23 ديسمبر، 2024 5:53 م

إقالة الجابري عن منصب الوكيل الأقدم .. إقالة للتاريخ القديم !

إقالة الجابري عن منصب الوكيل الأقدم .. إقالة للتاريخ القديم !

جابر الجابري أمة شعرية عالية وتاريخ جهادي طويل وسنوات من الصمود الأسطوري في وزارة الثقافة معقله الأصلي في العاصمة فيما الموت القادم من منافذ البؤس المسيطر على الوجوه يشرأب بقامته نحو جسده النحيل عله يمد إليه حبلا من قيامته أو يطلق رصاصة من مسدسه الكاتم وبذا يسقط الجابري شهيد صوته لكن ذلك لم يحدث.. وتأتي الأيام وتمر السنوات وقامة الجابري تتطاول على زمن الجبابرة كما زمن البقايا من شرطة المخابرات السابقة المسكونة في الوزارة أو الساكنة في ردهات وكلاءها الآخرين وفي هذه المرة أرادوا للجابري أن لا يسقط شهيد صوته لأن سقوط الصوت من على مرتفع القامة العالية سيحدث انهيارات متوقعة مماثلة في جدران الآخرين ولأن الصوت سيفضح القاتل المتوحش القابع خلف ستائر مكتبه بل شهيد صمته وهو ما يرفضه رجل بحجم تاريخ بلد قديم كجابر الجابري!.
ما بين شهادة الصوت وشهادة الصمت أعد الآخرون قرار إقالته من منصبه كوكيل أقدم في وزارة الثقافة.. فالإقالة فعل حكومي وإعلان اتهامي وفي الإقالة رسالة دست في جيب (الإعلام العام) أن هذا الذي أرادوه وكيلا لهم ينفذ أجندة مسمومة لن يكون وكيل أحد ولن يساوم على ضميره الشعري وحاسته الوطنية وتاريخه المضمخ بقمصان الشهداء.
أرادوا إهانة التاريخ بقرار الإقالة لكن الذي حدث أن قرار مجلس الوزراء اجتمع على إقالة نفسه فمن يقيل شاعرا مهما وحرفا مجيدا وعنوانا للفدائية والبسالة ولونا منقوعا بصرير القيود وصوت الفجيعة وتراب الخالدين في معسكر الشهيد الصدر بمدينة الأحواز العربية إنما يقيل نفسه ثم لمن الخلود في نهاية مطاف الأشياء والكلمات والأمم والعهود والدول والجماعات والأنفس والثمرات.. للشاعر الصالح بحرف كل اللغات اللاهث وراء النور الأبعد في الكلمات وشظايا الأفكار وتسابيح السنوات المنقوعة بأصوات المجاهدين وهم يهتفون باسم الوطن والشهيد الصدر في صباح معسكر غيور أصلي أم لمجالس الوزراء المقامة في القصور الفارهة المقيمة في غرف المرمر الإيطالي المقصرة بحق نفسها وشعبها ومقابر بحجم القصور؟.
وغاية القصور في الثورة.. أن تعلن الثورة في القصور!
الجابري بقرار الإقالة سيبقى رغم حجم التظليل الإعلامي وحجم الدسيسة أشهى من مياه عين زالة وكيف لا يكون كذلك وهو المرصوف فوق كل ذرة تراب لونتها الطائرات المغيرة أيام الحرب العراقية الإيرانية بسواد الحمم المحفوف دربه بالمخاطر والموت ورصاص القنص المسلح أيام كان بعض الحاكمين اليوم يأكلون السمك (المسكوف) على ضفاف نهر الكارون فيما هو يعاتب الثورة الإيرانية وهي في أوج اشتعالها وزهوها في أشهر قصيدة تمرد على السائد (دماء على نهر الكارون).
مشكلة الجابري تمرده على قوانين الأحزاب السياسية وتقاليدها التي أقامت فينا زمنا طويلا وهي تقاليد خشبية غير قادرة على التطوير والترسيخ والتركيز حتى وحين اكتشفت تلك الأحزاب خطورة ما هي مقيمة فيه وخطورة ما يحمل شاعر مثل الجابري من أفكار وتمرد وقوانين إصلاح عبر تاريخ نظيف وسيرة شفيفة أصدرت قرارها بمنعه من إعلان شعره فوق منابرها بل وصل المنع حد حرمانه من التمتع بلذة الأسى المعهودة فيه وهو يكتب في مساء أحوازي قائض عن شهادة الإمام الصدر الأول عام 1982.
أنا من الناس الذين لم يفاجئوا بقرار إقالة الجابري من منصبه لأن الجابري الممنوع من الشعر بقرار الحزب قبل 30 عاما هو ذاته الجابري الممنوع من الاستمرار بالوزارة بعد 30 عاما وبهذا يكمل هذا الفتى النجفي في حقيقة وجدانه الدوران في حلقة التاريخ الواحد الممتدة ما بين أول صوت يهوي على ظهره عقابا على قصيدة ألقاها في جامعة الموصل (وإني بحمام العليل عليل) وبين مصادرة حقه في البقاء بوزارة يشرفها بتاريخه وقد اتسعت قبل ذلك للقتلة والمجرمين من أسعد الهاشمي مرورا ببعض الوكلاء الذئاب الذين ملئوا أروقة الثقافة فسادا وعقودا ملوثة ملغومة ورشى بما يستنكف الاقتراب من رائحته رجال العقود الفاسدة في النظامين الأموي والعباسي.
إن يحسدوك على علاك فإنهم عرفوا علاك!.
وربما يتحول الحسد إلى قرار بالإزاحة من دون أن تتحرك عضلة واحدة في وجه صاحب القرار وهو إعلان عن تخلي هؤلاء الذين عاصروا الجابري عن كل ما يربطهم بالتاريخ ونصاعة التجربة الثورية السابقة وهل الجابري سوى هذا التاريخ وتلك النصاعة؟.
لو كان الجابري عقيل الطريحي لأصبح وزيرا في حكومة المالكي ولو كان منافقا يجيد تمسيح أكتاف الآخرين لعين في مكان آخر أكثر لمعانا من بريق العنوان الذي هو فيه.
إن قامات الشعراء الكبار لن تصل إليها قرارات الإقالة بقصد التشويه والتشهير وما بين قرار بالإقالة وقرار آخر مماثل بالتشويه والتشهير تبقى القامة المديدة مقيمة في محاجر مراحل الزمن البعيد وتبقى منصة جامعة الموصل وزنزانة العقاب وصوت الجلاد وسنوات الكفاح وتراب جبهة الحرب وكواتم الصوت وخطط أسعد الهاشمي باغتيال الجابري.. تبقى كلها تطارد صاحب قرار الإقالة تخرج إليه في نومه وتؤرقه وهو يتحدث عن التاريخ النظيف في الصالات والاحتفالات واجتماعات مجلس الوزراء.. يخرج الجابري إليه في حله وترحاله.. يتحول إلى مفزع للحتوف يذكر من أمضى على القرار ومن شهر به أن زمن الثورة الجميل لا ينتهي بجرة قلم وأن جابر الجابري حكاية لا تنتهي وليت هذا القلم يستل من غمده شجاعة مماثلة ضد المقامرين والمتآمرين وتجار العقود وسارقي قوت الثقافة ومقسمي أموال النجف عاصمة للثقافة الإسلامية بينهم وبين إخوتهم في دولة القانون وليته استمع لصوت الجابري قبل 30 عاما وهو يرثي اخوة لنا سقطوا شهداء على دروب الحرية (أبا ذكرى وأبا باقر) ودموع المجاهدين تشيع هذين الشهيدين..
أترجع أم يطول بك الغياب
وقد مدت لعودتك الرقاب
إن من يملك تاريخ أبي مدين الجابري سيسخر من قرار إقالته كما سخر (تشيغيفارا) من قاتله ولما رأى يده ترتعش أمسك بيده وقوى عزيمته وهز مقبض البندقية بين أصابعه وشحن همته ودعاه أن يسدد رميته بقوة إلى صدره وهكذا يفعل الجابري فلو كان في مجلس الوزراء لدعا من شهر به وحاول تشويه صورته وقرر إقالته بهذه الطريقة أن يهدأ قليلا ولا يتوتر وألا يفقد توازنه وهو يمضي على قرار الإقالة أو وهو يتحدث عن تاريخ رجل أسمى من محاولات التشويه والتشهير وأنظف من أكاذيب دعاة الوشاية.
[email protected]