23 ديسمبر، 2024 9:37 م

لوري سفترخان … رحلة الشطرة قبل جائحة الكوليرا

لوري سفترخان … رحلة الشطرة قبل جائحة الكوليرا

الى الشهيد الملك فيصل الثاني…اعتذر عن العار الذي الحقه قومي بانفسهم.

( اذا ضيعتم اليهود والغجر والصابئة والنصارى ستقعون ببعضكم البعض بالخناجر وتعجزون وقتها عن تحريك الفدن وحمل المساحي والمناجل ، ستفقدون خبز الحنطة ورز العنبر، في بحثكم عن الخبز ستفقدون الماء وفي بحثكم عن الماء سيضيع عليكم الهواء، ستجدون شفاه نساءكم مغمسة برمل الصحراء ، ستغرقون بالتراب لكن وقتها ستكون عندكم فلوسا كثيرة لاتوفر لكم نسمة هواء وبيوتا مثل القصور لاتوفر لكم لحظة امان، ستقولون ان سفترخان قالها من قبل ان المدن التي تخاف من الجمال والالوان والرقص والموسيقى وتضطهد الغجر وتنظر الى الحب على انه خطيئة ولاتزرع الورد ستكون حياتها اشد من الجحيم)

…………………………………………………………………………………………………………………

شطرة…شطرة…شطرة…كان سفترخان يحث سكان قرى الغموكة على اللحاق بحافلته الخشبية وهو يعرف في سره ان احدا لن ياتي خلفه ليجمعهم لان رحلته الصباحية هي الوحيدة للذهاب وعودته المسائية هي رحلة الاياب.
كان طريقه يتلوى مثل شريان وسط حقول العنبر،يبدء من اليشن محاذيا نهر الغراف ثم يبتعد عنه مخترقا سلسلة قرى متناحرة ومتحالفة متباغضة ومتحابة على صلح او في حالة قتال.
كان لوري سفترخان وركابه وسائقه خارج أي نزاع ضمن اتفاق غير مكتوب لكنه مطبق ونافذ على جميع القبائل.
حمل لوري سفترخان العرائس الى الحجر الطينية المزينة بصناديق خشب الابنوس والساج والمناضد المنجدة برسومات فاقعة الالوان ووسائد الصوف واواني العرس النحاسية والمجامر والمباخر ، تعلو جدرانها صور ملحمية لمعركة الطف ، يفوح منها بخور اوراق وردة الروز الاحمروالعود الهندي ،تلتقط يد العريس الراحة المصبوغة بنبتة الحناء ينفردان وخلف الابواب تتجمع النساء للفوز بالخبر الاكثر دموية في التاريخ الانساني ،عيب الخلقة في فض المكتوب الالهي للانثى بغير يد العريس
 يرسلها الى حافات الخناجر اما الرجل فامامه وقت اخر للانتصار.

 اخدها…اخذها…اخذها …زغاريد تكسر صمت الليالي المضاءة بالفوانيس معلنة فحولة كانت تعيش رعب الخوف من الفشل وانوثة مسكونة بشرف معلق على رقعة من الغشاء الرقيق قيمته الشرف او الوضاعة العز او الذل السعادة او الجحيم الموت او الحياة.

انا… يعلن لوري سفترخان مكمن اسراركم ،كم تكسرت على اضلاعي الخشبية انات الحالمات بتجاوز ليلة الجحيم الاولى عبر قطرات الدم الاسطوري المخزون  لليلة واحدة لرجل واحد لهلهولة واحدة او المراق قبل اوانه ليستدر خناجر بعدد مسامات الجسد،  حجرة العرس في ريف الغموكة تفتح على ظلام المجهول، كلبة اقبروها هنا لن تستحق ان تذهب الى النجف.

نسجت الشطرة وقراها حياة غامضة لسفترخان ، تداولت المضائف والمقاهي حكاية صوفية عن تحولاته تقول انه احد ابناء الخانات الهنود الاثرياء تقطعت به السبل مع شاحنته في برية العراق فتوسل الى الله بالانبياء والرسل والاوصياء والصالحين فلم يعطى سؤله حتى توسل بباب الحضرة  فزارمقام الولي وتقلبت به الاحوال  الى ان وجد نفسه ذات ليلة وقد اسري به الى الشطرة  فاستقر بها سائقا لاول حافلة نقل عرفتها الناس.

رغم شهرته كان سكنه غامضا وحياته اكثر غموضا لم يعرف أي احد علاقاته الاسرية لكن شهادات مصدرها المزاح تتحدث عن ذهابه لتجمعات الغجر تحت ستار الظلام وتناقضها اخرى انه كان يذهب الى سيد احمد الرفاعي ، وبالقدرة الالهية نجت سمعته  من أي لطخات مع ان اعدادا كبيرة من الفتيان عملوا تحت امرته كمساعدين اصبحوا فيما بعد سواقا محترفين تخلو سجلاتهم من كونهم ضحايا في مدينة يتلذذ سكانها بالتنابز ويتعرض فيها الاطفال الى الاستغلال الجنسي من قبل اصحاب الصنائع حيث عمل الاطفال في سن مبكرة امر لايستفز النظام الاخلاقي للمدينة.

يمد راسه من النافذه في رحلة الصباح مناديا ،يله  يله  يله،ا لحقوا  الحقوا  الحقوا ، شطرة  شطرة  شطرة يحثهم وهو لايامل ان يزيدوا ولايخاف ان ينقصوا ، يدرك انهم تهيؤا من الامس لرحلة اليوم ،اغتسلوا بالماء الاحمرالقادم من اعالي الجبال لاتثنيهم الترب الغرينية عن التحمم دفعا لصفاقة اهل المدينة الذين يتهمونهم بانهم قرويين وسخين ، واخرجوا العباءات واليشاميغ من بطون صناديق الابنوس ووضعوها تحت الوسائد لتسوى،  حفظوا قائمة المشتريات ووضعوا النقود في الاكياس الصغيرة وشدوا افواهها ، وقبل النوم ودعوا من لايصحو الفجر،تنتظرهم حمولة اكياس الحبوب وعكك الدهن واقفاص الطيور والسمك المجفف والبلح والماشية.

كان سفترخان يعرف العشائر وتفرعاتها وزعمائها وابطالها كما يعرف شوارع الشطرة واهلها وكان يعرف انه ليس له اي عشيرة لكن لم يخطر بباله ولو لمرة واحدة انه بحاجة لعشيرة ،ورغم قوتهم وضعفه الا انه الوحيد الذي كان يستطيع ان يصيح بالرجال دون ان يخشى فتكهم ،لغته فيها كلمات قد تشعل حربا بين القبائل لو كان قائلها غيره لكن لم يرد على لسانه أي شئ يشير للجنس فهذا نهاية الاشياء.

عندما يشعر احدهم ان سفترخان تجاوز حدود المسموح يقول… يله ايش نسوي هذا سفترخان ،ويكاد ان يكون هو الوحيد الذي لايخشاه الرجال على نسائهم فهو يرفع الاثقال ويضعها فوق رؤوسهن وياخذ بيد البعض منهن لينزلهن ويصعد العاجزات وهو الذي يمزح معهن بحضور الرجال دون ان يخاف على رئتيه من نصل خنجر.

في ازمنة الموت كان يتنحى جانبا وفي طرف فمه لفافة تبغ ،يقف عند نهاية الحافلة وعندما تنتهي العراضه يصدر توجيهاته غير القابلة للنقاش… انت في الارض …هذا وهذا على السلم…  انتم فوق…  الان ارفعوا الجنازة… يتم عمله دون ان يابه للصرخات …شدوا الحبال… انزلوا…  اين الدفانه ؟

تهرول القرية وراء لوري سفتر خان ينطلق وسط سحابة الغبار وسرعان ما يتصاغر كنجم يتجه الى حافة الكون الاخرى.

 في الطريق الى الشطرة كان سفترخان يتامل حقول العنبرعلى يسار الطريق وتلتمع الى اليمين امواج الغراف منافسه في نقل المسافرين ، حمل الغراف الينا الانكليز والهولنديين والالمان، كانوا يلتقطون الصور للمشاحيف وشباك الصيد والمساحي ووجوه الرجال ، صوروا النخيل وحقول العنبر واشجار الغرب وسلاحف الغراف،صوروا الاكواخ واحواش الطين ، صوروا المضائف وعراضات الاعراس وهوسات الموت والمعارك ، صوروا اطفالنا وهم ينشون الذباب عن انوفهم ، صوروا نسائنا وهن يعالجن روث الحيوانات ليكون حطبا لكانون الثاني وشباط وبردة العجوز القطبية

كانوا يخيمون على بعد اميال من المحطة الاخيرة للوري سفترخان في قلب الغموكة ، ينهضون من الفجر لحفر اليشن، تتحول لقاهم الى حكايات في المضائف ، يستخرجون الاصنام ويلفونها بالقطن ويودعونها صناديقا خشبية بيضاء يحرصون على رفعها وانزالها بعناية، كانوا لايخالطون يكتفون برفع قبعاتهم للرد على تحياتنا كنا نحاول ان نظهر لهم دماثة اخلاقنا الوطنية ، كان هدير محركات الزوارق البخارية يسمرنا على الشواطئ ، كنا نضغط على ذاكرتنا لاستحضار عبارة التحية … هلو مستر.

حكينا لسفترخان عن اليشن انها ارض عصت الله فقلبها باهلها ، قليلون ذهبوا لالتقاط الخرز والمكاحل والمسكوكات، كانت العجائز تقول انها ارض مسكونة بالجن والطناطل ، كنا ندفن الاطفال في الهباة  ويعود الرجال مسرعين خوفا من مس الجن ، كانوا يجدون اخاديدا عميقة حفرها الاجانب ومداخل بيوت واسس ابنية وفخارا متناثرا وفيروز والات حادة واواني .

حمل الينا الغراف شيوخ الدين من النجف وعاد بهم محملين بالنذور والهبات اكراما لهم على ماتم العزاء،كانوا يدخلوننا في سورات من البكاء والنواح ليلا وفي الصباح يجلسون في المضائف برصانة ووقار يردون على اسئلتنا عن الحلال والحرام،كانت ملابسهم بيضاء تفوح منها العطور وكانت لحاهم مشذبة بعناية وكانت اطرافهم نظيفة وناعمة واصواتهم خفيضة.

كنا نسكب على ايديهم وارجلهم الماء ونقبل ايديهم كلما لقيناهم ،كنا نعدهم من كواكب اخرى وعوالم محجوبة لاننظر بعيونهم ولانرد على كلامهم ونصغي لمايقولون ونحفظه ونردده كتراتيل تحل لنا عقد النقاش للانتصار على الاخرين.

كان ركاب سفترخان نحن يخضنا بحافلته مثل اللبن تصعد امعائنا الى افواهنا قبل ان نصل الى الشطرة نتكدس فوق بعضنا على مستطيلين متقابلين من الخشب  وعلى ارضية اللوري يجلس الاصغر سنا تاركين المقاعد للكبار والى جانب سفترخان يجلس السيد او احد شيوخ العشائر.

لم يتدخل سفترخان بالاحاديث التي تشغل القرى ويتحاشى الخوض في عراك العشائر مع بعضها وكان يقول لمن يريد ان يقحمه في اي جدل… شوف اللوري مقبط  يو لا.
كان يشعر بحركة الفصول وتبدل المواسم ،حدس ان اسماك الغراف التي تلقي بنفسها على الشواطئ لكثرتها ستشح وتقل وتختفي ، وتنهد بلا حصر وهو يتامل حقول العنبر الممتدة بين الشطرة والغموكة      ودفع الجميع للسخرية منه عندما قال ياتي زمان ستركضون وراء الهور فلا تلحقوه ستركض عوينة بسرعة اللوري.

كانت عوينة بحيرة من الزنابق وغابة من القصب والبردي بنهاياته الصفراء الناعمة ورائحته المثيرة ، كان الجاموس يتشمس ونصفه غاطس في الماء تلتقط طيور البرهان الديدان الصغيرة من جسمه ،تقول الاسطورة ان الجاموس يعرف امه .

كان نقيق ذكور الضفادع يفتح شهية الاناث فتعوم نحو الذكور في مغامرة محفوفة بموت محتمل بعضة غادرة من افعى .
كان دجاج الماء يتقافز مثل قلوب الاطفال الخائفة من المعلم ينتصب امامها البرهان بسكون وهيبة ممزوجة ببلاهة الغافل عن خراطيش الرصاص.

كنا لانتصور عالما بعد عوينة ، لكن في المساء تبهرنا اضواء الدواية فنتامل عالمها الضاج وشوارعها المملوءة بالناس ودكاكينها الخرافية وعندما نقارنها بالشطرة نشعر اننا بحاجة الى خيال اوسع لاحتواء المصابيح والشوارع والحدائق والمقاهي والمطاعم ودار السينما والناس والبيوت والسماء.
 
تترك عجلات لوري سفترخان اخاديدا واسعة يسلكها خلفه الجمالون وهم ينقلون حاصلات رز العنبر والحنطة والشعير والماش والدخن والبلح من قرى الغموكة الى الشطرة وعندما بدات الحكومة برصف طريقه تطير سفترخان وقال… لوري يجر لوري ولوري يجر بطيخ… راح نشوف ايش يصير والله ما اشوف باجر الا مثل هذا الزفت ثم يردد شطرا من بيت شعر شعبي عرف به وكانت القرى تحكيه عنه

ياترف روحي عليك يوم ارده من يوم…

يطوي الغجر خيامهم في عتمة الليل وينسلون قبل ان تفيق قرى الغموكة التي تنقلوا بينها،طوحت الخصور في الهواء المعطر بالعنبر ،وتناثرشعر الغجريات كما السبوس نثره مذرى بوجه الريح،تلوت الايدي كسعف النخيل وانحنى القوام كخيزرانة الشيخ الى الارض ليقذف بالنهدين النافرين كمثابات الحدود بين ارض الغموكة الى السماء ،رقص الغجر حد التعرق وفحطوا وبعثوا ليونة الحياة بعروق القرى المتصلبة ،جلسن الغجريات في حضن المفتونين بانكسارات الجسد لكن لم تقفز استطالاتهم الجسدية خارج الحشمة.

ياتي الغجر ويرحلون دون ان يدري احد من اين والى اين، يقول سفترخان ناس نروح لهم للونسه وبعدين نكول عنهم كاولية صدك احنه مانستحي ،كانت له سحنة الغجر ودقة عظامهم لكنه مثل مردي ، لايكشف طوله ونحافته عن اختلال في بنيته  ،تغرق عيناه في ذهول دائم وشفتاه تبدوان منقوعتان بالمرارة.

لايتذكر احد ان سفترخان شارك في طقوس العنف ، كانت الشطرة تبدو كحلبة لصراع الديكة الشابة ، يقلب الاشقياء ياقات دشاديشهم ويرفعون اكمامها الى مافوق الزند ، يتمايلون مثل سفن الغراف الصغيرة لكنهم يتحاشون الاصطدام بالنساء والاطفال والشيوخ ، يتناطحون كثيران  مصابة بنوبة شبق ربيعي ويتبادلون اللكمات على الوجوه ، يستخدمون السكاكين بخفة لخدش الجلد ولايرفعون الحجارة ضد خصومهم لانها سلاح الجبناء .

تتدلى الارجل من ارائك المقاهي تأتي بحركات ايقاعية نافضة قلق الرجال من خوف وصمة العار او الجبن او الوضاعة او من الحركات الطائشة ، تعدل الايدي العقل فوق الرؤوس وتلفع الجسد بالعباءات وترفع اقداح الشاي بحركات مسرحية نحو شفاه تحاول اطفاء حرارة الشاي بزفير خفيف.

تعرف المقاهي سفترخان ويصيح به الرجال لتناول الشاي ، يلوح شاكرا ويمضي  مثل سهم نحو مقهى دلي استعدادا لرحلة الاياب.

تقول الاسطورة ان الله انزل مع ادم ثلاث النخلة وحواء والشطرة ، كانت الشطرة كغجرية طاهرة تستحم بمياة الغراف ، جدائلها نخيل البرحي وعيونها هور عوينة والدواية لكن الغواية جائتها ليس من الشيطان وانما من انبياء كذبوا على الاله.
تتحلق النسوة مثل سوار حول حديقتها الوسطية يعرضن بيض الديناصورات والاوز البري وقمح الجنة وجبن القصائب وعكك الدهن ولحاء شجرة الجوز العجائبي ديرم الشفاه المغمس بماء الحياة،وفي اقفاص الجريد تضئ عيون عصافير الشتاء البرية ،يكورن في الصرر الصوفية نباتات الترياق والخشخاش لتكون نشوقا وخلفهن تتدلى من على الاشجار اسماك الشبوط والبني والقطان المجففة قبل اختفائها من انهارنا حيث تقول الاسطورة ان ملك الشطرة غضب على حبيبته فسحرها سمكة ثم سلط عليها دودة تسمى دودة الزعيم اكلت كل بيوض الاسماك.

في شرق المدينة يبكر الرجال لشراء الماشية من الفلاحين ،كانوا يقسمون بالاولياء لتعديل الاسعار ، يظلون يماكسون ويماكسون ويحلفون حتى يخرج الزبد من جوانب افواههم الى ان يعقدوا الصفقة ، يعد الفلاحون نقودهم مرات ومرات يظلون ممسكين بها في حيرة يعدونها باذهانهم ثم يدسونها بجيوبهم فوق القلب ويصالبون ايديهم فوقها .

يعرف الفلاحون النشالين من حركاتهم فيتجنبونهم لكن يقع البعض ضحايا فيصبحون حديث المدينة ومرات عدة تدخل سفترخان لارجاع المال المسروق او قام بجمع مبلغ ما من المارة واصحاب الدكاكين وهو يردد… والله عيب عليكم اهل الشطرة مو هذا ابن عشاير.

العتالون هم الاكثر سخاء في هذه المواقف حتى ان الشطرة نفسها تضرب المثل بهم وتقول غيرة عربنجية.

عندما يحل شهر رمضان يدخل العربنجية في نمط اخلاقي منضبط لايفحشون ويقلون من ضرب حميرهم واحصنتهم ويتقاضون اجورا معتدلة ويمتنعون عن شراء أي شئ من سكاربيل ابو العرق.

.
كان البدو يرون وهم يتغوطون على ضفتي نهر الشطرة ثم يدلون ادواتهم الطويلة ويضربونها مرات متتالية بالماء كما لو كانت اسماكا ، كانت النسوة يشحن بوجوههن بينما يشير الرجال باصابعهم قائلين …هاك شوف هذا الملعون الوالدين ايش يسوي ، لكن احدا لم يتصور ان يكون هناك فعلا اشنع من ان تكون للمدينة دارا لقضاء الحاجة، تعليقا على هذه العورة الوطنية المستديمة قال سفترخان ذات مرة ان جميع الامم جاءت للتغوط في ارضنا لكنها لحسن الحظ لم تجد مرحاضا.

يطفح نهر الشطرة في الربيع ويركض كحصان وسط حقول العشب مبدلا منظر شاطئه وفي سماءه تحلق نوارس العالم الغامض للجنة تاتي وترحل مثل الغجر.

يصيح سفترخان بالصبية الذين يرمون النوارس بالمقاليع الصغيرة  ولك ايش تحصل من تكسر جناح الطيور .                                                       
تبدو الشطرة للسماء اجمل من صورتها في اذهان الفلاحين ، كانوا يلقون برؤوسهم المتعبة بعد يوم حصاد للعنبر على وسائد الصوف يتاملون صفحة السماء المرصعة بالنجوم مثل وشم الحبر الصيني على ارداف نساء الغموكة حالمين برحلة ولو لمرة واحدة بالعمر في لوري سفترخان الى الشطرة.

عسكرعلى تخوم الشطرة جيش الفتح محولا ارض السواد بستانا لقريش ولم تظهر بعد ذلك في التاريخ الا مع عدنان بن ناصر الاشقر، بنى الاب الناصرية وبنى الابن الشطرة التي سماها على اسمه لكنها تفلتت من تسمية العدنانية كما لو كانت سمكة شبوط انزلقت من يد صياد فصارت الشطرة ، وقيل انها سميت بذلك لان النهر ينصفها نصفين فيما يبالغ البعض في رد الاسم الى كلمة شطارو اي فعل الكتابة باللغة الاكادية.

 التاريخ السري المحفوظ بصناديق الساج المرصعة بالفضة الهندية عند الشيوخ المعتكفين بالاضرحة الصوفية يقول ان بناء المدينة تم بالاسم الاعظم ،ساخرا الى حد القيء من التاريخ الرسمي الذي يزور شهادات الميلاد للنهود كي تنضج قبل موسمها وتقطف فجة كما ثمار التين على شاطيء الغراف.

تقول رقم طينية دمرت بعد الفتح ان المدينة كانت عاصمة سرجون الاكدي وانها كانت مركز العالم القديم ويعطي شيوخ طاعنين بالسن صدقية للتقولات بالاشارة الى منخفض من الاوحال تقول الاساطير انه حلبة صراع كلكامش مع الوحوش.

تتحلق الشطرة حول سوقها واليه تودي جميع طرقها ، بني السوق على شكل نجم البحر يختص كل شارع فيه بصناعة ،سوق الفواكه وسوق التتنجيه وسوق العبايجية وسوق الصفارين وسوق القماشين وسوق الذهب وسوق التمارين ، وفرد المعمار سوقا للجزارين يتوسط السوق الكبير.

يتلألأ الرطب تحت ضوء الفوانيس المدلاة وسط دكاكين باعة التمر ويهش الحلويون الذباب عن حلوياتهم بمذبات من سعف النخيل منادين …زلابية وبقلاوة كيمر…دهن حر ياولد …زلابية وبقلاوة كيمر …وين اللي يحب الزين ياولد….

الشويثي يارطب …برحي يارطب …نبيع ولا يبات ياولد …حابسي ياولد …

تتقاطر العباءات على السوق تخفي مفاتن الجسد الاسمر بلون الحنطة وتفتح نافذة للعينين واحيانا الوجه واصابع موشومة بالحناء تجمع العباءة على الصدر …زلابية ياولد …هذا قيمرياولد… يغلف النداء على السلع غزلا صوفيا لايلبد خلف الشهوة فالرجال يفضلون الموت على الامساك بهم من التلابيب في عركة تصجيم.
وحده سفترخان يتامل وجوه النساء خارج عالم الرجل والمراة ، اه ماذا لو قفزت نهرا فض بكارتها ،اه ياللخناجر ، ياللهواء المحبوس في الرئتين .

تجلس النسوة قبالة دوخي الصفار،يتصاعد من الدكان دخان القصدير بينما يدير هو القدر ليطلي نحاسه بالمادة السحرية التي تعيده مثل حليب الجاموس.

هيه …انتي ام عصابة تعالي اخذي قدرك يله خلصنه …ياخذ الاجرة يقبلها ويضعها على جبهته … يافتاح يارزاق يا كريم …ربي لاتخلي قدر سالم بالغموكة خصوصا قدور الشيوخ … اللهي عدى قدور الطبخ للحسين … يدوي سوق الصفارين بضحكات نحاسية تدوم حتى رحيل دوخي من الدكان … الله وياك خوية دوخي سلمنة على ام البيت.

يعرف سفترخان حيل دوخي فينصح النساء بالجلوس امام دكانه حتى ينتهي من طلي القدر النحاسي بالقصديرويعرف دوخي ان القدور التي تاتية مرفقة بتوصيات من سفترخان الا انه يبقي معه حبل التحية وكلما لقاه قال له… ايش يعجبك قول والله ماكو قدر يطاول سنة…لكنه مستعد للقسم بالقران انه لم ياخذ اجرا في حياته دون ان يكون قد اتقن عمله وهو يعلل ما يجري بالقول ان سفترخان وسواسي اكثر من صاحب السلعة.

كان الغش في زمان سفترخان كالنصيحة في زمننا لكن ايضا هناك صرر يمكن ان تمتد لها يد النشالين ولولا العسس ربما سرقت بعض رؤوس الماشية التي ترعى قشور البطيخ الاحمر طول الليل في شوارعنا المضاءة بفوانيس اباطرة الصين.

يتمدد العسس على ارائك الخيزران والجريد يلفون التبغ بورق البافرة وبين لفافة واخرى ينفخون في صفاراتهم النحاسية المدلاة بجيوب معاطفهم الطويلة بازرارها الذهبية وشارات فرسان القبائل الجرمانية … مشوف …مشوف … مشوف ….لكنهم لايرون احدا حقا بل يقولون فقط ان في المدينة عسس.

يخترق خيالة الشرطة شوارع المدينة بمهاميزهم وركائبهم وسروجهم المطعمة بالنحاس تحمحم خيولهم ويصل حديد لجامها، تضرب الارض بحوافرها بثبات وفرسانها منتصبون كالرماح الردينية.

ايها الرئيس ترجل اشرب الشاي لكن رئيس العرفاء يرد بحزم  يله امشي ويانه انت مطلوب للقانون.
يتقابل سراي الشرطة مع مكتب الخدمات البريدية وهما الى جانب المسجد الجامع يقعان في المدخل الشمالي لسوق المدينة ،كان جمعة البوسطجي يثير الاعجاب بطاقيته المثلثة الشبيهة بطاقية بونابرت.

كانت الرسائل تستلم بطقوس خاصة ، يوضبها جمعة البوسطجي باتقان وعندما يصل الى اصحابها يحاورهم قبل تسليمها سائلا اياهم مااذا كانوا ينتظرون رسائلا من احد وعندما يريد تسليمها يخرجها من الخرج بهدوء قائلا شوفوا خو مامعقجه ولا صاير بها شي …لكنه ابدا لم يقل لاحد طيلة ايام خدمته بان الرسالة لم تفتح لانه لم يدر بخلده يوما ان يتم فتح رسالة من قبل غير اصحابها.

تفترش المدينة ضفتي الشط و وحذاءه يمتد شارع الصابئة جهة الشرق وفي الجهة الغربية منه يقع شارع القصر.
يطلب الفلاحون من سفترخان ان يصف لهم القصر فيقول اذا راد الرجل ان ينظر الى علوه عليه ان يضع يده على عقاله كي لايقع الى الارض، كان شاهقا امام الاكواخ الا ان سفترخان يعني مايقول فهو مرتفع حقا واعلى نقطة فيه الشرفة التي خاطبنا منها الملك.

تخضب النسوة قصر الحاج خزعل بالحناء ويعلقن الرايات الخضراء على سوره الحديدي المدبب ويطلبن منه ان يساعدهن على الحمل بالذكور او تعديل اخلاق الازواج والتشفع لهن عند الله ان لاتاتي عليهن ضرائر ويساررنه في الدعاء بالشر على حمواتهن.

سفترخان يبتسم ويغطي وجهه بيده ويمررها الى نهاية ذقنه ويكتفي بالقول  ذولة شبيهم هاي شلون ناس والله عجيبة.
جاء خبر وباء الكوليرا الى الشطرة في نفس يوم وصول خبر الثورة ومقتل الملك…
كان السكان يسمون هذه الجائحة ابو زوعة بسبب مايصاحبها من قيء وعادة مايكون سفترخان بحكم كونه قد اتصل بالعالم الخارجي مصدرا للمعلومات لذلك وقفت المدينة امامه مشدوهة وهو جالس على اريكة مقهى ال كلهام…
سفتر…ثورة
سفتر…اجانه ابو زوعة
سفتر…قتل الملك
سفتر…يقولون ان العائلة المالكة رشت بالرصاص بكاملها وسط الشارع.
سفتر…يقولون ان الوصي على العرش علق مثل الذبيحة وقصبه احد الاشخاص ووزع لحمه على الجمهور.
كانت الاخبار السيئة تلقى على مسامعة  بما يشبه نواح الجنيات وقت الغروب على شواطئ الغراف.

الجملة الوحيدة التي نطقها سفترخان وتلقاها سكان الشطرة على محمل الجد وعاملوها كانها نصا سماويا يستحق سماعه بوقار وسكينة هي…
 
ان الامم التي تقتل ملوكها ستندم…وتعاقب…وتتعذب…وتفقد كرامتها.

تقدمت الكوليرا والثورة تتسابقان نحو الشطرة واغرقتاها بالجثث وضاع خبر سفترخان… فقط شاحنته الخشبية بقيت متوقفة في العراء كضريح على طريق الغموكة وفشلت كل محاولات الطبقات المتنورة في حمل بلدية المدينة على تصنيفها كسكراب مقدس.
…………………………………………………………………………………………………..
الاسماء الواردة غرض قصصي لا تعود لاشخاص من الواقع والتشابه نتاج الصدفة.