السماء تشغّل مراوحها الضخمة بقوة، والريح تمشّط شعر الأشجار، وقنديل الزقاق يبهت ويومض وينطفئ مثل رفسة أخيرة على دكة مذبح.
لا أعرف اسم الروائيّ الذي قيلَ إنّ بمستطاعه كتابةَ عشرين صفحة، وهو جالس في شرفته يراقب بقلق كبير دجاجة جميلة وهي تعبر الشارع. أظنُّ أنّ الأمر له صلة بالتفاصيل الجميلة التي لا تشكّل عبئا فنيا على النصّ وتثلم جمالياته بالزائد والفائض المملّ.
من رحمة هذه الدربونة التأويلية المذهلة، سأسهر فوق كرسيّ راسخ بشرفتي الصغيرة، وأرقبُ الزقاق صاحيا متحمسا مثل حارس ليليّ شال صدرُهُ سبعين نوط شجاعة.
سأصف الزقاق بأنه مظلمٌ، وأنّ القنديل الشائخ المزروع في منتصفه قد لا يؤدي وظيفته المنتظرة، وأنّ الوغد المتكئ على حائط منسيّ عند حاوية الزبل، ربما هو من صنف الكائن المريض في رائعة ديستوفيسكي “الجريمة والعقاب” وقد تكون وجهة مسدسه قبل أذان الفجر بساعة هو رأس أم غايب، تلك العجوز الوحيدة التي ليس بمقدورك أن تحبها لعشرة أسباب، منها لون شعرها المستل من لون روث البقر البائت، وصوتها الذي يشبه صوت سيارة الزيل التي كانت تنقل القصعة والرسائل إلى الجنود المتروكين في الأرض الحرام.
بيني وبين هذا الكائن القلق مسافة رمية عصا، أو سعلة تائهة مصنوعة برئة مدخّن عتيق، لكنني لم أتمكن من رؤية ملامح وجهه إلّا بعد أن أشعل لفافة تبغ، فبدا المشهد مثل فانوس مصلوب على جدار بعيد. أراه ولا يراني وأحبه ولا يحبني، لكنني في كلّ حال لا أتمنى له أن يقتل تلك العجوز الوحيدة التي صارت قطعة لذيذة من أثاث الزقاق القصير.
شيئا فشيئا تتكامل أدوات الجريمة. السماء تشغّل مراوحها الضخمة بقوة، والريح تمشّط شعر الأشجار، وقنديل الزقاق يبهت ويومض وينطفئ مثل رفسة أخيرة على دكة مذبح، والشاب الطويل يوجّه نظراته صوب بيت العجوز المستوحشة، وجسدي التالف تكاد تأكله سهام نظرية الاحتمالات. قبل نهاية القصة بكمشة أسطر، خلعتُ من رأسي الدائخ فكرة مهاتفة شرطة النجدة، وزرعت مكانها مقترح هبوطي إلى الشارع وبيميني كيس القمامة اليومي.
على باب الحاوية وجدت نفسي وحيدا خائفا، وقلبي يطبل بقوة عشرة أعراس.
الشاب ذو الجاكيت الأملح الطويل قد اختفى من المكان، وقنديل العمود بدأ يومض من جديد. قطة المزبلة تلعق شاربيها وتنظر إليّ بامتنان عظيم، لكنّ كيسي لم يكن يحمل سوى كسرات من خبز يابس غير معطر بالزفر.
نقلا عن العرب