الخطاب هو الرسائل المباشرة التي تقدمها جهة ما الى الجمهور، من خلال تأكيدها على جانب معين ، من حيث الأسس والمبادئ والرؤى لما يجب ان يكون عليه المستقبل من وجهة نظرها ، وابراز ما لها من فضل يفتقر اليه الآخرون في متبنياتهم وفكرهم وكل طروحاتهم ومشاريعهم ، وبهذا فنحن نكون امام صراع الخطابات ، الذي يؤدي الى حالة من التعصب الشديد لمتبنى الجهة التي ينتمي اليها الأفراد ، ومحاولة احتكار القيم العليا لهذا التيار او ذاك ، وإنكارها على الآخرين مستشهدين على ذلك بمجموعة من الأحداث والمواقف والسلوكيات التي تدعم هذا التوجه ، ويتسم صراع الخطابات بميزة الوجود والعدم ، اي نحن الملائكة وهم الشياطين ، لان انتفاء هذه المعادلة سيعني ان الاخر هو الملاك ونحن نمثل الشيطان ، فلا يتقبل كلا الطرفين ان للاثنين ايجابيات وبنفس الوقت هنالك سلبيات ، وخلال هذا الصراع يقوم كل طرف من اطراف الصراع بإرسال رسائل ضمنية الى جمهوره وجمهور الخصم سواء بصورة واعية مخطط لها ، او بصورة لا إرادية عفوية ، وكل هذه الرسائل الضمنية إنما يكون تأثيرها أعمق واكبر أثراً في الأفراد من الرسائل المباشرة والصريحة
نستنتج من خلال قراءة للشارع العراقي ان هنالك خطابان رئيسان على الساحة العراقية ، لا يعني انه لا يوجد هنالك خطابات اخرى تختلف عنهما ، وانما تم التركيز على خطابين رئيسيين كونهما يعتبران ابرز الأمثلة على صراع الخطابات التي تجري على الساحة
الخطاب الاول وهو ما يطلق عليه بخطاب التيارات المدنية ، وتجدر الإشارة الى ان المدنية ليست شعار بقدر ما هي سلوك يجري على ارض الواقع ، يعتمد على الحوار وقبول الاخر والإيمان بالتعددية الدينية والثقافية والسياسية ، حيث يقوم بطرح نفسه كخيار او رد فعل تجاه عسكرة المجتمع ، وسيطرة المتدينين على المجتمع ( كما يُزعم ) ، ويدعوا لإقامة حكومة مدنية قائمة على فصل الدين عن الحياة ليكون مكانه دور العبادة فقط ، واباحة الحريات بشكل مطلق من دون اي قيد او شرط ، والغاء جميع القيود والمحددات والاعراف والتقاليد العشائرية والدينية ، واعتماد مبدأ المساوات وتحرر المرأة من كل القيود والمحددات الدينية ، ومن مساوئ هذا الخطاب انه يؤدي الى الانحلال الخلقي واستغلال النساء تحت يافطة تحرير المرأة ، وانه اصبح ملاذاً آمناً لاتباع النظام البعثي كونه يوفر لهم نفس الأجواء الرافضة للدين واغلب القيادات الشيعية ، ومن خلال بعض الحوارات التي اجريت مع العديد من المعتنقين لهذا التوجه تستشف منهم ان مشكلتهم ليست مع المتدينين ، وانما هم يعانون من عقدة الدين الذي يمنعهم من ممارسة الكثير من الانحرافات وبالتالي فهم لا يستطيعون ان يعلنوا انهم ضد الدين في وسط ذو صبغة دينية ، لانهم سينبذون خصوصاً وهم مبتعدين عن ساحات الدفاع عن الوطن ضد الارهاب واعتى هجمة بربرية عرفها العالم ، ويكتفون بمظاهر الثقافة والجلسات في المقاهي ، وانتقاد هذا وذاك من دون ان نرى لهم اي تواجد حقيقي يثبت وطنيتهم في الدفاع عن وطنهم غير الشعارات وانتقاد المدافعين
اما الخطاب الثاني هو الخطاب الاسلامي الذي تنتهجه العديد من التيارات ذات المتبنيات الاسلامية ، او التي تدعي الاسلامية ، وتجدر الإشارة الى ان ليس كل من ادعى الاسلامية هو يمثل الاسلام ، لان الاسلام أيضاً وقبل كل شيء هو سلوك ، وان الاسلام هو دين المدنية الحقيقية ، القائم على تقبل الآخرين واقرار التعددية منذ ١٤٠٠ عام ، ولكن الجهات التي تسوق نفسها بهذا الخطاب دائماً ما تركز على الجانب العسكري ، وهذا الامر في جانب إيجابي وآخر سلبي في نفس الوقت ، الجانب الايجابي هو تصديها للتطرف والارهاب في ساحات القتال ، وهو ما يدعوها الى التركيز على الجوانب العسكرية في جميع فعالياتها وخطاباتها ، اما الجانب السلبي وهي تسوق نفسها كضد نوعي للخطاب الاول فهي تختزل الاسلام بالجوانب العسكرية وتقدم خدمة كبيرة لكل من يريد الانتقاص منها او تخويف المجتمع منها ، وبالتالي أصباغ حتى الجانب المدني بالصبغة العسكرية هو خطأ استراتيجي لا يغتفر ، لان الشباب يميل الى الحياة المدنية والأجواء التي يوفرها الخطاب الاول وان استهوى بعض مظاهر الخطاب الثاني في بعض الأحيان ، وهذا الخطاب يبعث الكثير من الرسائل الضمنية التي تؤيد ان التيارات الاسلامية لا تملك اي خطاب مدني معتدل بعيد عن الفاظ القوة والعسكرة ، وبالتالي فهي تزرع في عقول الجماهير هذه القناعة التي سيكون من الصعب تغييرها بعد انتهاء المعركة ، مما سيطالبهم الجمهور بالابتعاد عن الساحة كون المعركة قد انتهت ، ولم يعد هنالك من داعٍ للغة القوة والسلاح
هنالك تيارات إسلامية فصلت بين الجانب العسكري والجانب المدني فضلاً رائعاً ، حتى اذا رأيت الجانب العسكري لديها حسبتها على الخطاب الثاني ، بينما لو اطلعت على ممارساتها المدنية وخطابها المدني فإنك حتماً ستجعلها من صنف الخطاب الاول ، وهذه التيارات هي التيارات التي تحمل المتبنى الاسلامي الحقيقي القائم على أساس التعامل وفق التحديات وعدم تعميم سلوك يتناسب مع ظرف على جميع ممارساتها ، فهي تيارات حكيمة تعرف كيف تسوق نفسها بما يتلائم مع فلسفة الصراع القائمة بين الخطابات .