لا يتعلق الأمر باستراتيجية أميركية محددة للإطاحة بالأسد وإنما باستراتيجية متشعبة لتوسيع النفوذ في بقاع مختلفة من العالم بالاستناد إلى القدرات العسكرية الهائلة.
من أجل فهم أفضل للسياسة الأميركية الجديدة في سوريا، لا بد من تحديد الهدف الرئيسي للهجوم الصاروخي الأميركي على القاعدة الجوية السورية في الرابع من شهر أبريل الجاري، بعد استخدام نظام بشار الأسد للسلاح الكيميائي. هل كان الهجوم عبارة عن “رسالة عقابية” لمنع تكرار استخدام أسلحة محظورة دوليا، أم كان بمثابة إعلان عن سياسة تدخل جديدة في سوريا قد تشمل تغيير النظام السوري كما صرح بذلك وزير الخارجية الأميركي ريكس تريلسون في إحدى المرات؟
يبدو أن الضربة العسكري قد صممت لتكون “عقابية” على عمل محدد اقترفه النظام. غير أن الأحداث والتصريحات التي تلت تلك الضربة تشير إلى أن الإدارة الأميركية قد أعادت التفكير في الخيارات المطروحة في سوريا وبدأت ترسم سياسة جديدة نوعا ما. حتى الآن لا يبدو أن الهدف الرئيسي هو تغيير نظام بشار الأسد بصورة رئيسية، وإنما توسيع النفوذ السياسي والعسكري الأميركي في المنطقة خلال السنوات القادمة.
وتخضع لهذا الهدف الرئيسي مجموعة من الأهداف التكتيكية التي تشمل محاربة تنظيم الدولة الإسلامية، وتحجيم النفوذ الإيراني، وتغيير نظام الأسد أو إرساء حل سياسي يخدم بصورة ما التواجد الأميركي في المنطقة.
ويشكل ذلك انقلابا تاما على سياسة دونالد ترامب المعلنة في الحملة الانتخابية، حيث وضع قتال تنظيم الدولة الإسلامية على رأس أولوياته، وإذا به يقوم بعمل عسكري ضد النظام السوري ويتحدث عن ضرورة مواجهة “كل أشكال الإرهاب” وليس فقط إرهاب تنظيم داعش. بالتأكيد لم يكتشف دونالد ترامب فجأة إرهاب النظام السوري الذي تسبب في أكثر من تسعين بالمئة من الضحايا المدنيين، ولكنه اقتنع بإمكانية توظيف العداء للنظام السوري وتغييره إن استدعت الحاجة، في خدمة نفوذ أميركي طويل الأمد في الشرق الأوسط مضاد لنفوذ إيران وروسيا.
كما تشكل السياسة الجديدة انقلابا كبيرا على خطاب تنصيبه كرئيس للولايات المتحدة والذي حمل نزعة انعزالية واضحة. من خلال إطلاق شعار “أميركا أولا” أراد ترامب وضع مصالح بلاده في المقدمة وإزالة القيود التي تفرضها التحالفات العسكرية والاقتصادية مع دول العالم. وانطلق ذلك من افتراض خـاطئ تماما يعتقد أن الإدارات السابقة كانت تقوم بتحالفات اقتصادية وبأعمال عسكرية متهورة لا تراعي المصالح الأميركية بقدر ما تراعي قيود “القيم العالمية” المتعلقة بحقوق الإنسان والتعاون السياسي والاقتصادي.
الواقع الذي كان سائدا أن تحالفات أميركا والأعمال العسكرية كانت عنصرا رئيسيا في استراتيجيتها للهيمنة العالمية وخصوصا بعد تراجع اقتصادها خلال العقود الثلاثة الماضية. أدرك ترامب ذلك بعد أشهر قليلة فقط من وجوده في السلطة مثلما أدرك أمورا عديدة أخرى تتعلق بتوازنات القوى داخل النظام السياسي الأميركي. هكذا وجد الرئيس الجديد أن السياسة التوسعية الأميركية على المستويات الدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والثقافية، والتي شهدت نزعة انكفاء في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، تعتبر أساسية لتحقيق شعاره “أميركا أولا”.
قبل أيام أعطى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الجيش سلطة تحديد مستويات القوات في العراق وسوريا في مؤشر واضح على التحضير لاحتمالات انتهاج سياسة عسكرية توسعية في البلدين. يتزامن ذلك مع تطور الموقف السياسي للولايات المتحدة ولحلفائها من نظام بشار الأسد الذي بات محل تشكيك.
فبعد تصريحات الإدارة الأميركية بضرورة انتهاء “حكم عائلة الأسد”، صرح وزيـر الخارجية البريطـاني بوريس جونسون بأن بريطانيا مستعدة لمساعدة الولايات المتحدة الأميركية في أي ضربة عسكرية قادمة قد تقرر توجيهها للنظام السـوري في حـال استخدام أسلحـة كيميائية. في نفس اليوم تقريبا صـرح وزير الخـارجية السعودي عادل الجبير من قلب موسكو بضرورة تنحي الأسد، وسبقه قبل يومين الرئيس التركي رجب طيب أروغان، المتمتع بصلاحيات جديدة استثنائية، بتصريحات تصب في نفس السياق. وأخيرا، تزايدت الضربات الإسرائيلية الجوية على سوريا منذ تولي دونالد ترامب للرئاسة وآخرها ضربة قوية قرب مطار دمشق الدولي.
بعد أشهر من التصريحات المتعايشة مع حقيقة بقاء نظام بشار الأسد، تعتبر تلك التصريحات والأفعال الجديدة أحد المؤشرات على وجود سياسة تصعيد في سوريا والمنطقة.
وكما أشرت سابقا، لا يعني التصعيد أن الهدف هو إزالة نظام الأسد، إذ يدرك الجميع مدى تعقيد تلك المهمة اليوم أكثر من أي وقت مضى. يبقى الهدف اليوم هو تشديد الضغوط على النظام السوري وحلفائه ورفض تقديم تنازلات سياسية مباشرة، فضلا عن أهمية ربط التصريحات السياسية بالتوسع العسكري الذي تخطط له الولايات المتحدة.
ما يؤكد عدم وضع مسألة تغيير النظام على طاولة البحث هو غياب الحديث التقليدي عن تقديم “دعم نوعي” للمعارضة السورية. كان ذلك الحديث يرافق التصعيد السياسي ضد الأسد في عهد باراك أوباما دون أن يجد طريقه للتنفيذ بطبيعة الحال على مدى السنوات الست الماضية وهو ما أفقده أي أهمية.
بالنسبة إلى أميركا، لا يتعلق الأمر باستراتيجية محددة للإطاحة بالأسد وإنما باستراتيجية متشعبة لتوسيع النفوذ السياسي في بقاع مختلفة من العالم بالاستناد إلى القدرات العسكرية الهائلة. ويأتي في هذا السياق استخدام أكبر قنبلة في أفغانستان، وإرسال ثلاث حاملات للطائرات إلى سواحل شبه الجزيرة الكورية، والضربة العسكرية في سوريا، والاستعداد للقيام بالمزيد من الضربات وإرسال المزيد من القوات.
نقلا عن العرب