18 نوفمبر، 2024 3:12 ص
Search
Close this search box.

مقهى وروّاد ومدينة : ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!

مقهى وروّاد ومدينة : ذاكرة المكان ونستولوجيا التاريخ!

• هذه فرشة أولية ستخضع لبعض التعديلات والتدقيقات والمراجعات قبل دفعها إلى الطبع، وهي مادة مفتوحة كتبت بناء على طلب الصديقين ذياب مهدي آل غلام وعبد الجبار رضا عبد ننه.

لماذا نحاول استعادة التاريخ؟ هل ثمة وساوس إزاء حاضرنا؟ أم أننا نحاول الوصل بدلاً من الفصل، وقد نريد استحضار التاريخ أحياناً كنوع من الحنين أو النستولوجيا، لأننا لا نريد له أن يمضي أو يغادرنا، خصوصاً إذا سكن الذاكرة واستطيب المقام فيها، لكن حلقات التاريخ ووقائعه، سواءً ابتعدت أو اقتربت، وعرة كانت أم سالكة، الاّ أنها متراكبة ومتواصلة، وهكذا يصبح التاريخ تاريخاً ووقائعه وأحداثه متصلة، حتى وإن تعثّرت أو غابت في منعرجات حادة.
قد يكون في جزء من هذه الارتجاعية للاستغراق في الماضي، هو رغبة مبطّنة أو مستترة لتعويض الحاضر أو التشبث ببعض بقايا أمل، حتى وإن كان “حلماً” لا يمكن إعادته أو “سراباً” لا يمكن الوصول إليه، لاسيما في أن يغدو الماضي حاضراً أو حتى مستقبلاً، لأن التاريخ عصيٌ وما مرّ قد انقضى، وحتى إذا نظرنا إليه بغير عين ناقدة ومنقّبة، فالتاريخ سيكون مراوغاً على حدّ تعبير هيغل.
التاريخ لا يعيد نفسه، فهو مثل نهر متدفق، والنهر لا يعاكس مجراه، وحسب مثل صيني قديم “لا يمكنك أن تسبح بماء النهر مرتين”، لأن مياهه جارية، وكل قطرة قد سارت باتجاه المصب، وكما يقول الشاعر مظفر النواب” يظل النهر لمجراه أميناً”.
النهر يتدفق من حيث ينبع ولا يعود إلى الوراء، تماماً مثل التاريخ، لا يعود إلى الخلف. قد نستطيع نحن أن ننظر إلى ما تركناه من وقائع وما مرّ بنا من أحداث، ونستعيدها في ذاكرتنا، لكننا لا نتمكن أن نعيشها فعلياً، أي ميدانياً وعلى الأرض كما يقال، لا زمانياً ولا حتى مكانياً لو رغبنا، وإذا حصل أن كرّرنا التجربة، فحسب ماركس، فإن إعادة التاريخ إنْ حصلت فستكون في المرّة الأولى كمأساة وفي المرّة الثانية كملهاة.
إذاً ما نريده من التاريخ ليس إعادته لأن ذلك مستحيلاً، بل هو إعادة القراءة واستذكاره واستحضاره كنقد، بما له وما عليه، لاسيما تجاربه وخبره ودروسه وعِبَره، فالماضي أصبح ماضياً ولا يمكن إعادته، حتى وإن اختزنت الذاكرة أدق التفاصيل وأجمل الأحداث وأحلى اللحظات، لكن هذه جميعها أصبحت ذكريات، دون أن ننسى أخطاءنا وإخفاقاتنا، ولكن ماذا بعد الذاكرة سيبقى؟
إنها الحياة وشجرتها الخضراء، أما النظرية فهي رمادية وفقاً للشاعر الألماني غوته. فهل لنا أن نراوغ التاريخ؟ وإذا حاولنا فهل نستطيع؟ ثم ما هي جدوى ذلك، سواءً أثبتنا أو أنكرنا الوقائع والأحداث، لكن التاريخ أصبح تاريخاً، والحاضر سيكون تاريخاً لاحقاً. إذاً ليس هناك ضرورة للمداهنة أو المكر، لأن الحاضر واقع حال، بكل ثقله وبؤسه أحياناً، والتاريخ أصبح تاريخاً بكل اشراقه وغروبه وخيره وشرّه، لكن استقرار الحال من المحال، وتلك عِبْرة التاريخ التي لا يمكن مراوغتها، أو الزوغان عنها.
قد تبدو العودة إلى التاريخ وكأنها نوع من التعالي على الواقع أو حتى الانشغال بغير تعقيداته بكل ما تمثّله مجريات الحياة من سرعة وحيرة وحتى التباس. وقد يحسبها بعضهم وكأنها نوع من “البطر” الفكري والرفاهية الثقافية، أو الاسترخاء النظري، فالتاريخ حسب هؤلاء أصبح ماضياً حتى وإن احتفظت به ذاكرة هذا وذاك وإنْ تعدّدت رواياته، لاسيما باختلاف زاوية النظر، أو أنه في أحسن الأحوال فهو موجود في بطون الكتب أو أدراج بعض المكتبات، نقرأه أو نستمع إليه مثل حكاية فيها من المخيال الشيء الكثير وهو ما يدخل عليه، لاسيما في محاولة إلتقاط الأحداث والتفاصيل الصغيرة وربطها بعضها ببعض وصولاً للدلالة، فقد تلقي عليها قراءتنا الجديدة شيء من عندياتنا أو تأويلاتنا، كل حسب فهمه وحسب تجربته وحسب رؤيته، بما فيها ما يختلط مع مرور الأيام، أو يشتبك مع غيرها، من الأحداث والوقائع لدرجة الالتباس أحياناً.
لكن التاريخ عرض للروح أيضاً، وأن ماهية هذه الروح هي الحرية، لأن للتاريخ معنى وغاية، وهذه المرّة استناداً إلى هيغل أيضاً! ثم أن مسار التاريخ هو عبارة عن حلقات متتابعة تمثّل درجات مختلفة من الوعي بالحرية، وحسب ماركس فإن في بحثنا عن التاريخ، إنما نريد منه تأكيد انتقال الانسان من مملكة الضرورة إلى مملكة الحرية، حيث عمل رواد بأسمائهم وذواتهم بوعي أو دونه، لكي نصل إلى هذه المملكة التي هي بلا ضفاف، أخفقنا أم أصبنا، لكننا حاولنا!؟
*  *  *
حينما نشر الاستاذ ذياب مهدي آل غلام مقالة أولى عن مقهى عبد ننه، طلب منّي حفيد الحاج عبد ننه الصديق الاستاذ عبد الجبار رضا عبد ننه (العلي) أن أدلو بدلوي في هذا المضمار وهو ما عاد وأكّده الأستاذ ذياب آل غلام لاحقاً في رسالة مستقلة، لاسيما والمقهى الشهير يشكل معْلماً من معالم النجف لا يمكن للزائر الاّ التعرّف عليه، فضلاً عن أبناء النجف، خصوصاً وهو في صدر ميدان مدنية النجف، المركز الأساسي للقضاء، ثم للمحافظة لاحقاً، حيث مركز شرطة النجف المعروف بخان الهنود، الذي كان مكاناً لاستقبال الزوار الهنود من الطائفة الإسماعيلية ” البهرة”، ثم أصبح لاحقاً المركز الأساسي لشرطة وأمن النجف، واستقبل عشرات، بل مئات من المعتقلين على مدى تاريخه، لاسيما بعد انقلاب شباط (فبراير) الدموي العام 1963 ، حيث اكتظّ بالمعتقلين، حتى فاض، ونقل عدد منهم إلى أماكن أخرى قبل أن يتم نقلهم إلى سرداب المعتقل الجديد بقاعتيه الرئيستين.
يتربّع مقهى عبد ننه في القلب من ميدان النجف، المعروف باسم ” ساحة الميدان” أو “باب الولاية” كما يطلق عليه شعبياً، وهو بجوار السوق الكبير الذي تتوزع أحياء المدينة الأربعة حوله: البراق والمشراق والحويش والعمارة قبل أن يصبح هناك حي جديد باسم ” الجديدة” وحي آخر عصري باسم “حي السعد”، ثم أحياء أخرى.
كانت حياة النجفيين تدور حول السوق الكبير، الشريان الحيوي للمدينة، فرأسه عند باب الولاية ونهايته تصب في صحن الإمام علي حيث مرقده الطاهر، ويقيس النجفيون القرب والبعد مسافة ومكانة، بالقرب والبعد من السوق وبالتالي من الصحن العلوي و”الروضة الحيدرية”.
وكان الفتى قد فتح عينيه وهو في قلب السوق وبجوار حضرة الإمام علي في محلة العمارة وفي عكَد السلام، كما روى أكثر من مرّة، وخصوصاً في كرّاس كان قد أصدره في العام 1994 بعنوان ” بعيداً عن أعين الرقيب: محطات بين الثقافة والسياسة”، فمحل جدّه ووالده لبيع الأقمشة كانا هناك حتى قبل أن يولد، ثم انتقل والده لبضع سنوات إلى دورة الصحن، وعاد إلى السوق الكبير الذي يشكّل ذاكرة مكانية للفتى، تظلّ راسخةً مهما تعدّدت الأماكن وزواياها وجغرافيتها.
فشرق السوق تقع محلة البراق، وفي غربه وامتداداً  إلى المقبرة تقع محلة المشراق المتواصلة مع جنوبه محلة العمارة، وهاتان المحلتان تحتضنان المقبرة الشهيرة ” مقبرة الغري” أكبر مقبرة في العالم ويُنقل إليها منذ قرون، عشرات بل مئات الجنائز يومياً من أنحاء العراق كافة، إلى بعض الأقطار العربية والأجنبية، وذلك ” للتبرّك” بالدفن قرب مرقد الإمام علي وتربة النجف البلورية. وتمتد المقبرة إلى غربه الشمالي حيث طريق كربلاء. وجنوب غرب السوق تقع محلة الحويش.
أما شمال المدينة فهو الطريق المؤدي إلى الكوفة، حيث نهر الفرات، الذي لا يبعد عن المدينة أكثر من 10 كيلومترات أو أقل من ذلك، وغرب هذا الطريق اتجاه أبو صخير والمشخاب (الفيصلية سابقاً والسوّارية لاحقاً الذي كان الفتى يزورهما كثيراً عندما كان عمه عبد الأمير شعبان طبيباً فيهما لعدّة سنوات) وطريق الشامية- الديوانية، وهو طريق تاريخي لحضارة الحيرة- المناذرة الزاهرة، التي عرفت قصر الخورنق والسدير والنعمان بن المنذر وشقائقه الشهيرة التي اشتهرت بها وأحبها كثيراً حتى أسميت “شقائق النعمان”. وطريق الكوفة يوصل إلى الحلّة مروراً بالكفل حيث طريق بغداد.
* * *
كان الصديقان آل غلام وعبد ننه (العلي) قد حرّضا الفتى للكتابة، وهو الذي ليس بحاجة إلى تحريض، لاسيما وقد جعل النجف حاضرة في كتاباته، سواءً شخصياتها الفكرية والأدبية والسياسية، ابتداءً من الجواهري الكبير ومروراً بالشخصية الوطنية البارزة سعد صالح وصولاً إلى المفكر الاسلامي السيد محمد باقر الصدر والشاعر مصطفى جمال الدين والشاعر أحمد الصافي النجفي والشاعر عبد الأمير الحصيري والشاعرين الشعبيين عبد الحسين أبو شبع وعباس ناجي وآخرين، تعريجاً على المجالس الثقافية والأدبية والدينية بما فيها المناسبات والأجواء المرافقة لها، فضلاً عن الحياة الاجتماعية الغنّية وبعض الرموز اليسارية.
فالنجف على الرغم من طابعها المحافظ، إلاّ أنها كانت مدينة منفتحة ومتفتحة وهي مدينة مفتوحة على كل جديد، للزوار والأفكار والكتب والأقوام والسلالات واللغات والجنسيات، حيث تستقبل الجميع بتقدير واعتزاز، بل تتقبلهم بروح رياضية، وهي وإنْ وضعت مسافة لتاكيد عروبتها، لكنها تعيد صهر الجميع في المجتمع النجفي ليكون له نكهة نجفية مميزة، وظلّت النجف محافظة على هذا التراث وتلك ميزتها العامة، بما فيها حوزتها العلمية التي حاولت أن تجدد نفسها وأن تنفض الكسل والتلقين عن كاهلها على الرغم من محاولات الكبح والقيود الكثيرة، وتتجه صوب رحاب الفكر المفتوح، منذ أن جاءها الإمام الطوسي قبل نحو ألف عام، واكتسبت النجف مناعة مع مرور الوقت وعاديات الزمن، وأصبحت مدينة تزخر بالعلم والأدب والفقه واللغة والشعر والفلسفة، مثلما تزخر بالتمرد والرفض والعناد والكبرياء والنقاء، وذلك هو تاريخها على أية حال.
لعل إحدى مزايا النجف أنها مدينة لا تعرف الطائفية، لأنها من لون واحد وليس هناك من يبعث على أن تكون طائفية أو منافسة لأحد، لاسيما وهي مفتوحة للزوار وتتعامل مع الغرباء كحقل مفتوح، وكأنها تسعى لاجتذابهم، لا تفكّر في أن يكونوا مسلمين أو غير مسلمين، شيعة أم سنّة، عرباً أم من قوميات أخرى، وتلك سمات المدن الواثقة من نفسها، ولاسيما المدن الساحلية أو التجارية أو ذات المكانة العلمية والأدبية، حيث تكون مدناً مفتوحة، يمكنها قبول الآخر، بل والتعاطي معه من موقعه المستقل، وهي تشعر أن الآخر يكمّلها، ولعل جزء من ذلك يفسّر كثرة معارف النجفيين أينما ذهبوا وأينما حلّوا، وذلك لإيمانهم أن علاقاتهم مع الآخر، إنما هي تكاملية وتفاعلية، حتى أن بعض المسؤولين الحكوميين أو الحزبيين بما فيهم أيام العمل السرّي كانوا يكرّمون في النجف.
يكفي أن نشير إلى أن أحد أهم جوامع النجف اسمه جامع الهندي، و إلى جامع آخر بناه أتراك إيران، سمّي جامع الترك، وأن يهودياً واحداً عاش في النجف، فسمّي الزقاق الذي سكن فيه “عكَد اليهودي”، وسبق وأن أشرت إلى “خان الهنود”، وقد كانت النجف تستقبل للدراسة في جامعتها الشهيرة أو للعيش أو حتى للموت قرب الإمام علي المئات سنوياً من إيران وباكستان والهند وأفغانستان وتركيا ومن بلدان آسيا الوسطى والصين (التيبت) والبلدان العربية، لاسيما من سوريا ولبنان والمملكة العربية السعودية والبحرين والكويت وغيرها.
وقد ذكر السيد صاحب الحكيم للفتى أن الرفيق جمال الحيدري كان قد زار النجف في أواسط الخمسينيات، ولأن النجفيين يعتزون بالإمام علي، ويعتبرون مرقده امتيازاً لهم، فإنهم يرغبون أن يُطلعوا من يزور النجف على المرقد وما فيه من تحف، وقد نظمت زيارة خاصة (سرّية) للحيدري بعد أن ارتدى “الكشيدة” للتنكر وهو لباس يختص به خدم الروضة الحيدرية في الغالب، حيث دخل الحضرة الحيدرية وطاف فيها وكان بحماية خاصة وعن بُعد.
وذكر لي شبيب المالكي وزير العدل الأسبق أنه عندما كان محافظاً للواء كربلاء وكان يزور قضاء النجف ويلتقي بشخصياتها وعلمائها وأدبائها، كان يشعر أنه في بيت أهله وبين ناسه، لا يهّم في ذلك اختلاف التوجهات، ولعله يحتفظ بقصص مثيرة روى بعضها لكاتب السطور، حبذا لو سنحت ظروفه لكي يدوّنها، لما لها من قيمة سسيوثقافية ومثل وقيم وأبعاد إنسانية.
* * *
ولعل زيارة المفكر اللبناني المسيحي المغترب أمين الريحاني إلى النجف واحتفائها به في العام 1922 دليل مهم على انفتاح المجتمع النجفي وتطلّع نُخَبِه  إلى التواصل مع الآخر، وإن كان الأمر لا يخلو من بعض المفارقات، التي يمكن ذكرها، لما يتصل بفكرة الموضوع وعلاقته السسيوثقافية بذاكرة المكان.
أربع مفارقات استحضرها الفتى، فيما يتعلق بزيارة أمين الريحاني، المثقف والمفكر الحداثي، الإشكالي إلى النجف، وهو يعدّ بحثاً قدّمه إلى مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع جامعة استرالية:
المفارقة الأولى؛ وصفه المثير للنجف بأنها ” أعظم مدينة في العالم” ليس بجمال بيوتها وزخارفها، ولكن برجالها …، ويتذكر النجفيون وربما بشيء من المفاخرة وصف الريحاني لمدينتهم، ويتناقلوه جيلاً بعد جيل، على الرغم من انشقاق الشارع النجفي بخصوص زيارته بين مرحّب بل ومتحمس، لاسيما من النخبة الفكرية والسياسية والدينية وخصوصاً علماء الدين، وبين معارض، من بعض أوساط العامة وهو ما أطلق عليهم الشيخ علي كاشف الغطاء العالم الديني المجدد ” الغوغاء والدهماء”، يومها كتب الشاعر محمد مهدي الجواهري إعترافاً بالجميل لزيارة الريحاني قصيدته النونية بتلك الزيارة الأثيرة، حيث جاء في مطلعها:
أرضُ العراق سَعَتْ لها لبنان        فتصافح الإنجيل والقرآن
وتطلّعت لك دجلةٌ فتضاربت  فكأنما بعبابها الهيمان
أأمين إن سُرَّ العراق فبعدما  أبكى ربوعَ كولمبس الهجران
لك بالعراق عن الشآم تصبر  وبأهله عن أهلها سُلوان
لو تستطيع دنت إليك مُدلّةً  فتزودت من رُدنك الأردان
وقبل وصوله إلى النجف إلتقى الريحاني في كربلاء العلاّمة الشيخ علي كاشف الغطاء وولده العلاّمة الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء فاحتفيا به أشدّ الإحتفاء، وكان ذلك يوم عاشوراء (العاشر من محرّم، يوم شهد معركة الطف الشهيرة واستشهد فيها الحسين بن علي بن أبي طالب، العام 61 هـ) حيث كانت تسيّر المواكب الحسينية التي شاهدها الريحاني وقام بتصويرها، وقد جرت مطارحات علمية وثقافية بين الريحاني والكثير من العلماء أبدى فيها هؤلاء إعجابهم لسعة علمه وحرية أفكاره، وقد إلتقى في النجف في أحد السراديب (الأقبية) الشيخ محمد رضا الشبيبي والشيخ محمد السماوي والشيخ جواد الجزائري، وغيرهم وقد أهدى الشبيبي مخطوطاً قديماً جداً للريحاني وهو ” كتائب المثالب” لابن الكلبي وهو من نوادر المخطوطات العربية. ومن النجف توجّه الريحاني إلى الحلة ثم إلى بغداد.
 المفارقة الثانية؛ إنفعال الجواهري وموقفه المندّد بالريحاني الذي لم يكن الفتى قد إطّلع عليه قبل ذلك ولكنه فوجئ في مطلع الثمانينيات عندما كنت أجري حواراً معه، وهو الذي نشر قسماً منه في كتابه “الجواهري- جدل الشعر والحياة”، وإذا بالجواهري يكيل التهم الواحدة بعد الأخرى ضد الريحاني، ولعل سبب الانقلاب في الموقف: من الاحتفاء إلى الازدراء، يعود إلى انحياز الريحاني إلى ساطع الحصري في خلافه مع الجواهري بشأن موضوع الجنسية، وهو ما رواه الجواهري مفصّلاً في كتابه ” ذكرياتي”.
 وكان الريحاني قد أصدر كتاباً عن العراق بعنوان” قلب العراق” غمز فيه إلى الجواهري، بكونه فارسي المولد ويكتب الشعر العربي، في إشارة إلى الفتنة الطائفية، التي اندلعت عند تعيين الجواهري بوظيفة معلم العام 1926، ثم فصله بعد نحو شهر بحجة عدم امتلاكه الجنسية العراقية، وقيل بسبب تغزّله بالمصايف الإيرانية خلال زيارته لطهران في مطلع العشرينيات، فما كان من الملك فيصل الأول إلاّ أن يعيّنه في تشريفات البلاط الملكي العام 1927، وأداً للفتنة، وهي التي نجمت عن خلاف حادٍ بين وزير المعارف عبد المهدي المنتفجي ومدير المعارف المفكر التربوي ساطع الحصري، واضع مناهج الدراسة العراقية،لاسيما ” القراءة الخلدونية”. وقد اندلعت ذيول الفتنة لاحقاً إثر نشر كتاب أنيس النصولي المدرّس اللبناني الجنسية في العراق، الموسوم  ” تاريخ الدولة الأموية” خصوصاً وقد استغلّها بعض من أراد إلقاء المزيد من الزيت فوق النار المشتعلة كي لا تنطفئ.
وقد بيّت الجواهري غيظه فانتهز قدوم أمين الريحاني إلى العراق لتغطية أحداث ما بعد انقلاب بكر صدقي العام 1936، فنشر مقالة انفعالية مُدوّية بعنوان ” جاسوس خطير في أوتيل تايكرس بالاس”  ويروي الجواهري ذلك المشهد، على النحو التالي:
“… وكان القلم في يدي في الليلة التي حلّ فيها أمين الريحاني بهذا الفندق، عندما إتصلت به هاتفياً ليلاً لأقول له بالحرف الواحد: مرحباً أستاذ أمين، هل تعرف من يكلّمك؟ إنه الرجل الذي ولد في إيران، فارسياً ينظم الشعر، وطبعاً بالفارسية، إنه محمد مهدي الجواهري” .
ولعل تبرير الجواهري باتهام الريحاني، كونه يكتب عن الملوك وينتقل في المحافل والمجالس، ويطلع حدّ التخمة على الأسرار والدفائن والكوامن، ويذهب أكثر من ذلك حين يُريد أن يدلّل على صحة ما ذهب إليه بكون جنسيته أمريكية، إضافة إلى ما نُشر عنه من وثائق في الصحافة الكويتية عن علاقته بالأوساط البريطانية والأمريكية حتى أنه ينتقد رغيب الطبّاع، الذي كتب كتاباً عن أمين الريحاني، بعنوان صقر الجزيرة، لموالاته للعائلة السعودية، وهو ما كتبه في مذكراته الصادرة في العام 1988. وقد اطّلع الفتى مؤخراً على ملف خصصته مجلة الهلال المصرية (شباط/فبراير) 2006 وردت فيه اتهامات خطيرة لأمين الريحاني ” بالعمالة” للأمريكيين.
المفارقة الثالثة: ما كتبه الشيخ محمد رضا الشبيبي الذي استمرت علاقته إيجابية مع الريحاني، بل إن تقييمه له ظلّ هكذا حتى بعد وفاته. فقد كتب الشبيبي مقدمة جديدة لكتاب “قلب العراق” امتدح فيها الكاتب والكتاب بقوله: إنّه من أمتع ما اطّلع عليه من كتب الريحاني.
وقد كانت مفارقة الجواهري كبيرة عندما عرف، وهو في المنفى في دمشق العام 1957، أن مقدمة الشبيبي قد صدرت. ويعزو الجواهري صدور المقدمة إلى كونه كان غائباً عن الساحة، وإلاّ كيف يتجرّأ الشبيبي على مدح خصمه بتلك المقدمة البائسة كما يُطلق عليها، ويقول عندما نشرت مقالتي ضدّ الريحاني، أثيرت ضجة في بغداد، اضطرّ على أثرها الريحاني إلى مغادرتها، وحسبما يروي الجواهري: فما كان منه في اليوم الثاني إلاّ أن يطوي أوراقه ويرزم حقائبه ويرحل، وعندما سأله الفتى أيستحق الأمر كلّ ذلك حتى بعد مرور نحو ستة عقود من الزمان، فهزّ رأسه بالإيجاب.
ولعله يعني الجرح الذي ظلّ فاغراً على الرغم من مرور عقود من الزمان، وهو الذي يتعلق بمشكلته مع الحصري بخصوص موضوع الجنسية الذي لم يبرأ منه ولم يهدأ له بال، كلما جرى الحديث عنه أو  كلما استذكره ، لاسيما وأن أعداء الجواهري غالباً ما استثمروه للتنديد به أو الغمز من قناته، باعتبار أصوله إيرانية، وهو الذي خدم اللغة العربية والأمة العربية من خلال إبداعه أكثر من أي أحد آخر، وطيلة نحو ثمانية عقود من الزمان.
المفارقة الرابعة هو استمرار تأثير الريحاني على عدد من علماء النجف، ففي تلك الزيارة الأثيرة ترك انطباعات متنوعة وفيها الكثير من الاعجاب، ولعل أهمها ما كتبه العلاّمة علي كاشف الغطاء بحق الريحاني كتابيه: المراجعات الريحانية (وهي مجلدان) والثاني نقد كتاب ملوك العرب لأمين الريحاني وهو ما رواه البروفسور عبدالاله الصائغ في مقالته بعنوان” كاشف الغطاء- مرجعية حضارية” .
جدير بالذكر أن كاشف الغطاء عرف بسعة عمله وانفتاحه ومن أشهر مواقفه ، هو موقفه من القدس الشريف وذلك خلال انعقاد المؤتمر الاسلامي المنعقد في العام 1931 وأطروحته الشهيرة بهذا الشأن حيث اقترح على علماء المسلمين (شيعة وسنّة) اتخاذ قرار بتجميد الحج إلى مكة مؤقتاً والتوجه إلى زيارة القدس بدلاً من مكة، وذلك بهدف إغلاق الباب أمام المخطط الصهيوني، لاسيما بعد ثورة البراق العام 1929 ومنع الصهيونية من محاولات زيادة الهجرة إلى القدس بهدف تهويدها، وذلك عن طريق القضم التدريجي.
واستمرّ كاشف الغطاء الابن محمد حسين في هذا التوجّه. وقد كان نشرْ الكتاب الشهير “المثل العليا في الاسلام لا في بحمدون” العام 1954 مساهمة جليلة في إجلاء صورة الاسلام الحقيقي، حيث استخف كاشف الغطاء بدعاة عقد مؤتمر أصدقاء الشرق الأوسط ( في بحمدون لبنان) الذي كان يستهدف حسبما جاء في الدعوة إلى مؤتمر” مكافحة الأفكار المادية” وإثبات عقم فلسفتها، متنبّهاً بارتياب إلى حقيقة الجهات التي تقف خلف تلك الدعوة المشبوهة.
* * *
 كان الزوّار القادمون من شتى أنحاء العراق ومن خارجه لزيارة النجف ومرقد الامام علي، أول ما يقع عليه بصرهم وهم يدخلون إلى سوقها الكبير مقهى عبد ننه الذي يشمخ على يساره، وكان ذلك منذ أواخر عشرينيات القرن الماضي، أي أن المقهى بدأت بعد تأسيس الدولة العراقية ببضعة أعوام، وهي بكل المعايير جزء من ذاكرة المكان، إضافة إلى ذاكرة الزمان، من حيث جلاّسها ومريديها، فضلاً عن نكهتها المتميّزة، وخصوصاً منذ الحرب العالمية الثانية حيث كانت ملتقىً يومياً للأخبار والحوار والرأي في زمن لم يكن فيه التلفزيون والانترنت ووسائل الاتصال الحديثة قد وجدت طريقها إلى العالم.
وكانت الأربعينيات محطة خاصة، لاسيما يوم انخرط الشاب رضا عبد ننه ابن صاحب المقهى في النضال، فأضفى على المكان  أهمية أخرى وتدريجياً أصبح، بحق أحد أعمدة النجف، الذين لا يمكن لمن يريد أن يدوّن أو يكتب أو يؤرخ لليسار النجفي، الاشتراكي، الشيوعي، دون أن يمرّ على اسم رضا عبد ننه ورفاقه اللامعين، كما لا يمكن لمن يريد أن يدوّن الذاكرة الزمانية – المكانية (الزمكانية) الاّ أن يتناول المقهى الذي يمثّل أحد مشاهد الحركة الفكرية والثقافية في المدينة يوم ذاك، لاسيما لقاءات النخبة وحواراتها واهتماماتها ومشاغلها وهمومها، وبالتالي لمن يريد أن يعرف حياة المجتمع النجفي وتطوره  يمكنه أن يدرس تاريخ المقهى من خلال شخصياته وزبائنه، وهو جزء من حياة المجتمع العراقي مع خصوصيته، فالنجف المدينة العربية وهي على طرف الصحراء، كانت تحمل تناقضها المنسجم معها ومع طبيعتها، فهي مدينة عشائرية بامتياز وهي مدينة دينية باعتزاز، وهي مدينة مدنية وثقافية وفكرية بشرف، وهي مدينة محافظة وهي مدينة تقدمية.
النجف مدينة تستقبل الوافدين وتصهرهم في إطار مجتمعها ذات الصفات القوية والمؤثرة ، بحيث لا يمكن  التفكير مع وجود الاختلاف، الاّ في أطر الاختلاف المتوفرة وليس الانشقاق عليها، وتلك صفات المدن الواثقة من نفسها، الحرّة، المعتدّة بما لديها، المنسجمة، والمتفاعلة مع الآخر المؤتلفة والمختلفة، لكنها في نهاية المطاف لها مذاقها وسحرها ولونها ورائحتها، الخاصة، والمدن مثل النساء لكل منها طعمه، بحيث تستطيع أن تميّز من بعيد بين النجفي أو النجفية وبين آخرين أو أخريات، من خلال الحضور والشخصية وطريقة عرض الأشياء والمنطق والخلفيات التاريخية الحضارية، دون أن يعني ذلك تقليلاً من شأن الآخرين أو الأخريات، أو افتئاتاً على الحقيقة، لكن تلك السمات يمكن إدراجها في إطار بحث علمي- سسيوثقافي، يمكن لمختصين آخرين الغوص فيه، وإن كانت بعض الدراسات الأولية قد ظهرت، لكن الأمر يحتاج إلى وقفة باحثين جادين ومتفرغين.
أقول ذلك ليس من باب الفخر أو الشعور بالرفعة، لكن من باب الملاحظة والاستنتاج والمعرفة والدلالة، التي كوّنتها خبرة السنين، وإنْ كانت هذه بحاجة إلى فحص أيضاً، فليست هناك حقائق مطلقة أو أزلية، فكل شيء نسبي.
وعندما تشعر النجف المتسامحة، المفتوحة أن ثمة ما ينتقص من كرامتها أو يريد عزلها أو تهميشها أو التمييز ضدها، تدير ظهرها أولاً ثم لا تلبث أن تتحدى، وهو ما حصل في تاريخها المعاصر، لاسيما بثورتها الشهيرة في العام 1918 أو عند قيادتها لثورة العشرين في العام 1920 أو يوم انتفضت مرّات ومرّات في العهد الملكي أو في العهد الجمهوري، ضد الظلم والاستبداد والشعور بالعزل والإقصاء.
* * *
إن ما اكتسبه مقهى عبد ننه لا يعود إلى وقار ومكانة صاحبها الحاج عبد ننه الذي كان سريع البديهة، بفطنة عفوية وخبرة في العلاقات الاجتماعية واحترام الجميع، كما لا يرجع الأمر إلى زوّارها المتميّزين وروّادها الكبار، ولا إلى موقعها حسب، بل يعود أيضاً وهذا ما ينبغي قوله دون تردد إلى منزلة إبن صاحبها وهو الرفيق رضا عبد ننه ” أبو جبار”، فقد كانت هناك مقاهي معروفة ولها مواصفات غير قليلة، مثل مقهى ماشاءالله  وهي مقابل صحن الإمام علي، أي بعد نهاية السوق الكبير وإلى يمينه ببضعة أمتار باتجاه ” باب الطوسي”  ومقهى الأنكراني قرب دائرة البريد، ومقهى رسول ناجي في حي السعد وغيرها لاحقاً، لكنها لم تكن تحظى بالمكانة التي حظيت بها مقهى عبد ننه التاريخية.
يمكنني أن أشبّه مقهى عبد ننه بمقهى البرلمان أو عارف آغا أو الزهاوي أو الشابندر أو البلدية أو المقهى البرازيلية أو غيرها في بغداد إلى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات. وخلال زياراتي المتكررة إلى كردستان ولاسيما إربيل عاصمة إقليم كردستان تعرّفت إلى مقهى شبيه بمقهى عبد ننه ومن الطريف أن اسمه مقهى “عبو” وهو تصغير وتحبيب لعبدالله وهو مقهى عصري يعود تاريخه إلى الثلاثينيات حسب بعض معارفي ومنهم الصديق الدكتور شيرزاد النجار وقد أغلق في أواخر الثمانينيات وكان روّاده من النخب الفكرية والثقافية اليسارية والديمقراطية، مثلما هو مقهى الشعب في مدينة السليمانية في الخمسينيات من القرن الماضي الذي كانت ترتاده النخب اليسارية بشكل عام الماركسية والقومية، حيث لا زال هذا المقهى موجوداً إلى الآن، وهناك العديد من المقاهي الشهيرة في مدن العراق التي سبق أن زارها أو تردد إليها كاتب السطور ولا يتسع المجال للحديث عنها.
قلت مرّة لدى جحود بعض المتنكّرين لمكانة مناضل كبير، أن هؤلاء لا يعرفون قدره، إذ لم يكن من الممكن كتابة تاريخ مدينة، بل وتاريخ منطقة بكاملها وتاريخ اليسار العراقي بشكل عام دون ذكر الرجل وسجاياه وصفاته وما قدّمه، والأمر ينطبق على أبو جبار ورفاقه، وهو المولود في النجف العام 1922 الرياضي المعروف على مستوى المدينة لاحقاً، في كرة القدم والساحة والميدان، الشيوعي الحاضر- الغائب، السجين والمختفي، سواءً في العهد الملكي أو في العهد الجمهوري.
ومنذ أوائل الأربعينيات بدأ وعيه يتفتح، فاختار اليسار وبدأ أولى خطواته للالتحام مع تيار يساري أولي صاعد ضمّ المحامي موسى صبار والدكتور خليل جميل ومحمد يوسف الحبوبي وحسين أحمد الرضى (سلام عادل) والمحامي حسين الرفيعي والمحامي عزيز عجينة ورؤوف وعزيز عبود مرزة وهادي حسين دوش وبدوي علي وآخرين، حيث تعاونوا لتأسيس نادي رياضي، وقدّموا طلباً إلى وزارة الداخلية، لكن طلبهم الأول العام 1945 قد رفض مثلما رفض طلبهم الثاني العام 1949.
وكانت تلك الفعالتين بروفة مهمة لإدراك الشاب أن طريق النضال ليس سهلاً، حتى لتأسيس نادي رياضي، فما بالك بقوت الشعب وخبز الناس وحريتهم ورفاههم وانعتاقهم من المستعمر، وأدرك الشاب رضا أن القوى التي تسعى للحؤول دون سلوك طريق التحرر، ليست القوى الحاكمة والرجعية المتحكمة وحدهما، بل من ورائهما، قوى الاستعمار، كما أيقن عن قرب ومعرفة، أن هناك قوى مجتمعية حتى وأن تستّرت باسم الدين، فهي الأخرى تقف حجر عثرة أمام التقدّم، بحجج وذرائع مختلفة، وقد حاولت السلطات استمالتها وتطمين مصالحها، كما فعلت مع بعض رؤساء العشائر لتعزيز حكمها وإيجاد الذرائع والمبررات له حتى إذا اقتضى الأمر الوقوف ضد طلب الحصول على ترخيص لنادي رياضي. مثلما تدخّلت هذه القوى لمنع فتح مدرسة للبنات في النجف العام 1929 والتي كتب الجواهري يومها قصيدة شهيرة باسم “الرجعيون” يقول فيها:
ستبقى طويلاً هذه الأزماتُ
  إذا لم تقصرْ عمرَها الصدماتُ

غداً يمنعُ  الفتيان أن  يتعلموا
  كما اليوم ظلماً تمنع الفتياتُ

تحكّم باسمِ الدين كل مذمَّمٍ
  ومرتكبٍ حفَّتْ به الشبهاتُ

وما الدين إلاّ آلةٌ يشهرونها
   إلى غرض يقضونهُ وأداةُ

* * *
بعد مقتل أخيه محمد (حمودي) في انتفاضة العام 1952التي كان أحد المشاركين البارزين فيها، لم يعد هناك أي وهم إزاء طريق الحرية الوعر، وهو الذي سيختاره ويسلكه عن سابق عزيمة وإصرار، فانضم إلى الحزب باكراً وأصبح عضواً فيه وشارك في تأسيس منظمة أنصار السلام في النجف العام 5419 وهو المؤتمر الذي انعقد في بساتين الكوفة. وحضره نحو 40 ناشطاً من النجف وكربلا في مقدمتهم الشيخ محمد الشبيبي وجاسم الحلوائي وصاحب الحكيم وخليل جميل (الذي أصبح مسؤولاً عن حركة أنصار السلام في النجف بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958) وحمزة سلمان  وهاشم صاحب ومحمد توفيق وردي وكاظم حبيب وآخرين كما يذكر الرفيق جاسم الحلوائي (أبو شروق).
وكان قد ألقي القبض عليه وأبعد إلى شتاته (قرب كربلاء) أو ما  يسمى عين التمر في العام 1954، كما شارك في الحملة الانتخابية لصالح قائمة المعارضة في العام 1954، وفي انتفاضة العام 1956 في النجف، وقد اعتقل هو ووالده وأحيلا للتحقيق في الديوانية في مقر الحاكم العسكري (المجلس العرفي) هناك، وكان ذلك قبل ثورة 14 تموز (يوليو) قبل أن يتعرّف عليه الفتى مباشرة.
وإذا كان المقهى قد ازدهر بعد الثورة في العام 1958، وشعر القيّمون عليه بالزهو، حيث استقبلت عشرات المناضلين النجفيين أو من كانوا يأتون من بغداد لزيارة النجف خصوصاً بعض قيادات الحزب الشيوعي وهو ما يدوّنه عزيز الحاج أيضاً، لكنها بسبب زيادة التوتر السياسي وحدّة الاستقطابات، فضلاً عن افتعال مشاغبات لا تخلو من قصدية وكيدية، قد أغلق في أواخر العام 1959، وهو العام الذي كان ربيعه موعداً مع ما سمّي بالمدّ الأحمر لكن خريفه كان “جزراً”، وتلك واحدة من مفارقات الوضع السياسي، بل الأكثر من ذلك أن قرار الاغلاق جاء من الحاكم العسكري العام اللواء أحمد صالح العبدي، ويقال أن الأمر كان بتأثير من السيد حميد الحصونة قائد الفرقة الأولى في الديوانية، ولكن محسن الرفيعي رئيس الاستخبارات العسكرية في وزارة الدفاع لاحقاً حاول التوسط لدى قاسم لإعادة فتح المقهى وحصل له ما أراد، لكن قرار الاغلاق كان أقوى، حين وضعت بعض الشروط على الموافقة بإعادة فتحه، الأمر الذي كان تمهيداً لإغلاقه مرّة ثانية ونهائياً، خصوصاً بعد إقامة دعوى ضده لطلب التفريغ من جانب يوسف السيد سلمان القريب جداً للنائب عطية السيد سلمان، ولم يشترك معه شريكه محمد سعيد شمسه باعتبارهما مالكا (الأرض)، وذلك لصلات خاصة ومراعاة لبعض الاعتبارات الاجتماعية ولكن السيد سلمان لم يستطع كسب الدعوى في حينها.
وذهب الحاج عبد ننه بصحبة حفيده (عبد الجبار) كما يروي الأخير إلى الديوانية لمقابلة السيد حميد الحسونة، والذي شنّ هجوماً على الحاج عبد ننه باعتباره قائد التظاهرات والمحرّض ضد المرجعية الدينية، التي كانت قد دخلت بمعركة كسر عظم مع الحركة الشيوعية بإصدار السيد محسن الحكيم فتوى تكفير الشيوعية واعتبارها إلحاداً (شباط/فبراير 1960) حيث اختلط عليه الأمر متوهماً أن الحاج عبد ننه هو رضا عبد ننه (نجله) وكان الحاج عبد ننه قد قارب الثمانين أو تجاوزها حينها، فأشار له بعكازه ماسكاً لحيته وكأنه يريد أن يقول بهذه العكازة وبهذا العمر، وكانت المقابلة جافة وسمجة وكان القرار قد اتخذ بإغلاق المقهى أو استبدال مالكه، الأمر الذي حصل فعلياً، ولكن وحتى بعد تغيير ملكيته كان الناس يقولون انه مقهى عبد ننه إلى أن أغلق تماماً العام 1964 لأسباب أخرى وأقيم مكانه بناية حديثة.
* * *
أقول حين طلب مني الصديقان آل غلام وعبد الجبار رضا، الكتابة عن مقهى عبد ننه  وكان قد إطّلعا على ما كتبته عن النجف، لاسيما ” هذه النجف التي  توشوشني”، كانت قد وصلتني رسالة من أحد الأصدقاء الكرد الأعزاء، الذين قرأوا مادة مقهى عبد ننه والتي ورد فيها ذكري، فطلب مني هو الآخر أن أساهم في هذا المشروع. وكان البروفسور شيرزاد النجار قد علّق بالقول: أعتقد أن الموضوع يستحق ذلك، وكان الفتى قد قرر الكتابة على أن يجد الوقت الكافي لإيفاء هذا الموضوع حقه والاستجابة لهذا الطلب الغالي، فالنجف ليست تراثنا الشعبي الممزوج بالفن والأدب والثقافة والدين والمعرفة واللغة والمقاهي والرجال الشجعان والنساء الجميلات والروّاد، بل هي كل ذلك وأكثر، فهي المُبتدى وهي المنتهى.
وكان الفتى قد كتب في وقت سابق: “إذا داهمني ذلك الذئب اللعين الذي ظل يترصّدني، فأرسلوني إلى النجف، وإنْ لم تتمكنوا فإلى أربيل، وكنت أريد أن أقول إلى القدس لولا أنها محتلة، فاخترت الشام كآخر حل إذا تعذّر نقلي إلى النجف أو إربيل. وكأن الفتى حاول أن يجد مبرراً آخر لأدوارد سعيد وكتابه الثمين ” خارج المكان” ولذلك بقي يتشبث بمكانه وذاكرته مشدودة إليه باستمرار، على الرغم من الأمكنة التي عاش فيها وزارها وعرفها ومرّ عليها، بل وحتى تعلّق بها، لكن النجف الأشرف ظلّت تمثل لديه نكهة خاصة وشعور بالامتلاء لا يضاهيه شيء آخر، لا يقاربها سوى بغداد المنيرة. وتذكّر الفتى بيتاً من الشعر كان قد قرأه وحفظه منذ صغره، عندما وجده مكتوباً في إحدى غرف الصحن الشريف (اللواوين) وهو لأبي حيان التوحيدي وهو ما يردده مع نفسه بين الحين والحين يقول فيه:
لوصيٍّ طاب في تربته   فهو كالمسك تراب النجف.

يقول الإمام علي بخصوص الموت:
للموت فينا سهامٌ غير خاطئة  من فاته اليوم سهمٌ لم يفته غدا

ويقول الجواهري:
يظل المرءُ مهما أدركته   يد الأيام طوع يد المصيب
أما الحصيري فقد كان يردد:
إجعلوا إن متُ يوماً كفني   ورق الكرم وقبري مِعصرة
إنني أرجو من الله غداً  بعد شرب الراح حسن المغفرة
تلك هي حال الدنيا حيث يظل الموت لغزاً مثلما هو هاجس يؤرق البشـر، ويترصّدهم، ويداهمهم كل يوم ويدخل بيوتهم دون إستئذان ويخطف أحبتهم، كونه الحقيقة الوحيدة المطلقة التي لا مجال لردّها ” وكل نفس ذائقة الموت  … ” كما يقول القرآن الكريم.” وكل من عليها فان، ويبقى وجهُ ربك ذو الجلال والإكرام “. وحين فكر كلكـامش في الخلود لم يكن ذلك سوى البحث عن فكرة تتجاوز حقيقة الموت والفناء .
وإذا كان الفتى كثير الإعجاب بقلم البروفسور عبدالاله الصائغ ” المرعبي” الذي سبق أن عبّر عنه في أكثر من مناسبة، لاسيما رشاقة أسلوبه وأناقة جُملته وعمق معانيه، فإن ما لفت الأنظار إليه في رسالته القصيرة الغنيّة إلى ذياب آل غلام عن علاقة المقهى العمومي بالمجلس الخصوصي، لاسيما في النجف، إنما يستحق وقفة توثيقية أخرى لدراسة سسيوثقافية للماجستير أو الدكتوراه، خصوصاً إذا تم ربطها بجوانب عملية وحياتيه من التجربة الغنية للنجفيين.
ولعلّ ذياب آل غلام الذي أراد تدوين ذاكرة المكان من خلال مقهى عبد ننه، فإنه حاول البحث في سسيولوجية المدينة بكل عمقها وشمولها وثقافتها وآدابها وحوزتها العلمية ونسائها ومناضليها، وذلك من خلال العلاقة بالمقهى، الذي ما فتئ يستقبل روّاده ويمدّهم بعناصر المعرفة والود، حسبما ورد في رسالة الصديق عباس سميسم الذي يقول: لقد عادت النجف من خلال قلم ذياب إلى سابق عهدها الذهبي: هنا يجتمع الأدباء وقادة التظاهرات وأصحاب الحكايات الشعبية ووجهاء المدينة وشيوخها… لأن قلم ذياب هو عدسة تصوير باستطاعتها استرجاع الماضي بكل حلله الجميلة.
ذاكرة المكان تبقى تاريخاً معجوناً ببشر، هم من صَََََنعَ الحدث أو شارك فيه أو شاهده أو جمع الحكايات عنه، وهذا ما يشكّل هذا الفيض من التداعيات المتراكمة، والتي حاول ذياب آل غلام أن يمسك بها كي لا تغيب أو تفلت من بين أصابعه أو من زاوية من زوايا الرأس، فصوّر الارائك والسجاد والأواني وكاسات شرب الشاي مصحوبة بالأجواء الأدبية والثقافية والسياسية، وبالزوار والبيئة والمدينة.
* * *
كان الفتى يعرف أن اسمه ” حسوني” وكان عمه ضياء يناديه بتنغيم ” حسّون” – ومعناها “الطير الجميل”، وكان يشعر بألفة إزاء اسمه، لكن اسمه تغيّر فجأة، وكان قد شعر بشيء من الغرابة إزاء اسمه الجديد عندما سمعه لأول مرّة وهو يتلوه معلّم  الصف عبد الرزاق الساعدي، لكنه تدريجياً سرعان ما تألف معه، بل وأصبح مع اللقب يشكل موسيقى خاصة به، وهو ما اعتاد عليه لاحقاً، لكن مدير المدرسة رؤوف الجواهري، ظلّ يناديه حسب عمه ضياء “حسون” بدلاً من اسمه الذي كان في الجنسية، والذي كان يفترض أن يسمّى ” سعداً”، لكن مرضه وهو في أيامه الأولى غيّر اسمه، وإن ظلّ اسم حسّون وحسوني محبباً لديه، ويتردد بين أهله وأصدقائه المقرّبين، لاسيما في محلّتة ومدرسته، لكن اعتياده التدريجي على اسمه الجديد، لاسيما بعد لقبه أكسبه نوعاً من شخصيته اللاحقة، وإن ظلّ  حسون أو حسوني قريباً إلى قلبه، بل أن قلبه كان يخفق كلما ناداه أحد من أصدقائه المقربين والحميميين، أو كلما سمع الاسم بوصفه “غزلاً” من حبيبة أو صديقة في حينها، نجفية أو بغدادية أو عربية أو غيرها.
* * *
عدد من الشخصيات العامة والخاصة سجّلتها ذاكرة الطفل الطفلية، حتى إذا غدا الطفل فتى بدأت ملامحها وصورتها تنبجس وتتوضح أمامه، وخصوصاً مع مرور الأيام، ولا سيما حين بدأ يتعرّف عليها وإنْ كان في البداية عن بعد، ثم عن قرب في إطار مسافة مكانية وزمانية بل وتاريخية، ليعود ويعقد معها صداقات تتراوح بين المعرفة والاعجاب والمحبة والأفق المشترك، خصوصاً عندما سلك الفتى طريق النضال، أو هكذا اعتقد بصورة تلقائية أو “لا ارادية” في مطلع حياته بحكم العائلة وأجوائها، ثم “اختياراً” لاحقاً، أي أنه دخل عالم السياسة وعالم الكبار دون رغبة منه، وقبل أن يصلب عوده ويشتدّ ساعده، لكن هذا ما حدث، لأن البيئة العامة كانت مشجّعة، بل أنها “تفرض” أحياناً على الانسان بعض خياراته، سواءً على المستوى العائلي أو على مستوى الصداقات أو المدرسة أو المكان، فأجواء النجف المدينة المفعمة بالأدب والشعر خصوصاً، والثقافة عموماً دون أن ننسى أجواء المنطق والفلسفة ومن ثم تجاذباتها مع الدين والتديّن، والدين الاجتماعي والنظر إلى الدين والمتدينين سسيولوجياً، حتى أن الانطباع الأول للنجف على الرغم من طابع المدينة الديني، الاّ انه كان ثقافياً بامتياز، مدنياً، متنوعاً، وسجالياً، تتجاور فيه الأضداد على نحو كبير وغريب، فهي مدينة الجدل والتناقض.
الشخصية الاولى- التي انطبعت في ذاكرة الطفل هو الطبيب المتميّز الدكتور خليل جميل الجواد، صديق العائلة التاريخي وزميل الأخوال، لاسيما خاله ناصر شعبان، ولاحقاً صديق عمه الدكتور عبد الأمير شعبان، أحد أطباء العراق المعروفين الذين تخرجوا من كلية الطب في العام 1945. وكانت صورته تكبر لا باعتباره طبيباً للفقراء والمحرومين، ويستقبل مرضاه في بعض المناسبات بالمجان، بل لكونه أيضاً أحد المناضلين الذين تعتز العائلة بصداقتهم: من عائلة مرزا جميل “الخليلي”، مثل الروائي جعفر الخليلي والصديق عبد الغني الخليلي والدكتور أحمد الخليلي والدكتور عبد الهادي الخليلي وآخرين.
وكانت فرحة الفتى غامرة عندما قابله وجهاً لوجه في العام 1960 بعد أن كان قد التقاه في مناسبات اجتماعية عامة، حيث شاع اسمه، لاسيما عندما انضم إلى الهيئة المؤسسة لحزب اتحاد الشعب ( الحزب الشيوعي العراقي) التي تقدّمت بطلب إلى وزير الداخلية آنذاك أحمد محمد يحيى، بعد أن كان داوود الصائع قد حصل على إجازة باسم الحزب الشيوعي وأصدر جريدة باسم “المبدأ” لاحقاً، الأمر الذي استوجب تغيير اسم الحزب، فاختار الحزب بمبادرة من سلام عادل أمينه العام اسم ” اتحاد الشعب” وهي الجريدة المركزية التي صدرت في العام 1956 بعد أن اتحدّت أو التقت راية الشغيلة مع القاعدة، وانتهى أكبر انقسام في صفوف الحزب آنذاك، وصدرت جريدة جديدة باسم اتحاد الشعب بصورة سرّية كما اقتضت ضرورات العمل آنذاك، ثم أصبحت علنية بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958، حيث وجّه الحزب آنذاك أعضاءه وأنصاره للمطالبة بالسماح لترخيص إصدار الجريدة، وصدرت في حينها بحلّة بهيّة، وكانت الأكثر انتشاراً وتأثيراً، ناهيكم عن مستواها المهني والفني، وما خصصته من صفحات للثقافة والفن والأدب، وحياة العمال وقضايا الناس.
وفي حديث مع الدكتور منذر الشاوي استاذ القانون الدستوري في العام 1967 (الوزير لاحقاً) في بغداد، قال على الرغم من أنني لم أكن في بغداد حينها حيث كنت أحضّر للدكتوراه في جامعة تولوز(فرنسا) لكن الأعداد القليلة التي أطلعت عليها تجعلني أعتقد أن الصحافة العراقية بوجود جريدة اتحاد الشعب إكتسبت نكهة جديدة، أكثر عمقاً وأكثر دقة وأكثر مهنية، ولعلها كانت أقرب إلى مستوى الصحافة اللبنانية آنذاك، باستثناء الجانب الآيديولوجي، الذي طغى عليها.
في أواسط الستينيات وبعد فصل وسجن وتشريد، عادت الكثير من المياه إلى مجاريها والتقى الفتى بالدكتور خليل جميل وارتبط معه بصداقة عائلية جديدة أساسها زوجته ماجدة المناضلة الشيوعية آنذاك وأختها مائدة وكذلك أخته سلمى، وهكذا تعززت العلاقة عن طريق ثان، إضافة إلى صداقة الفكر وزمالة المعرفة.
وكانت والدة الفتى نجاة حمود شعبان قد لجأت إلى الدكتور جميل في الخمسينيات فأحالها على طبيبة نسائية سيكون لها شأن في تاريخ العراق والمنطقة اسمها الدكتورة نزيهة الدليمي أول وزيرة عراقية، بل عربية عندما تم استيزارها من جانب حكومة عبد الكريم قاسم لوزارة البلديات، وكانت في الآن ذاته رئيسة رابطة المرأة العراقية وأبرز مؤسسيها.
وحدّثت الدكتورة نزيهة الدليمي، الفتى، لاحقاً في العام 1982 عن علاقاتها وزمالتها مع الدكتور خليل جميل عند زيارة وفد لمجلس السلم والتضامن العراقي، الذي قام بتنسيق أعماله، ضم عامر عبدالله رئيساً والدكتورة نزيهة الدليمي عضواً وكاتب السطور عضواً، وكان الوفد قد زار اليمن والتقى رئيس مجلس السلم العالمي راميش شاندرا، كما التقى المسؤولين اليمنيين وفي مقدمتهم الرئيس على ناصر محمد، في مؤتمر عن الوجود العسكري الامبريالي في الخليج والجزيرة العربية.
وذكرت الدكتورة الدليمي أنها قامت بزيارات متكررة إلى النجف مكثت فيها لبضعة أسابيع في أواسط الخمسينيات، وعندما أخبرها عن السيارة ” التائهة” أو “المجنونة” التي دهمت سيارة خليل جميل وقضى نحبه بسببها في طريق النجف- بغداد أواخر العام 1977 تأثرت كثيراً وكانت قد سمعت الحادث في حينها، لكن زحمة العمل أحياناً تحول دون قيام بعض ما تتطلّبه حقوق الصداقة كما قالت.
ولعلك إذا ذكرت اسم الحزب الشيوعي في النجف، فسيتبادر إلى ذهنك عدد من الشخصيات الأساسية في مقدمتها الدكتور خليل جميل وحسين سلطان ومحمد حسن مبارك ورضا عبد ننه وصاحب الحكيم ومحمد موسى وآخرين، بل إنهم كانوا من جيل واحد تقريباً، خصوصاً الأسماء الأربعة ألأولى.
الشخصية الثانية، كان صاحب الحكيم، صديق عمره، الذي استمرت صداقته وعلاقته ما يقارب النصف قرن ولا تزال، فقد اختزنت ذاكرته الطفلية اسماً كان يسمع به قبل أن يراه وظلّ غائباً عن الأنظار ومختفياً. إنه يعرف شقيقه السيد سلمان الحكيم خادم الروضة الحيدرية، الذي كان لديه فندقاً قريباً من دكان والده الحاج عزيز شعبان وكانا يتحادثان باعتبارهما صديقين، ومن توجّه متقارب، حيث كان والده يبدي تعاطفاً مع الحركة اليسارية، على الرغم من إيمانه الديني وقيامه بالواجبات التي يتطلبها أركان الدين الخمسة كالصلاة والصوم والحج والزكاة والشهادة، ولكنه يعتبر الوطنيين، بمصطلح تلك الأيام، على حق، فالبلد مكبّل ومُستعمر، وهم يريدون خيراً له ويعملون لتحرير ثرواته من يد الأجنبي، كما أنهم شجعان ومظلومون، ولم يكن يدقق في التفاصيل الأخرى  وقد لا تعنيه كثيراً تلك التفاصيل، وباختصار فإنه يعرف الكثيرين من آل شعبان المنخرطين أو المتعاطفين مع هذا التيار، إضافة إلى آل الجواهري وآل الحكيم وآل الشبيبي وآل الخرسان وآل الرفيعي وآل سميسم وغيرهم، وبالتالي لا يمكن كل هؤلاء أن يكونوا على خطأ، وفيهم مؤمنون وحتى متدينون.
كان الفتى بحكم مخيّلته الطفلية يأمل أنه سيلتقي الحكيم يوماً في زقاق أو في مختبأ حيث كان ينقل بعض الرسائل، أو سيأتي إلى منزله ليجده يجلس في البرّاني مع المناضل محمد موسى، وسيحتفي به ويقدّم له الشاي والكعك، لكن خبر اعتقاله والحكم عليه لاحقاً وقع عليه وقع الصاعقة العام 1956-1957، وظل اسمه يتردد في العائلة وخارجها، ومثل معظم آل الحكيم، المتدينين منهم أو الشيوعيين، كانوا من أصدقاء الفتى وعائلته، ولذلك كان حتى دون سؤال يحاول معرفة مصير الحكيم وأين ينام؟ هل يستطيع مخاتلة الشرطة إلى هذا الحد؟ وكيف اعتقل؟
لعلها بعض هواجس كانت تداهم الفتى بين الحين والآخر، ثم ما لبث أن ارتبط الفتى  بالحكيم بعد ثورة 14 تموز (يوليو) العام 1958 حين أصبح الثاني رئيساً لاتحاد الطلبة، ثم لاحقاً سكرتيراً لمحلية النجف للحزب الشيوعي، وكان الفتى وهو في بداية عمله السياسي الفعلي منخرطاً في صفوف الاتحاد وملتحقاً بالحزب الذي تربّى في كنفه. وشاءت الصدف أن يلتقي الحكيم في المعتقل في شباط (فبراير) العام 1963، بعد أن غاب فجأة عن المدينة، وانعقدت صداقتهما الأولى، وبعدها نُقل الحكيم إلى سجن الحلة وعذّب تعذيباً وحشياً، وكاد أن يموت، ولولا استشهاد ” شهيد” أحد مناضلي مدينة الحلة لكان مصيره الاستشهاد أيضاً، فنقل إلى بغداد وأودع في الأمن العامة ومنها إلى قصر النهاية، ثم في معتقل للحرس القومي في المأمون، وبعدها أعيد إلى النجف، ثم حكم عليه، وأطلق سراحه في نهاية العام 1964 وبداية العام 1965 بعد أن كان قد اعتقل في مدينة الحلة، حيث كان سكرتيراً لمحلية الحلة للحزب الشيوعي في العام 1962.
وتعمقت الصداقة مع الحكيم في بغداد في أواسط الستينيات وتعززت بعد العام 1967 حيث عملا سوية بعد انشقاق القيادة المركزية في (أيلول) 1967، وعلى الرغم من أن ميل الفتى لم يكن مع توجّه اللجنة المركزية، لكنه في نهاية المطاف انحاز إلى جانبها بعد أن تركت بعض أعمال العنف أثراً سيئاً في نفسه، تلك التي قامت بها مجموعة “القيادة المركزية”، ضد رفاق آخرين في الحزب.
واستمرّت العلاقة مع الحكيم خلال تلك الأعوام في إطار العمل الطلابي الذي كان مشرفاً عليه، واتخذت طابع لقاء يومي تقريباً، ولاسيما بعد اختياره رئيساً للوفد المفاوض مع قطاعين (الجمعية العراقية للعلوم السياسية التي انضمت لاحقاً إلى جمعية الحقوقيين العراقيين) وفي القطاع الطلابي. وعلى الرغم من التوجّه لتفريغه لقطاع الشبيبة الديمقراطية، لكن الأحداث سارت متسارعة، لاسيما بعد بيان 11 آذار (مارس) العام 1970 حيث وجهت ضربات موجعة للحزب الشيوعي وقيادات المنظمات الديمقراطية وفي مقدمتها اتحاد الطلبة.
وسافر الفتى إلى كردستان مشرفاً على اتحاد الطلبة العام الذي تأسس ككيان مستقل في إطار الاتحاد، والتقى هناك بالملا مصطفى البارزاني في كلاله على رأس وفد شكّله من المؤتمر المذكور وكان حينها يحمل هوية  معلم ” محمد أحمد عبدالله” وقضى بضعة أيام في المقر “بيرسيرين” بضيافة ملازم خضر (الفريق نعمان التميمي حالياً) وكان يفترض أن يسافر من هناك إلى سوريا، ويتوجّه بعدها للدراسة، ويكون مكان اللقاء به في براغ التي كان قد زارها عندما حضر قبل عام مؤتمراً تحضيرياً لميلاد لينين في ذكراه المئوية، ولكن قراراً مفاجئاً وصله بالعودة إلى بغداد، فعاد في اليوم الثاني ومعه أحد البيشمركة مرافقاً، واحتار الفتى به حتى أوصله إلى فندق في شارع الرشيد.
وبعد يومين اعتقل المناضل الطلابي البارز والوجه الاجتماعي المعروف لؤي أبو التمن فاحتار الرفاق به هو هذه المرّة، واضطرّ إلى الاختفاء ليومين في بيت أحد الأصدقاء في البياع بعد صدور مذكرة لإلقاء القبض عليه، ثم انتقل ليقضي نحو ثلاثة أشهر في بيت عمّه شوقي، الشيوعي سابقاً والشيوعي وجداناً لاحقاً، وكان سبب تبرير عودته هو فتح الحوار مجدداً مع التنظيم البعثي (الشباب والطلاب) باعتباره وجهاً معروفاً وشخصية عامة، لاسيما في الوسط الذي نحن بصدده وفي الوسط الثقافي والحقوقي، لكن اعتقال لؤي أبو التمن أحد أعضاء الوفد المفاوض، كان يعني قطع الطريق على الحوار المنشود.
وعرف الفتى بعد هروبه إلى الكويت ومنها إلى دمشق فبيروت فاسطنبول فصوفيا وصولاً إلى براغ، إن الحكيم أصبح في موسكو للدراسة الحزبية وعند وصوله إلى براغ اتصل به وتراسلا واستمرّا حتى أبلغه الحكيم باقتراب عودته إلى بغداد.
وخلال أيام عصيبة كان يلتقي الحكيم على نحو متقطّع في العام 1978 وحيث اضطر حينها لأداء الخدمة العسكرية الإلزامية، وعرف أن الحكيم غادر إلى الخارج، وعند أول فرصة سنحت له بعد اعتقال واستدعاءات وتعذيب، إلتقى الحكيم مجدداً بعد يوم من وصوله إلى دمشق، وكان حينها المسؤول فيها، كما التقى لاحقاً بقيادات الحزب من عزيز محمد وزكي خيري وباقر ابراهيم وثابت حبيب العاني ونزيهة الدليمي وعبد الرزاق الصافي ومهدي عبد الكريم ويوسف اسطيفان بوكه وآخرين، حيث تم تنسيبه مسؤولاً للعلاقات في الشام، إضافة إلى مهماته الأخرى.
صورة الحكيم انطبعت في ذهن الفتى، الرجل، الكهل، الشيخ، لكنها على الرغم من كل العواصف ومحاولات الإساءة والتفريط كانت ناصعة ونقية وصادقة، وحتى عندما التقاه في طهران، حيث كان عائداً من موت محقق أو أصبح منه قاب قوسين أو أدنى في مجزرة بشتشان، حيث كان ذلك الذئب المفترس يحوم حوله، حين هاجمت قوات الاتحاد الوطني الكردستاني مواقع الحزب الشيوعي وكان حينها مسؤولاً عن منظمة الاعلام المركزي وعضواً في لجنة العمل الآيديولوجي التي يقودها الرفيق كريم أحمد وفي تحرير الجريدة “طريق الشعب” التي كان رئيس تحريرها الرفيق عبد الرزاق الصافي والاذاعة ” إذاعة صوت الشعب العراقي” التي كان يديرها الرفيق مهدي عبد الكريم والأخيرة بعد انفصالهما، وكان الحكيم ذاهباً إلى كردستان ومنها إلى العمل السري في بغداد، حاول منعه، وحاول التأثير على قراره، وبالأحرى على قرار المكتب السياسي أو بعض المتنفذين بالقرب منه، لأسباب وظروف تتعلق بصراعات  غير مبدئية وخصومات وتصفية حسابات وأساليب أقل ما يقال عنها أنها غير حريصة على مصائر الرفاق وحتى مع حسن النية فإنها كانت أساليب بدائية.
وكتب إلى المكتب السياسي و إلى الرفيق باقر ابراهيم (أبو خولة) يطالبهما بعدم إرسال الحكيم إلى الداخل، لكن رسائله وقعت بيد السلطات الإيرانية على الحدود بالقرب من رضائية عن طريق المراسل كما أخبره المسؤول أبو شروق، (جاسم الحلوائي)، وغادر الفتى إلى الشام ومنها إلى العلاج في موسكو حيث بقي لثلاثة أشهر ونيّف، وغادر الحكيم إلى كردستان ومنها إلى بغداد، حيث العمل السري، وتلك تجربة أخرى يستوجب الوقوف عندها وعند دلالاتها ومعانيها والمسؤولين عنها، سواءً بالنسبة للحكيم أو لغيره من الذين ذهبوا ضحايا مجانيين بدم بارد في ظل اختراقات وشبهات وظروف غير مشجعة وبيئة موبؤة .
يتذكّر صاحب الحكيم المناضل رضا عبد ننه، ويتحدث عنه باعتزاز سواءً نضاله خلال العهد الملكي أو في العهد الجمهوري خلال مساهمته في قيادة المقاومة الشعبية في النجف، حيث سادت نزعة ” يسارية” أو إقصائية لدى بعض الرفاق، على الرغم من أنها  كانت مخففة في النجف ولم تظهر أية أعمال عنف وحاولت قيادة المنظمة احتواء بعض الاندفاعات والسيطرة على الموقف، لاسيما بعد محاولة اغتيال أحد القوميين ” مهدي بحر” أو مهدي الخبازة كما كان يُعرف، ودور المنظمة للحيلولة دون ذلك، علماً بأن الحادث وقع في باب الولاية وأمام مقهى عبد ننه، حين اضطر الحكيم ورضا عبد ننه ومحمد موسى وحسن عوينة وآخرين مخاطبة الشارع للانفضاض، وأدخل مهدي بحر في دكان الحلاّق للحفاظ على حياته، لحين استتباب الأمن. وكان الفتى قد شاهد ذلك وحضر الحادث المروّع، الذي ترك أثراً سلبياً في نفسه لن ينساه.
ومن موقع نقدي أشار الفتى إلى بعض التجاوزات والانتهاكات التي رافقت تلك الفترة، لاسيما إزاء الخصوم السياسيين، تلك التي لم يكن لها أي مبرر على الإطلاق، خصوصاً الارهاب الفكري والسياسي، بقيام أعضاء المقاومة الشعبية بتفتيش الطرق والقادمين للمدينة، وقد بدا على الناس الضجر من المقاومة الشعبية نتيجة ذلك وأصبحت الاشاعات تروّج ضدها، وهو ما اتفق به الحكيم مع كاتب السطور في حديث خاص.
ويتذكر الحكيم أنه عندما كان معتقلاً مع رضا عبد ننه في مركز شرطة السراي في بغداد في العام 1962 وإذا بمحسن الشيخ راضي يُحشر معهم في المعتقل، وعندما تأكد من شخصيته، لاسيما باقترابه منهما، طلب من رضا عبد ننه دعوته  والترحيب به، وتم ذلك بالفعل، وقد سألاه عن سبب اعتقاله وعرفا منه أن وكراً حزبياً بعثياً تم كبسه في منطقة الطوبجي حيث وجدت فيه مطبعة حزب البعث التي كانت تصدر جريدة ” الاشتراكي” حينها، حيث ألقي القبض على الشيخ راضي، الذي كان مسؤولاً عن الوكر، وأحد أبرز القياديين بعد علي صالح السعدي وحازم جواد.
ويقول الحكيم أن محسن الشيخ راضي كان صديقاً له أيام الدراسة وتجددت العلاقة في المعتقل المشترك أيام عبد الكريم قاسم، ولربما كان لذلك أثراً لاحقاً وراء في موقفه “الإيجابي” لانقاده من التحقيق عند وصوله مع عدد من الرفاق إلى سجن قصر النهاية بعد العام 1963 ومجيء حزب البعث إلى الحكم.
ويضيف الحكيم: كان معي حميد عبد الحسين المنجّم وجعفر هجول ومحسن كريدي ومجيد طعمه وطالب كاظم ورضا شويليه وجواد عبد الحسين، وهؤلاء جميعاً نقلوا معه إلى مديرية الأمن العام ومنها إلى قصر النهاية، ويقول استقبلنا محسن الشيخ راضي ونحن معصوبي العيون، وقد تعرّف عليّ وناداني باسمي، ثم أمر بارسالنا إلى مركز شرطة المأمون، ثم جاء بعدها إلى هناك وتجوّل في المعتقل المملوء بالمعتقلين رجالاً ونساءً، ووجه كلامه بالاعتذار أن يكون اللقاء في هذا المكان وحمّل الشيوعيين سبب ذلك بسبب مقاومتهم يوم 8 شباط (فبراير) ووعد بإطلاق سراح من لم يتهم بالمقاومة، لاسيما من المستويات الحزبية الدنيا، أما الكوادر ومنهم صاحب الحكيم، فقال له سندرس وضعك الخاص، ولكن وجه كلامه إلى آمر الحرس القومي، طالباً منه السماح بالمواجهات العائلية وتسهيل بعض شؤونهم.
يقول الحكيم إن من أبرز وأشجع الشخصيات الشيوعية في النجف والذي تعرّض للأذى لنحو ثلاثة عقود من الزمان هو رضا عبد ننه، الذي كان الخطيب الأول عن الحزب الشيوعي في النجف بعد ثورة 14 تموز (يوليو) 1958.
الشخصية الثالثة هو محمد موسى، ولا يوجد نجفي بمن فيهم من التيارات السياسية الأخرى الاّ وتغنّى ببطولة محمد موسى عطية التتنجي، الطالب الذي فُصل في الخمسينيات وانصرف للعمل الحزبي، وكان في الفترة بين العام 1955-1956 يتردد ويعيش بصورة متقطعة في بيت الفتى، وفي البرّاني تحديداً، تارة يأتي لابساً للعقال والكوفية والأخرى اليشماغ، وحين يصل يرمي “قامته” الطويلة (وهي آلة حادة جارحة) التي يحملها على جنبه، فقد أثقله حملها ليستريح، ثم يسقيه الفتى كأس ماء، ويقدّم له الفواكه حسب الموسم: الكوجه والمشمش والخس والبرتقال والرّمان. لم يكن والد الفتى يصل إلى البرّاني، لكنه يعرف ما يدور فيه، يتخوّف أحياناً ويحذّر أحياناً أخرى ويغضب في مرّة ثالثة، لكنه يعود ويستسلم، وزعم عمه شوقي المستمر أنهم يدرسون مع بعضهم ويراجعون للامتحانات وهكذا.
كان عبد الرضا فيّاض يرأس فريق الاتحاد وكان الفتى مع شلّة مع الأصحاب  ينتسبون إلى أشبال الاتحاد بينهم أسعد شكر ومحمد تركي وعباس التركي وطارق الصرّاف وآخرين، وحين اعتقل فياض وحكم عليه لعام واحد ومراقبة لعام آخر، تفرّق الجمع وكانت مستلزمات الفريق جميعها في بيت الفتى من الكرات إلى ملابس أولية إلى بعض الأحذية، وكان القسم الأكبر يلعب حفاة، وكان محمد موسى يحضر أحياناً للتشجيع، لاسيما إذا كانت اللعبة مع فريق فيصل الذي كان منافساً وهو يمثل التيار القومي، وكان ملعب فريق فيصل في المقابر، في حين أن ملعب فريق الاتحاد هو في الطارات عند بحر النجف كما يسمّى، لكن الجمع تفرّق بعد هجوم غادر من السلطات بعد انتفاضة العام 1956.
وكانت تلك الانتفاضة الشكل الأول للمجابهة التي عزّزت من ثقة الفتى بنفسه وساهمت في بلورة وعيه الأول، فقد كان محمد موسى قد أعطى للفتى قبل يوم من التظاهرة الشهيرة قصيدة حفظها عن ظهر قلب بسرعة فائقة، وألقاها في الحشد وحسبما عرف أنها للشاعر المناضل، صديق الخال رؤوف والعم ضياء، حسن عوينه “أبو فلاح” الذي استشهد العام 1963 وهو زوج زهوري أخت السيد صاحب الحكيم ” أم فلاح”:
يا عبّادة الدولار وأتباعه
مد باع الشعب فنّه اليرد باعه
كرب ليكم الموت وكربت الساعة
وجيوش الحتم بانت طلايعه
وألقى الفتى قصيدة أخرى للشاعر الزاهد محمد الذي عمل معه في هيئة حزبية واحدة في مطلع العام 1971.
ناضل يا شعب واحقد على العدوان
تجلي من الشعبية وقلعه الذبان
وامحي هالعبيد الباعو الأوطان
والغي للأبد صك العبودية
***
ليش الشعب جايع ما يحصل القوت
والكادح أطفاله من المجاعة تموت
أنابيب النفط ملك الشعب وتفوت
كل أرباحه بجيب الحرامية
***
يا جيش السلم ومحطّم العدوان
يا حامي الشعب وحارس الأوطان
ذكرك من يمر يبعث ثقة وإيمان
ميّة مرحبه باسمه وطاريّة
***
كل أحنا نناضل لأجل الاستقلال
أحرار الشعب والفلح والعمال
وبالجبهة يخوتني نحطم الأغلال
ونحرر شعبنا من العبودية
وهتف الفتى بسقوط حكومة نوري السعيد وبحياة جمال عبد الناصر، وأعاد ذلك لمرّات من الميدان ومروراً بالسوق الكبير ووصولاً إلى الصحن الشريف، وقد كانت فرحة الفتى غامرة عندما نشرت جريدة “اتحاد الشعب” إشارة إليه حيث تمّ استعراض نشاط الحزب الشيوعي وتظاهراته، خصوصاً في بغداد والحي والموصل والنجف وفيها إشارة إلى الفتى (أحد المواطنين الذي ألقى القصيدة) في تغطية أحداث انتفاضة النجف واستشهاد ثلاثة من أبنائها، واطّلع لاحقاً على ما كتبه عزيز شريف عن وثبات العراق في الكراس الصادر في العام 1957 في دمشق.
واشتهرت تلك التظاهرة وعُرف الفتى، حتى عندما جاءت شرطة التحقيقات الجنائية لاعتقال عمه شوقي، وفي ظل غيابهما، اضطرت السلطات إلى جلب رسول الحلاّق (المزيّن) من سوق العمارة لكي يوقّع على محضر تفتيش المنزل في عكَد السلام، ولم يتركوا حاجيات الفتى الاّ وعبثوا فيها عسى أن يجدوا شيئاً.
والواقع فالفتى آنذاك ليس أكثر من طفل لم يتجاوز الثانية عشر عاماً من عمره لكن الوعي السياسي لذلك الجيل كان متقدماً، فضلاً عن انخراطهم المبكر وشعورهم برجولتهم عبوراً لمرحلة الطفولة التي لم يتذوقوها بشكلهاالصحيح، فمرّوا منها مباشرة إلى الفتوة.
ظلّت صورة محمد موسى أحد الشخصيات التي أثرت فيه، فقد كان يراه وهو يحمل زجاجة المولوتوف” (القنبلة البدائية) وهو يتقدم التظاهرات :
ها يسقطك والله يسقطك
هذا الشعب القاوم لندن  بالمكوار
 يسقطك ولله يسقطك
***
يتذكّر المناضل عبد النبي حسن الدلال بعض وجوه التظاهرة، حين يقول لم يكن عددنا يتجاوز المائة وأكبرنا سناً لم يتعدّ الثلاثين من عمره: رحيم الحبوبي، عبد السادة حسن (أبو لميعة الخباز) عبد الزهرة الحلو، شوقي شعبان، محمود أبو زيد، كاظم فياض وآخرون ثم انتظم المئات والآلاف على مدى نحو عشرين يوماً وكانت التظاهرات يومية ، وكان القائد الكاريزمي محمد موسى يقود الجموع، لاسيما اليساريين والشيوعيين ويردد المهوال النجفي، الفراتي لرفع حماسة المشاركين، حيث يبدأ ببيتين من الشعر، ثم ينتهي بأهزوجة يرددها الجميع :
الخاين شعبه منريده
الخاين شعبه انكص إيده
وين يروح المطلوب إلنا
شيل جردودك مالك مالفة
ويه العربان… اسمع يالخاين.
ظلّت صورة محمد موسى راسخة في ذاكرة الفتى فهو الذي يخرج من زاوية أحد الأسواق المؤدية إلى السوق الكبير ومعه ثلّة من المناضلين فيهتف إيذاناً ببدء التظاهرة والتجمع، وعندما ينصرف يختفي مثل شعاع أو مثل البرق يتوقف عن اللمعان، تبحث عنه الشرطة فلا تجده، كانت هذه العلاقة أثيرة لدى الفتى التي يتذكرها باعتزاز.
كانت قيادة محمد موسى لتظاهرات النجف العام 1956 قد كشفت عن مواهبه القيادية وسجايا شخصيته الجماهيرية. وكانت تظاهرة النجف الأولى في يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 1956 أول تظاهرة منذ عامين تقريباً من انقطاع عن العمل الاحتجاجي التظاهري الجماهيري حين ساد خلالها نوع من الانحسار بسبب حملة اعتقالات وقوانين غليظة أصدرتها السلطات الملكية، تحت عنوان مكافحة الأفكار الهدامة، وترافق ذلك مع إعلان حلف بغداد الذي ضمّ العراق وإيران وتركيا وباكستان وكانت بريطانياومن ورائها الولايات المتحدة تقف خلفه، لاسيما في مواجهة المدّ الشيوعي- الناصري الذي كان حينها مقلقاً للامبرياليين وحلفائهم من حكام المنطقة، خصوصاً “التهديد” بالخطر السوفييتي.
يتذكر الفتى أن التظاهرة انطلقت من الباب الرئيسي لصحن الإمام علي، وسارت  مخترقة السوق الكبير إلى الميدان، وكان محمد موسى يشعّ عزماً وثورية وطيبة وبيده “القامة” وهو ينتقل بين مجاميع المتظاهرين، كما يروي عبد النبي حسن الدلال في رسالة خاصة للكاتب.
استمرت التظاهرات نحو ثلاثة أسابيع وسيطر المتظاهرون على المدينة في العشرة الأيام الأخيرة قبل نزول الجيش، وكانوا يصعدون على الدبابات ويهتفون”عاش تضامن الجيش ويّه الشعب” ولم يطلق  الجيش الرصاص، وكان الغضب الشعبي يتصاعد جرّاء تواطؤ حكام العراق مع المعتدين وعدم الوقوف إلى جانب الشقيقة مصر، وإلتهب المشهد خصوصاً بعد هجوم الشرطة على مدرسة الخورنق وسقوط الشهيد عبد الحسين الشيخ راضي وكذلك سقوط الشهيد أحمد الدجيلي، حيث كانت التظاهرات يومياً تبدأ عصر كل يوم وتنتهي في صحن الإمام علي عند غروب الشمس، ولم تقتصر على الشيوعيين أو القوميين أو البعثيين أو بعض أنصار الحزب الوطني الديمقراطي حينها، بل ضمت الآلاف من أبناء الشعب كافة.
بعد الثورة في العام 1958 كان الفتى يلتقي لأول مرة بمحمد موسى في ظروف طبيعية وفيها شيء من الاسترخاء. وكان أول لقاء في مقهى اعتمد مقرًّا لاتحاد الطلبة، ثم بعد اعادته للدراسة التقاه كثيراً في مدرسة الخورنق وهو من احتضن الشاعر عبد الأمير الحصيري وشجّعه على إلقاء قصائد للشاعر الجواهري، ثم بعض من شعره لاحقاً، وبعدها ظلّ يلتقيه بصورة متباعدة وعن طريق الصدفة، وكان محمد موسى قد سأله هل استلمت العضوية؟ فكان جواب الفتى في الطريق إليها عندما كان مرشحاً حينها. وبعدها أشار له بكلتا يديه المضمومتين، بأن الأمر قد حصل!
كان آخر مرّة إلتقاه يوم 8 شباط (فبراير) 1963 حين أعلن عن انقلاب ضد حكومة عبد الكريم قاسم وأعلن بعده البيان رقم 13 القاضي بإبادة الشيوعيين، وقد ظهر في شارع الرسول وألقى خطاباً في باب القبلة، ثم توجهت التظاهرة الاحتجاجية المنددة بالانقلاب إلى ميدان المدينة عبر شارع الصادق وفي نهاية الشارع اصطدمت بتجمع مؤيد للانقلاب. التقاه مرة أخرى في أزقة النجف مصادفة في اليوم التالي، ثم اختفى ويقول عبد النبي الدلال انه إلتقاه ثلاث مرات خلال تلك الفترة، وفي إحداهما كان مع الرفيق شمسي الكرباسي وكان يدعوهم ويحرضهم بكل السبيل لمقاومة الانقلاب، ثم اعتقل وانقطعت أخباره!
أعتقد أن أكثر من يعرف محمد موسى هو صاحب الحكيم، حيث يقول أنه كان طالباً في مدرسة الخورنق، وكان مسؤوله في حينها خضر الصراف، وقد انتمى للحزب عام 1953 واعتبر انتظامه في حلقة المؤيدين بمثابة فترة ترشيح. وفي ذلك الوقت كان الحكيم المسؤول الطلابي وقد تقرر أن يقود محمد  موسى واسمه الحزبي “حديد” أحد الخلايا الطلابية، حيث كان عضواً في خلية رئيسية (بمثابة لجنة قاعدية) وقد نجح في قيادته وكان متفانياً وشجاعاً، وكسب عائلته للحزب، وتدرّج في عمله الحزبي فأصبح عضواً في اللجنة الطلابية في العام 1955 وكان يقود لجنة قاعدية إلى نهاية العام 1956 (أي ما بعد الانتفاضة)، ثم انتقل إلى مدينة الحلة بمهمة خاصة في جهاز طباعة الحزب، كما كان يقوم بطباعة جريدة صوت الفرات ويسكن في بيت المطبعة مع محمد الحيّاوي وعائلته.
وفي 24 أيلول (سبتمبر) العام 1957 دوهم بيت المطبعة واعتقل من فيه ونُصب الكمين لمن سيصل إلى البيت. وعندما علم محمد موسى بذلك، بادر إلى انقاذ عائلة الحيّاوي (زوجته وأطفاله: وائل وعلّيه) وتوجّه بهم إلى النجف، حيث أمّن لهم سكناً مؤقتاً. وقد اعتقل في منزل حزبي آخر كل من باقر ابراهيم وعدنان عباس وعبد الرزاق عبد الرضا وعباس كاظم وعائلة باقر جعفر (الذي كان قد اعتقل في بغداد وكان موقفه ضعيفاً) وحسين سلطان الذي وقع في الكمين، وهو ما رواه للفتى الرفيق عدنان عباس. وقد روى الحيّاوي الذي كان قد اعتقل في العام 1963 في خان الهنود ذلك للفتى الذي كان معتقلاً هناك أيضاً أن شجاعة وبراعة محمد موسى أنقذت العائلة وعدد من الرفاق. وكذلك استطاع إتلاف العديد من الوثائق الحزبية.
وكان الحيّاوي قد تعرّض إلى تعذيب وحشي في العام 1963 على أيدي الحرس القومي، حيث شدّ قضيبه بخيط غليظ بطريقة وحشية، وسال دماً غزيراً كما نقل للفتى في خان الهنود خلال اعتقالهما.
وفي أواخر العام 1957 نُقل محمد موسى إلى الديوانية في مهمة خاصة واستمرّ هناك حتى صبيحة الرابع عشر من تموز (يوليو) 1958 حيث عاد إلى النجف وانضمّ إلى التنظيم الطلابي الذي توسّع كثيراً، ثم استلم مسؤولية مدينة النجف في العام 1960 عندما أصبح صاحب الحكيم سكرتيراً للمحلية، حيث رشح محمد موسى عضواً للمحلية في العام 1961 ونقل إلى مدينة الحلة فأصبح عضواً في مكتب اللجنة المحلية ومسؤولاً عن لجنة المدينة، لكنه أعيد إلى النجف عندما أصبحت مركز الفرات الأوسط، لاسيما بوجود الأجهزة الطباعية.
نقل سامي عبد الرزاق (أبو عادل) للفتى عن فترة عمل محمد موسى في محلية الحلّة وإشرافه على تنظيمات المدينة، ويومها كان سامي عبد الرزاق رئيساً لاتحاد طلبة الحلة، وكان محمد موسى قد اتفق معه على ما سيتم مناقشته وطرحه في اجتماعات الاتحاد في بغداد، وينقل سامي عبد الرزاق أن الأجواء كانت متشنجة وانهم طالبوا بمنح الفرات الأوسط زمالات دراسية للدول الاشتراكية، وبعد فترة أبلغه أن رسالة من قيادة الحزب في بغداد قد وصلته تطلب محاسبته لأطروحاته ولأسلوبه الحاد مع سكرتارية الاتحاد، لكن محمد موسى أخبره بأن محلية الحلّة لا تأخذ بهذه الرسالة أو التوصية، ويضيف عبد الرزاق في رسالة خاصة للفتى، شعرت بالدفء والاطمئنان والسعادة، وهو ما كان يرافقني كلما كنت ألتقي مع محمد موسى.
أما عارف خوجه نعمة فيقول كنت مكلفاً بمسؤولية لجنة الريف المجاور حيث كان هو المشرف على عملي وقد كانت صلتي به فردية وكلفني بمهمات خاصة هو وصالح الرازقي، وربما كان المسؤول سابقاً كاظم الجاسم الذي استشهد العام 1970 وكان يحترمه كثيراً وكذلك الرازقي.
وبعد انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 وعلى أثر انسحاب قيادة المنطقة وكادرها إلى الريف، تقرر تشكيل قيادة مصغّرة من ثلاثة رفاق مقرها مدينة النجف ومن أعضاء اللجان المحلية، وكانت بقيادة محمد موسى، كما يقول عدنان عباس في رسالة خاصة للفتى بتاريخ 4/10/2002. وكان الرفيق باقر ابراهيم (أبو خولة) قد روى بالتفصيل في مذكراته فترة اختفاء قيادة منطقة الفرات الأوسط في الريف حيث كان معهم الرفيق زكي خيري الذي كان حينها معاقباً ويقضي فترة “تأهيل” بمصطلحات تلك الأيام وصادف حينها أن وقع انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963.
وكان التنظيم الجديد الذي التحق به الفتى بعد إطلاق سراحه قد رتـّب علاقة مع تنظيم الفرات عن طريق الرفيق عدنان الخزرجي الذي اعتقل بعد فترة وانقطعت صلة من تبّقى من التنظيم بالحزب. وكان الفتى قد تطرّق إلى جانب من علاقة أخرى بالحزب في الكاظمية في مداخلته عن حركة حسن السريع (3 تموز/يوليو/1963).
ويتذكر الفتى أن يحيى طربال ومجيد الحلوائي ورفيق آخر كانوا قد اعتقلوا مع محمد موسى وعذّبوا تعذيباً وحشياً في مقر الحرس القومي الذي كان مشرفاً عليه محمد رضا الشيخ راضي، وأن حالتهم كانت يُرثى لها وأن ظهورهم كانت عفنة جرّاء تشقق الجلد ولكثرة الجروح. وقد رووا للفتى كيف تم اعتقالهم مع محمد موسى، حين تمت مداهمة المنزل، في ذلك المساء الحزين. وقد ظلّوا لأكثر من شهر يتلقون العلاج في سرداب المعتقل الجديد تحت الأرض، إلى أن تحسّنت حالتهم الصحية.
وحول اعتقال محمد موسى روى عدنان عباس للفتى، انه وباقر ابراهيم قد غادرا النجف مشياً على الأقدام باتجاه ريف الكوفة، حيث قررت قيادة الفرات الأوسط ترك البيت الحزبي في محلة الجديدة، وفي اليوم نفسه تم كبس البيت، حيث كانت الثغرة عائلية، وتم اعتقال خالة محمد موسى أولاً، وبعدها تمت مداهمة الحرس القومي البيت الحزبي، وحاول محمد موسى مشاغلتهم لكنهم فاجأوه، ومن المنزل وحتى وصوله إلى مقر الحرس القومي في نقابة المعلمين كان يهتف ويندد بالانقلاب. وبعد تعذيب وحشي واتصالات تمت مع بغداد التي طلبته، فجاء ملازم طيار واصطحبه إلى أحد مراكز التحقيق والتعذيب وتردد أن المحققين قطعوا لسانه، وقيل أن الأمر حصل في قصر النهاية، وهو ما نقله في وقت لاحق للفتى مهدي الشرقي الذي كان أحد قادة الحرس القومي في النجف.
أكثر من مناضل ممن عملوا مع محمد موسى بمن فيهم من كانوا بموقع أعلى حزبياً،  كانوا يشعرون أنه مثالهم وقدوتهم، وتلك سيماء المناضل الحقيقي بغض النظر عن مواقعه الحزبية. وإذا كانت عائلة محمد موسى قد ظلّت لسنوات تسأل وتستفسر عنه ويُنقل لها أخباره وآخر من إلتقاه، فقد عاشت على أمل اللقاء به ولم ترغب تصديق أنه استشهد تحت التعذيب.
مثلما ظلّ قبر محمد موسى غير معروف، الاّ أن ذاكرة العشرات، بل المئات من النجفيين ومن اتجاهات مختلفة، ظلّت تختزن صورة البطل الشعبي الذي حاول تجسيدها من خلال تمثله بنجم البقال، الذي أعدم في العام 1918 على يد القوات البريطانية، بعد اغتياله الكابتن مارشال البريطاني.
الشخصية الرابعة هو حسين سلطان صبي (أبو علي) الذي أخبر الفتى أنه أصبح عضواً في الحزب العام 1938 وفي أواخر العام 1988 وأوائل العام 1989 قال لقد مضى على وجودي عضواًُ في الحزب نحو 51 عاماً، وكان يستعيد بعض المواقف بمرارة وألم، وإن ظل فخوراً بانتمائه، لكن الزمن والمرض أخذ منه الكثير.
يتذكّر الفتى أول مرّة إلتقاه كان في أواسط الخمسينيات، يوم ذهب مع عمه ورحيم الحبوبي وعبد الزهرة الحلو ومحمد موسى وربما آخرين لزيارة بيت شخص لم يرغبوا في الافصاح عنه، بعضهم قال أنه الحجي والآخر قال الشيخ وثالث خاطبه أبو علي، وكانت المناسبة ميلاد أحد أولاده، ربما تكون بشرى أو خالد، حيث جهّزت والدة الفتى الحلاوة (العصيدة) وجمعوا ما لديهم من والد الفتى وأحد الأقارب إضافة إلى خال رحيم الحبوبي ودسّ محمد موسى الهدية تحت وسادة الطفل، كان البيت قرب الطارات في ريف النجف، والأفق واسع أمامه والوصول إليه عسيراً وقد علم أنه انتقل منه بعد ذلك ارتباطاً بانتخابات العام 1954 أو بعدها، وإنْ كانت صورة هذا المشهد ضبابية تماماً لدى الفتى، لكن ما كان يعرفه وهو ما استحضره مع حسين سلطان لاحقاً، خصوصاً خلال الحديث عن ظروف الاحتراف الحزبي التي كانت قاسية وأن ما يخصص للرفاق المحترفين كان شحيحاً.
كان المرشحان عن الحزب الشيوعي: الشيخ محمد الشبيبي ود.خليل جميل، الأول عن راية الشغيلة والثاني عن القاعدة  على الرغم من أن الأول اعتبر مرشحاً مشتركاً، لكن مرشح التحالف الجبهوي معه كان محمد رضا السيد سلمان عن الحزب الوطني الديمقراطي، ومع أن الافتراق بين القاعدة وراية الشغيلة كان قد أحدث نوعاً من التنافس غير المشروع، المصحوب أحياناً بالتشهير، لكن شخصية الشبيبي فرضت نفسها رمزاً لوحدة الشيوعيين حينها. وبما أن منظمة النجف بقيادة حسين سلطان ” أبو علي” كانت في غالبيتها مع راية الشغيلة، فقد كان التوجّه العام هو تأييد مرشحها وقد اختار حسين سلطان الشيخ وهاب شعبان مرافقاً للشيخ الشبيبي، الذي كان يصطحبه الدكتور محمد رضا الطريحي طبيب الأسنان المعروف بسيارته إلى الكوفة، ليلتقي بالناس ويحييهم ويعرض برنامجه الانتخابي.
كانت الدعاية الانتخابية أقرب إلى الكرنفال حيث تم استغلال الأجواء الإيجابية التي فرضتها ظروف إجراء الانتخابات، حيث كان الشبيبي ومعه محمد رضا السيد سلمان يستقلاّن سيارة جواد مجيد المعمار ويطوفان بها مدينة النجف وضواحيها وأينما حلاّ قابلتهما الجماهير بالتحية والترحاب كما يتذكر الاستاذ عبد الجبار رضا عبد ننه في رسالة إلى كاتب السطور في 16/1/2012.
وبالمناسبة فقد كانت علاقة الشيخ وهاب شعبان قوية جداً برضا عبد ننه، وعلى ما يتذكّر الفتى أنهما حُشرا في غرفة واحدة في معتقل خان الهنود بعد أن تعرضا الى تعذيب وحشي في مقرّات الحرس القومي وكان الفتى قد إلتقاهما في أثناء الوجبة الصباحية لباحة خان الهنود، ونقل بعدها عبد ننه، أما وهاب شعبان فقد بقي في إحدى غرف خان الهنود، حتى أطلق سراحه.
وحدّث حسين سلطان لاحقاً الفتى بأن وهاب شعبان كان مرافقاً للشيخ الشبيبي، وعندما يولم يتصدر المجلس ليوزّع الموجود على الطريقة العشائرية ، لكنه يأخذ الفخذ بيده اليمنى وبلهفة واحدة ينظف اللحم من العظم. وفي إحدى المرّات سأل الشيخ وهاب شعبان الشيخ محمد الشبيبي فيما إذا فاز في الانتخابات هل سيأخذه معه إلى بغداد، وكان جوابه بحضور حسين سلطان، إذا كان توزيعك ” عادلاً ” مثلما تفعل اليوم وهي “حسجة” (كناية الشيء بضده) فالأمر مسألة فيها نظر، وضحك الجميع!
وكانت علاقة الفتى علاقة إعجاب بأبو علي، وتعززت في السبعينيات عندما ظهر أبو علي للعمل العلني وفي مقر اللجنة المركزية، والتقاه عدّة مرّات، ولكن علاقته توطّدت في الخارج في بلغاريا وسوريا وبراغ وفي إحدى مطارحاته مع أبو علي، سأل الفتى مَنْ مِنْ رفاق النجف الذين صاحبتهم ظلّوا في ذاكرتك فبدأ بباقر ابراهيم الذي قال عنه أنه صاحبي منذ أكثر من نصف قرن من الزمان، واشاد بدور صاحب الحكيم الذي قال كان هو عائلته ملاذنا واستذكر حسن عوينه متوقفاً عند خفة دمه ودماثة أخلاقه وبطولته، واستحضر أبو هشام “محمد حسن مبارك”، ثم قال بقي لي أن أتذكر أحد أبرز رفاق النجف وأكثرهم شهرة وهو رضا عبد ننه. ولم أشأ في هذه العجالة نقل حديثه المطوّل عن سلام عادل ” أبو إيمان” فذلك ربما سيجد طريقه في مناسبة أخرى.
وأردف  حسين سلطان قائلاً للفتى كنت أتمنى الاّ ينحاز ” أبو جبار” مع الانشقاق عام 1967، ثم واصل حديثه لقد خسرنا الكثير من الرفاق بسبب سياساتنا، وكنا نضيّع الفرص، وإذا ما أضعنا فرصة قلنا أمامنا فرص كثيرة، لكننا لم نستغلها، وهكذا كانت الفرص تضيع من بين أيدينا ولم نحسن استخدامها، كما لم نحسن الحفاظ على الرفاق، وكم بددنا وكم تعاملنا بسوء تصرف؟ ليس على الصعيد السياسي، بل على الصعيد الشخصي، والحزب يبذل الكثير لبناء كادر ويقضي  سنوات طوال لوصوله إلى ما وصل اليه، وإذا بسياستنا التنظيمية تفرّط به بسهولة بسبب رأي أو وجهة نظر أو حتى خطأ، بل الأكثر من ذلك نبدأ بالتشهير به وتشويه سمعته وتسويد صورته!.
وقد سأله الفتى عن آخرين، لكن موضوع هذا الحديث هو رضا عبد ننه، الذي قال عنه كان شجاعاً ووضع عائلته وكل ما عنده في خدمة الحزب، ثم مضى للقول: علينا أن نتذكّر الناس الذين ضحّوا حتى وإن اختلفنا معهم. ووقف الفتى مع أبو علي وإلى جانبه في الظروف القاسية التي عاشها في سنواته الأخيرة، لاسيما عندما جرت محاولات للاساءة إليه وإهماله، وهو في وضع صحي صعب للغاية ويعاني من أمراض عديدة، وكان قد أُسكن في بيت رطب وتنقصه أسوأ مستلزمات الراحة في مخيم فلسطين في الشام، وقد كان للصراع الحزبي غير العقلاني دوراً في محاولات الاقصاء والتهميش التي تركت تأثيراتها السلبية على عموم الحزب، لاسيما ما فيها من جحود وتنكّر.
وعندما قرر أبو علي العودة إلى العراق حينما اشتدّ المرض عليه وتعرّض إلى ضغوط كثيرة، لم يكن الفتى معه في هذا التوجّه، على الرغم من أن اجتماعاً ضم عامر عبدالله وماجد عبد الرضا وعدنان عباس وأحمد كريم وعباس عبيدش وربما آخرين كان قد أيّد عودته، إضافة إلى دعم باقر ابراهيم وتأييد نوري عبد الرزاق ومهدي الحافظ، لكن الفتى على الرغم من معارضته في الاجتماع المذكور، لم يترك حسين سلطان حتى آخر لحظة، وعندما وصلت أم علي من بغداد إلى براغ، كان الفتى يلتقي معهما يومياً وذهب في توديعهما إلى المطار، وكان الوحيد في ذلك.
وللأسف ضاعت بعض أوراق كتبها حسين سلطان عن عملية هروبه من سجن الحلّة، ومع أن نجله خالد كان قد أصدر كراساً عنه، لكن هذه القضية ظلّت غير معروفة ولم تأخذ قسطها الوافي فيما نشر حتى الآن، وهي عملية بطولية، حيث تم حفر نفق طويل من سجن الحلّة إلى الشارع وهرب منه كثيرون قبل اكتشافه، وحاولت السلطات إلقاء القبض على القسم الأكبر منه.
وكان الفتى بعد حوالي شهر (أواخر العام 1967) قد ساهم في عملية إنقاذ أحد الهاربين من سجن الحلّة، وهو الرفيق سعدون الهاشمي وأحد رفاقه، حيث تم نقلهما بواسطة سيارة كبيرة (حافلة) تضم أعداداً من الطالبات والطلاب في سفره إلى قرب سدّة الهندية، وفي طريق العودة توجهوا لنقل الرفيقين دون أي إلفات نظر ووصلوا جميعاً سالمين، ويتذكر أنهما نقلا إلى مكان اختفاء في منطقة الزويّة في الكرادة.
وأصبح الهاشمي صديقاً حميماً له وظلّ يلتقيه على الرغم من هروبه من السجن حيث كان محكوماً لمدة 20 عاماً قضى منها نحو خمسة أعوام في قضية خاصة بالكاظمية في العام 1961، ثم سافر إلى الخارج بعد انقلاب العام 1968 بعدّة أشهر واستقر في لبنان ثم في دمشق ، وعمل مع المقاومة الفلسطينية وما زال أحد قادة إحدى الجبهات الفلسطينية.
وللأسف فقد قتل شقيقه سامي الهاشمي في 28 أيلول(سبتمبر) العام 1968 في حادث مؤسف وملتبس في كلية الإقتصاد والعلوم السياسية التي كان الفتى قد تخرّج منها، وقد اتهم في حينها التنظيم الخاص باللجنة المركزية، وتلك قضية تستحق وقفة أخرى، وللفتى وجهة نظر خاصة بها.
كان أبو علي مثالاً للصدق والنزاهة والمناضل الشعبي الذي لم يكن له شيء سوى الحزب ولا غير، وكان قائداً شعبياً بارزاً على الرغم من أن تحصيله العلمي بسيطاً، فلم يكن قد واصل دراسته الاّ في الصفوف الأولى من الابتدائية، لكن مدرسة الشعب والحياة كانتا كبيرتين وصنع منه الحزب قائداً مقداماً وصاحب رأي ومجتهد، على الرغم من بساطة بعض أطروحاته، لكن حضوره كان مؤثراً جداً وكان هو وثابت حبيب العاني (أبو حسّان) عضو المكتب السياسي “المغدور” من طرف ثلة هيمنت على الحزب في الثمانينيات من القيادة، وقد سبق للفتى أن كتب عن ذلك في دراسته عن عامر عبدالله وفي أكثر من مناسبة، حيث كانت لهما كاريزما خاصة، وكان الفتى يتعجّب كيف يستطيع أبو علي وأبو حسّان التأثير على أوساط عربية مختلفة ويحظيان باحترام كبير وتقدير عال، وأظن أن صدقيتهما وشجاعتهما وبساطتهما هي التي كانت تقف خلف ذلك.
بقي للفتى أن يذكر أن حسين سلطان كريماً ويولم وهو يجيد فن الطبخ، وإذا ما طبخ التشريب يضعه فيه 14 نوعاً أو صنفاً يحفظها عن ظهر قلب، أما الدولمة فلديه صناعة، حيث كان يجيد عملها ، لاسيما توابلها، وقد تذوّق الفتى عدّة مرات ما كانت أيادي حسين سلطان تصنعه من مأكولات “يولم” عليها، وفي إحدى المرّات في المدرسة الحزبية في صوفيا، ذهب يدقّ على أبواب الرفاق العرب لكي يشاركوننا طبيخنا النجفي العراقي، كما كان يقول!!.
الشخصية الخامسة كان الشيخ محمد الشبيبي والد الشهيد حسين الشبيبي الذي أعدم مع أمين عام الحزب الشيوعي يوسف سلمان (فهد) ومحمد زكي بسيم، يوم 14 شباط (فبراير) 1949 واعتبر هذا اليوم لاحقاً يوم الشهيد الشيوعي. كان الفتى يراه يجمع ما بين الدين وما بين اليسار، خصوصاً وأن صورة بعض رجال الدين لم تكن مشجعة، لاسيما جانب التزمّت والإغراق في الطقوسية على حساب قيم الدين الصحيح، المأخوذ بالتسامح ومحاربة الاستغلال ورفض الظلم والبحث عن الكرامة الانسانية والعدالة والسلام والخير، ناهيكم عن أن بعضهم كان متواطئاً مع رجال الحكم آنذاك، الأمر الذي كانت صورته معتمة في أنظار العامة، لاسيما الفقراء والكادحين منهم في المدينة ذات الأطر الدينية والثقافية، وذات المسحة المدنية التقدمية من جهة أخرى، وهي التي وصفها الدكتور السيد مصطفى جمال الدين بعمق ودلالة بقوله ” الفكر المنفتح في المجتمع المنغلق” أي أن ظاهرها السائد هو صرامة التقاليد وثقل العادات وأسر الموروث، لكن واقعها كانت تتقبّل الجديد بل وتسعى بكل جوانجها إليه، لا في الأفكار فحسب، بل في الكثير من القضايا بما فيها صيحات المودة أحياناً.
كانت صورة الشبيبي ذات هيبة كبيرة، وكان يمرّ من أمام منزل الفتى يومياً ذهاباً وإياباً، وكان ذلك يُفرح الفتى ويجعله يشعر بالامتلاء، لأن شخصية وطنية كبيرة مثل الشبيبي كان يحييه وهو يلعب في زقاق “عكَد السلام” أمام بيته أو بالقرب منه، وكان أحياناً يسائله، فهو قريب وجار في الآن ذاته، ولا يبعد منزله عن منزل الفتى سوى بضعة عشرات أو مئات من الأمتار ولا يحتاج للوصول إليه سوى دقيقتين أو ثلاث دقائق.
وذات يوم طلب منه أحد أصدقاء عمه بأن عليه أن يقبّل يد الشيخ عندما يمرّ من أمام البيت، لأن ذلك تقليد ولا بدّ من اتباعه وهو في الوقت نفسه إظهار الاحترام والهيبة للشيخ “الأحمر” كما كان يسمّى وردّ فعل إزاء خصومه، الذين يقفون ضده صراحةً أو سرّاً، لكن الفتى فوجئ بهذا الطلب واحتار ونظر إلى عمه فلم يعلّق، وانتظر الصديق ينصرف، فقال الفتى لعمه بلهجة أقرب إلى العتاب، عندما رفضت أن أقبّل يد جدي الحاج حمود شعبان، حيث كان يتسابق الجميع على ذلك طمعاً في العيدية والعطايا، أنت من أبديت الاعتزاز بي وكذلك عمي ضياء، بل حتى عززتما من موقفي، في حين كانت والدتي تشجعني على تقبيل يد عمي د. عبد الأمير عندما يأتي لزيارتنا أو في المناسبات، وكانت والدة الفتى تلومه لأنه يمتنع عن تقبيل يد والدها وكبار العائلة.. وسأل عمه فكيف تريد أن أقبل يد الشيخ وفي الزقاق وأمام الجميع؟ فما كان منه الاّ أن قبّل الفتى وحثّه على التمسك بكرامته وقال نحن لا نقبّل الأيادي، بل نحترم الشيخ لمكانته ولدوره، فضلاً عن العلاقة التي تربطنا به وبأولاده لاسيما كفاح وهمام، والأكثر أن ولده حسين أحد كبار شهداء الحزب، والنجف تعتز به وأنه ولده محمد علي أحد مؤسسي الحركة الشيوعية في النجف مع مرتضى فرج الله.
كانت كلمات عم الفتى قوة له وشعر أنه لا ينبغي أن يتصرّف بما يريده الآخرون، وتلك احدى مزايا العلاقة الحميمة والمتكافئة والمستقلة والمحترمة التي ظلّت تربط بعمه حتى بديا صديقين أكثر من علاقة عم بإبن أخيه. عندما كبر ظل يردد مع مظفر النواب:
” ما طول بالريّة نفس
ما نكوع نحب الجف
أيام المزبّن كضن
تكضن يا أيام اللف!
كان منبر الشبيبي أقرب إلى اجتماع جماهيري لمنظمة الحزب في النجف، على الرغم من أنه يجتمع فيها الكثير من الناس، لاسيما من يريدون سماع انتقادات ضد الحكومة. وكان الشبيبي يكرر أنه يتمنّى أن يموت بعد أن يحظر نهاية الظالمين، لاسيما الذين قتلوا الشهيد الشهيد الحسين ويدخل هنا في تورية، بين الحسين بن أبي عبدالله وبين ولده حسين، ولعل  أمنيته تلك قد تحققت، لاسيما بسقوط النظام الملكي، وبعد أشهر فارق الحياة وحينها تم تشييعه بمواكب مهيبة ، وكانت إحدى المجموعات التي انضم اليها الفتى تردد:
صاح المشيّع صاح
والد الحسين الراح
قاهر الاستعمار
ومحرّر الأفكار
سلم وعدالة يريد 
سلم وعدالة يريد
ولا تزال ذاكرة الفتى خضراء حول ” تحريم ” شراء بيت الشبيبي بعد وفاته والاشاعات التي رافقت ذلك، سواءً تلك التي كانت تقال همساً وتلميحاً أو حتى تصريحاً، وتلك إحدى مفارقات المشهد الديني والسياسي، لاسيما عندما يتم التلاعب بعواطف بعض العامة، ويُرهب من يخالف ذلك، ويتم توظيف الدين سياسياً، لاسيما إزاء رجل دين مرموق مثل الشبيبي. وقد استذكر الفتى ذلك مع حفيدة الشبيبي السيّدة شذى وكذلك مع حفيده الرفيق محمد الشبيبي، نجل محمد علي الشبيبي.
كان الشبيبي يردد في مجالسه التي تقام في النجف وخصوصاً في محلّة البراق ذات الكثافة اليسارية ” يا حسين يا عزّي وكفيلي” وهو يقصد الإمام الشهيد الحسين وولده حسين وينتقد السلطات الحاكمة التي كانت تدس أحد جواسيسها لتسجيل أو لنقل ما قاله الشيخ من انتقادات. وكان الجاسوس اسمه حنش وهو معروف من الجميع بما فيهم الشيخ الشبيبي. وذات يوم ضاق الشيخ ذرعاً بوجوده، كما يذكر عبد الحسين الرفيعي في كتابه ” النجف الأشرف: ذكريات ورؤى وانطباعات ومشاهد”. وتمخّض خيال الشيخ عن اختراع حكاية حول جهنم التي يكشف فيها  الله الجواسيس الذين يؤذون الناس ومنهم شخص اسمه حنش لأنه يلفق التهم ضدهم، حيث يقوم الله بمحاسبة الجواسيس حساباً عسيراً، وهذا جزاء الجواسيس وكان يطلب من مستمعيه أن يرددوا: لعنة الله على حنش، ويردد الحاضرون ذلك، وهم يعرفون من يقصد، الأمر الذي اضطرّ الجاسوس حنش إلى مغادرة المكان، وسط تنابز الحاضرين.
الشخصية السادسة رضا عبد ننه
هو ابن صاحب المقهى الشهير ” مقهى عبد ننه”  وكان والده الحاج عبد ننه (العلي) شخصية اجتماعية مرموقة ويحظى باحترام أهالي النجف وزوّارها الكبار الذين كانوا يجدون في المقهى مكاناً مناسباً للتلاقي ولتسوية بعض المعاملات بما فيها البيع والشراء، وقد ورث رضا عن والده ملامح شخصيته المتميّزة وسماتها الكارزمية الخاصة، وكان مثل والده مصدر ثقة منذ شبابه لحل المشاكل بين الأصدقاء والتوسّط لقضاء بعض الحاجات، وهكذا كان وجهاً جماهيرياً قبل أن ينخرط في صفوف الحزب الشيوعي. وكان متمرداً منذ فتوته، حيث فصل من المدرسة الثانونية بسبب خلاف مع مديرها.
وقد روى رضا عبد ننه للصديق عبد النبي حسن الدلال ” أبو فاروق” في أواسط الستينيات، أنه عندما تم فصله من المدرسة، حاول الانتقال منها إلى مدرسة أخرى لكنه لم يفلح في ذلك وكانت حينذاك توجد مدرسة مخصصة لأبناء الجالية الإيرانية، فاضطر للتقدم إليها، وقبل بها الاّ أن إدارة المدرسة الإيرانية فصلته هي الأخرى بعد أن علمت أنه لا يحمل الجنسية الإيرانية ، فاضطرّ بعدها للانتقال إلى كربلاء والدراسة في إحدى مدارسها، وكان ذلك خلال سني الحرب العالمية الثانية.
كان مقهى عبد ننه قد أصبح في أواخر الثلاثينيات وبداية الاربعينيات ملتقى للنخبة، حيث ضم أفواجاً من السياسيين إضافة إلى رؤساء العشائر والتجار والموظفين، وهو يختلف عن بعض المقاهي الأخرى، في حين كانت هناك مقاهي تختص بدفن الموتى ” أهل الصيحات” أو خاصة بتجار الأغنام، أو الجِمال خصوصاً في منطقة الجِديدَة ” المناخة” أو للحبوب، وازدهرت لاحقاً مقاهي خاصة بالقوميين، وأخرى خاصة باليساريين، لاسيما من الشباب وكانت مقاهي متخصصّة ببيع الطيور وأنواعها وأصنافها وهو ما يذكره الصديق عبد النبي حسن في رسالته إلى الكاتب.
نشأ رضا عبد ننه ” أبو جبار” في هذا الوسط الوطني والاجتماعي، لاسيما خلال الحرب العالمية الثانية حين انقسم الناس بين مؤيد لدول المحور وللألمان والنازية من جهة، وبين مؤيد لدول التحالف المعادي للفاشية، خصوصاً من المعجبين بالإتحاد السوفييتي، وقد أحدثت قصائد الجواهري عن (سواستبول) و(ستالينغراد) هزّة في نفس الشباب، لاسيما ما كان يحرزه الجيش الأحمر من انتصارات على جبهات القتال.
كان المقهى أشبه باجتماع، أو ملتقىً أو مؤتمر يومي لما يدور فيه من مناقشات خصوصاً بتنوّع زبائنه، وكان الشاب رضا بحسّه الثوري وسليقته العفوية والانسانية يميل إلى جهة اليسار، خصوصاً وأن المدينة ضمّت عشرات الأسماء اللامعة منهم، لاسيما ولدي الشيخ محمد الشبيبي، محمد علي والشهيد حسين والشاعر محمد صالح بحر العلوم ومرتضى فرج الله ومحمد مهدي الجواهري ومحمد مصطفى الحكيم، وحسين مروّة ومحمد شرارة وآل الخليلي وشخصيات متنوّرة من آل الشبيبي، ولاسيما الشيخ محمد رضا وسعد صالح وأحمد الصافي النجفي وغيرهم، ومنذ بداية الأربعينيات بدأ يتكوّن تنظيم حزبي شيوعي في النجف، حتى أن هذا التنظيم أرسل من يمثّله إلى الكونغرس الأول للحزب عام 1944 و إلى مؤتمر الحزب الأول العام 1945، ومنذ البدايات برز رضا عبد ننه كمناضل مقدام ووجه اجتماعي، حيث شارك في وثبة كانون الثاني ” يناير” العام 1948، تلك التي أطاحت بمعاهدة بورتسموث، كما شارك في انتفاضة تشرين الثاني ” نوفمبر” 1952، ولعب دوراً بارزاً فيها وقد استشهد فيها شقيقه محمد “حمودي ” كما جرت الإشارة إليه وكان لأول مرة قد ارتفع في سماء مدينة النجف شعارات تطالب بالنظام الجمهوري وتشكيل حكومة برئاسة كامل الجادرجي، وأن يكون الجواهري وزيراً للمعارف فيها، وقد أعلن تلك المطالب المناضل محمد عبد الكريم، وكان أبرز قيادات الحزب آنذاك حسين سلطان وعبد الأمير الخيّاط وحسن عوينه وعوّاد رضا الصفار وآخرين.
كان الفتى قد سمع باسم رضا عبد ننه المناضل الكبير، وهو يعرف مقهى عبد ننه الذي كان يجلس فيه عمّه ضياء وأحد أبناء عمه عبد شعبان “معين” كما كان جده الشيخ جابر شعبان الذي توفي في العام 1945 من رواد المقهى ومن أصدقاء الحاج عبد ننه كما عرف ذلك من عمه ضياء. وكان يتمنى أن يلتقيه في أحد الأيام في المقهى حتى ولو عن طريق الصدفة. وكان عمه ضياء يفتخر بأنه من أصدقاء سلام عادل، خصوصاً بعد أن ظهر للعمل العلني العام 1958، كما كان يقول أنه من أنصار السلام وأنّه وقّع على نداء استوكهولم، كما كان صديقا في الوقت نفسه لرضا عبد ننه، وفي عمر مقارب منه، أما والد الفتى فلم يكن من جلاّس المقاهي لكنه كلما كان يمرّ من أمام المقهى، كان يؤدي التحية إلى صاحبه، وأحياناً إلى بعض زوّاره.
كانت مشاركة الفتى المباشرة في انتفاضة العام 1956 مناسبة للبحث عن عدد من الوجوه عسى أن يراها من بينها رضا عبد ننه وصاحب الحكيم وحسين سلطان وآخرين، لكنه لم يرَ أحداً منهم، لأن الغالبية الساحقة كانت ترتدي الغترة البيضاء أو اليشماغ والنظارة السوداء لإخفاء ملامحها، حتى أن محمد موسى الذي كان قد التقاه قبل يوم فقط وشجّعه على إلقاء قصيدة في تلك التظاهرة لم يعثر عليه الاّ عندما رأى قنينة المولوتوف التي يحملها، وعندما حمله المتظاهرون إلى أعلى تطلّع في الوجوه والرؤوس لكنه لم يلقَ مراده، كان يتمنى أن يتعرف على الأسماء التي ظلّت تتردد دون أن يراها، حتى عمّه شوقي ضاع عليه لولا مشيته المتميّزة وحركة يديه عند الهتاف.
لاحقاً عرف الفتى أن رضا عبد ننه اعتُقل ووالده الحاج عبد ننه واقتيد إلى المجلس العرفي العسكري في الديوانية وعند إطلاق سراحه اختفى في النجف التي كان يقود منظمتها الشيوعية محمد حسن مبارك بعد اعتقال سكرتيرها حسين سلطان في أواسط العام 1957 وسفر أحد أعضائها في وقت سابق ” علي عبود السيد سلمان” إلى براغ ، ولم يظهر إلى العلن إلاّ يوم 15 تموز (يوليو) 1958 ليكلّف بقيادة تظاهرة النجف المؤيدة للثورة.
ويروي المناضل عبد البني حسن الدلال إن تظاهرة النجف انطلقت الساعة الرابعة والنصف ظهراً في ذلك اليوم التموزي الحار عند باب الصحن الحيدري المقابل للسوق الكبير ورُفعت الشعارات وكان الشعار الثاني يحمله كل من صباح المعمار وعبد النبي حسن مكتوب عليه “الاتحاد الفيدرالي مع الجمهورية العربية المتحدة طريقنا إلى الوحدة العربية”ودخل المتظاهرون إلى السوق الكبير ثم انتقلوا بعدها إلى شارع الصادق، وتجمعنا نستمع إلى الكلمة الختامية، حيث ارتقى ” أبو جبار” أكواماً من مواد إنشائية “طابوق” كانت مهيأة للبناء قرب باب الصحن وألقى كلمة منظمة الحزب وأعلن انتهاء التظاهرة. وهو ما يذكره صاحب الحكيم أيضاً الذي كان مسؤولاً لقضاء الشامية حينها ووصل إلى النجف بعد إعلان الثورة يوم 14 تموز (يوليو) 1958، وساهم في الإعداد لهذه التظاهرة الكبيرة، بعد أن كانت بعض التظاهرات الصغيرة والعفوية في الغالب قد انطلقت من المدينة بُعيد إعلان الجمهورية.
كان الفتى آنذاك في بغداد وشهد اندلاع الثورة وشاهد كيف قتل الأمير عبد الاله وعُلّقت جثته قبل تقطيعها وسحلها في الكرخ في فندق أصبح اسمه “فندق النصر” لاحقاً، وكيف أعلن عن قتل العائلة المالكة وكيف قُتل وسُحل نوري السعيد، وقد تركت تلك القسوة أثراً سيئاً في نفس الفتى كلّما تذكّره وفي حوار مطوّل معه قال: إذا كان نوري السعيد متّهماً بارتكاب جرائم ويستحق العقاب، لكنه كان ينبغي أن يقدّم إلى محاكمة عادلة مستبشعاً العمل الإجرامي اللامسؤول بالقتل خارج القضاء. ولعل ذلك خلاصة تجربة حياتية فكرية وسياسية واصلها الفتى طيلة عقود من السنين، ولا يخفى فيها تحميل المسؤولية لمن يستحقها دون لبس أو غموض.
بعد الثورة إلتقى الفتى المناضل المهاب رضا عبد ننه على نحو عابر وسلّم عليه وكأنه على معرفة به، وعاد وعرّف بنفسه، وكان قد برز في العمل النقابي وقبلها في منظمة أنصار السلام، وعندما تقرر تأسيس المقاومة الشعبية في النجف اختير رضا عبد ننه معاوناً لآمرها الملازم الاحتياط عبدالواحد الخلف، صديق خاله المحامي جليل شعبان، وبالحقيقة فقد كان هو القائد الفعلي، لكنه تعرّض للاعتقال بعد اتجاه قاسم نحو الدكتاتورية، حيث اعتقل عدّة مرات حتى في أيام عرس الثورة كما يقال، وفي أواخر العام 1960 لفقت تهمة لقادة العمل العمالي والنقابي في النجف فاعتقلوا، وكان بينهم شهيد أبو شبع وشاكر شريف وناجي صبي وجعفر خليفة ورضا عبد ننه، وأحيلوا إلى المجلس العرفي العسكري وحكم على ابو جبار بالسجن ثلاث سنوات، حيث بقي سجيناً لغاية أواخر العام 1964.
كان الفتى قد انضمّ إلى الحزب وأصبح عضواً فيه وعندما استلم عضويته ذهب مع صديقه علي الخرسان للجلوس في مقهى عبد ننه، وكان في خلية للمرشحين والأعضاء، حتى قبل أن يصبح عضواً، ضمت كل من د. كوثر الواعظ (هيثم) وجبار رضا عبد ننه العلي (ناهض) وعلي الخرسان (وائل) وطارق شكر (خالد) والفتى سلام ثم سامي وآخرين لا يتذكرهم، وكان رحيم كَاطع الغزالي مسؤولهم، وكانوا ضمن التنظيم الطلابي، حيث جاءهم أنيس كاشف الغطاء مشرفاً وفي مرّة أخرى عبد النبي حسن الذي أصبح المسؤول الأول للجنة الطلابية الحزبية وهو أحد الوجوه الاجتماعية في المدينة. وعندما عمل مع التنظيم الجديد بعد إطلاق سراحه عند اعتقاله في العام 1963 تقرر أن تظهر بعض الوجوه العلنية في المدينة لإثبات وجود الحزب، فاختار هو وصديقه علي الخرسان الجلوس ليومين متتاليين في مقهى عبد ننه وكأنه إعلان للتحدي.
روى عبد النبي حسن للفتى وهو أحد أصدقاء عمره بعد سؤاله عن علاقته برضا عبد ننه: أنه بعد إطلاق سراح بعض المناضلين وعودة بعضهم من مخبأه أو منفاه اجتمعنا في كراج لتصليح السيارات في شارع الشيخ عمر يملكه الصديق فيحان أحمد، وضمت المجموعة شمسي الكرباسي وحامد عجينة  وموسى الجواهري وعماد الرفيعي وعبد الاله القزاز وأنيس كاشف الغطاء وحسن بنينة ورضا عبد ننه الذي كان ” أكثرهم ثقة بهدوئه وروح النكتة والسخرية اللاذعة وقصص المدينة التي كان يرويها، وكانت تبدد الجدب والخواء الذي كان يخامر بعض منا” كما ورد في رسالته إلى الفتى، ويردف بالقول أن الرجل يملك خزيناً لأحداث ووقائع ورجالات النجف للفترة بين العام 1940 والعام 1960.
وبعد انقطاع إلتقى الفتى برضا عبد ننه عن طريق الصدفة في شارع الرشيد، وكان ذلك في أواسط الستينيات، وبعد السلام والكلام أخبره بأنه يداوم في الكلية وسأل عن مزاج الطلبة وأوضاعهم، لكن العلاقة الحقيقية بينهما تمت بعد انشقاق القيادة المركزية في 17 أيلول (سبتمبر) العام 1967، وقد حاول معه كثيراً لاقناعه للانضمام إلى القيادة المركزية، وعلى الرغم من أن الفتى كان أميل إلى أطروحاتها، إلاّ أن الأساليب العنفية والصدامية التي اتخذتها جعلته ينفر من اتجاهها، فضلاً عن عدم قناعته بها، الأمر الذي أبعده عن فكرة الالتحاق بالقيادة المركزية، على الرغم من كثرة ملاحظاته على سياسات اللجنة المركزية سواءً ما هو معروف مثل خط آب العام 1964 الذي خفّض من نبرة شعاراته ضد حكومة عارف، بل وكانت هناك دعوات مستترة أو خجولة للانضمام للاتحاد الاشتراكي أو للاندماج معه كما كان القادة السوفييت يرغبون، فضلاً عن بعض مواقفها التي لم يكن يجد فيها ما يتناسب مع الحسّ الشعبي، لاسيما بخصوص المسألة الفلسطينية وهو ما رواه لاحقاً بمحاضرات وكتب ودراسات، ولعل ذلك إضافة الى ملاحظات أخرى كانت نقطة افتراق بينه وبين الاتجاه السائد، وهو ما دوّنه في كرّاس بعنوان “بعيداً عن أعين الرقيب- محطات بين الثقافة والسياسة-“.
التقى الفتى برضا عبد ننه بعد إلقاء القبض على عزيز الحاج وما أشيع عن اعترافه، وهو ما أخبره به الفتى حيث كان قد سمع ذلك من بعض المتنفذين والمسؤولين أو القريبين عن قيادة حزب البعث، لكن رضا عبد ننه لم يكن يصدّق ذلك أو أنه لا يريد أن يصدّق، خصوصاً عندما تنهار صورة الرمز، لكنه بعد نحو شهر من ظهور عزيز الحاج في مقابلة تلفزيونية مع محمد سعيد الصحاف، التقاه وكان متألماً وعلى غير عادته، منفعلاً كثير التشاؤم والوجوم وكان آنذاك يقود ” موتورسيكل” دراجة نارية وأخبره أن ظروفه ستكون صعبة وأن القادة يذهبون ويأتون والحزب والشعب هما الباقيان، وبعد أن كانا يلتقيان بشكل شبه نظامي، قدّر الفتى ظروف صاحبه، لاسيما وقد كان الفتى قد بدأ يُعرف، لأنه كان مفاوضاً مع عدد من منظمات الحزب الحاكم في بغداد، ولأن أبو جبار كان كادراً سرياً فقد حرص الفتى على ترك موضوع اللقاء إليه، دفعاً لأي التباس أو اختراق قد يحصل، وهو ما فضّله الفتى لكنه أعطاه تلفونه للاتصال إذا رغب في يوم ما ولأي سبب كان وتعانقا، لكنهما عادا والتقيا في يوم 21 آذار (مارس) 1970 بعد التظاهرة التي شارك فيها الحزب الشيوعي ابتهاجاً بصدور بيان 11 آذار (مارس) لحل المسألة الكردية.
لكن هذه التظاهرة تم قمعها مع أن قيادة اللجنة المركزية كانت تؤكد أنها أخذت موافقة قيادة الحزب الحاكم والدولة بالخروج للاحتفال بالمناسبة، وعند تفرق المتظاهرون كل حسب الاتجاه الذي أخذه واعتقال بعضهم وضرب بعضهم الآخر، كان الفتى يتجه مشياً على الأقدام من الميدان إلى شارع الرشيد وإذا به يلتقي عن طريق الصدفة أبو جبار ” رضا عبد ننه” وكان قد عرف ما حصل واستغرب خروجه علناً، واقتاده إلى أحد أزقة الحيدر خانة وهناك صبّ جام غضبه على اللجنة المركزية وسياساتها، واستمع إليه الفتى وعندما أفرغ ما عنده، طرح عليه سؤالاً إلى متى نبقى منقسمين؟ ألم يحن الأوان للتلاقي بإيجاد صيغة للعودة للحزب، فقد عاد حسب علمه عشرات في قطاع الطلبة والشباب وفي مجالات أخرى.
كان رأي رضا عبد ننه إلى أن ينتهي التيار اليميني، وإلى أن يصحح الحزب أوضاعه ويتخلّى عن سياسة التحالف، عندها سيكون ذلك ممكناً وعبر اتفاق شامل تحقيق الوحدة. كان أبو جبار في هذه المرة الأكثر تطرفاً، ربما بسبب قسوة ما حصل وربما للشعور بالضيق والحصار، وربما للألم الذي أصابه لاستشهاد بعض رفاقه وانهيار البعض الآخر، فقد أشيع عن استشهاد  أحمد محمود الحلاّق ومتي هندو وشعبان كريم وعزيز فعل ضمد وسامي محمد علي وإعدام صالح العسكري.
علم الفتى لاحقاً أن اختراقاً قد حصل في تنظيم القيادة المركزية التي أصبح رضا عبد ننه مسؤولاً عن جزء من تنظيمات بغداد، وكان (س.ح) قد انتقل من تنظيم إلى آخر، ثم استقر في القيادة المركزية بعد أن التحق بالمقاومة الفلسطينية، وقد حامت شبهات حول السبب وراء اعتقال رضا عبد ننه ومجموعة التنظيم الجديد في بغداد وبعض المحافظات، حيث اعتقل لاحقاً فيها الشاعر الصديق خالد الأمين في الناصرية واستشهد تحت التعذيب، وحصل اختراق في كردستان أيضاً بانفجار قنبلة في مقر أو مقهى بالقرب منه، لقاعدة أنصارية شيوعية تابعة للقيادة أدّت إلى استشهاد أو جرح أحد الشيوعيين، وجرت محاسبات لاحقاً ساهم فيها ابراهيم علاوي الأمين العام لحزب القيادة المركزية بعد عزيز الحاج في كردستان وقيل أنها تسببت في تنفيذ عقوبات صارمة ضمن من تم اتهامهم بالاختراق وبينهم عضو قيادي.
عند سماع الفتى هذه الأخبار وغيرها مما لا يمكن إدراجه في مادة مكتوبة لمسؤوليته الأدبية والأخلاقية والقانونية، كانت صورة رضا عبد ننه الناصعة، المهابة، تظهر أمامه، فلم يفكّر في شيء سوى بالحزب وحب الشعب وخدمة الناس، وتلك سجايا المناضلين الأوائل، وبسبب ذلك حاز الحزب على جماهيرية في تلك الأيام، بما فيها في الأوساط الدينية، حيث كان يساهم، بل ويقود المناسبات الدينية ويوجهها الوجهة الوطنية المعادية للاستعمار، حيث عمل بنكران ذات وصدق وشجاعة.

* مفكر وأكاديمي عراقي له أكثر من 50 كتاباً مطبوعاً.

أحدث المقالات