في مصفى التاجي الذي يعمل فيه منذ اكثر من ثلاثين سنة، فلم تسنح الفرصة برؤيته لكننا حظينا بزيارة بيته الجميل في البلدة، فاستقبلتنا زوجته الطيبة نبيل عيسى ﭙولا وشرحت لنا اوضاعهم المستقرة ثم اودعناهم، وعدنا الى القوش بعد مرورنا في الموصل ومشاهدتنا عن كثب مدخلها الجنوبي التي عبثت به سنوات الارهاب فاحالته الى منظر ضاقت نفوسنا منه، نتمنى ان يتعافى ويعيد بهائه وامجاد وجمال ام الربيعين، موصل الحدباء، نينوى العظيمة، امّنا على مدى الدهور. قبل الوصول الى القوش بمسافة حتى قرية الشرفية كان الشارع مزدحماً بالسيارات التي تروم الوصول الى احتفال( شيرا) دير الربان هرمزد الذي اهتز واديه بمئات العوائل التي وصلت من ارجاء محافظتي دهوك ونينوى، كان ذلك في الثاني والعشرين من شهر الربيع نيسان الاغر في ربوع وطن ابائنا واجدادنا.
[email protected]