كثيراً ما نشاهد ونقرأ ونسمع تصريحات من السياسيين….وحوارات ومقابلات إعلامية تنطلق بأحكام وأوصاف ما انزل الله بها من سلطان من قبيل الفهم الاجتماعي والتقدير الإستراتيجي والآفاق لحل الأزمات، وإذا كانت التعبئة السياسية والتوظيف الدعائي التي انجرفت لها بعض وسائل الإعلام عن قصد او دونه الى اجل غير مسمى فاعتقد، ان اللعبة قد استهوت الأغلب الأعم من السياسيين على إنهم يفهمون شؤون البلد وشجونه وأحلامه الكبرى والصغرى….وحينما نستطلع شاشات فضائياتنا ونطالع صحفنا ومواقعنا، نرى العجب من ذلك التمظهر وصناعة الصورة والموقف بالشكل الذي أصبح مخجلاً ومتعباً ومعرقلاً .
فليس المهم أن تظهر في الإعلام كثيراً …بل كيف وبأي بُشرى وطنية وتنموية وسياسية وأي خطاب تتساوق معه العاطفة والعقل وبأي معيار او رؤية مجتمعية أو رقمية .. فمسرحة تكرار الأزمات مع أوصافها، يشير إلى حقيقة مفادها : أن الأداء الإعلامي للسياسيين أصابه الوهن الكثير واستهلكت الأوراق والفلسفات والوعود …وذاكرة المتلقي تكللت خزيناً سياسياً بالنبرة والشدة والاتجاه وتلك راكمت الإحباط والفشل في التعويل على التنشئة السياسية الإعلامية ومجريات الشؤون العامة.
ونحن كأكاديميين ومراقبين للخطاب السياسي الإعلامي في العراق نلتمس دوائر من الجُمل والكلمات والأوصاف والأداء، التي لاتستميل إلا نفسها والبسطاء(فكلمة الشراكة مثلا) والتهميش والإقصاء ، والأجندات الخارجية ، والسير على وفق الدستور ..وشح المعلومات الاستخبارية والتمسك بالوحدة الوطنية …الخ !! …هذه غدت من منفرّات التلقي الإعلامي للخطاب السياسي في العراق( بحكم التكرار دون جمال).ونحن نتكلم بصيغة الواقع ومن ميدان الرأي العام ومحاور اتجاهاته نحو السياسة.
إذا فكر السياسي او المسؤول لمن موّجه هذا الخطاب ؟ وما هي أهدافه ؟ ولأي مدى يمكن ان يثير او يعطي صور او جرعات تنشيط في مرجعيات المتلقي العراقي؟ وما الذنب الذي اقترفه كي يسمع ذات دوائر ومراوحة المدلول، ومعانات المطبخ السياسي ؟ هل نفدت كلمات السياسة والخطاب التفاؤلي..هل نفد الابتكار السياسي ..ام نفدت الهدف والرؤية ؟ لا ندري .
ومن خلال المتابعة اليومية الجبرية على نفسي ..وأنا استمع وأشاهد الحوارات والتصريحات التي تتقاذف على رأي عام أُبتلى بالعملية السياسية ، وأُبتلى بمسارات ضيقة في الخطاب الذي يفرز شؤون الكتل والأحزاب والنفوذ والصراع عديم الوضوح لخطوطه الأمامية ولا الخلفية .
وعلى حال الأزمات التي تنّورها وتعطّرها السياسة …يومياً كان على الإعلام ان يدفع ضريبة التصريح والتغطية والتحليل بالشكل الذي لا نعرف من ابتلى بمن ( الإعلام ابتلى بالسياسة ، ام العكس)، في الوقت الذي ترى نظريات التأثير والإعلام الانتقالي ان هيكل الدولة الديمقراطية ومسندها الأبهى هو إعلام المواطنة، والتنمية، والانتشار الثقافي ( بالأفكار المستحدثة ) .
وفي ثنايا الخطب والأحاديث تلك _ وأنا متابع _ لكل ما يطرح من وقود تحريضي ووعد مستقبلي وطرح تبريري… لم أعثر في ثنايا ومضمون ذلك العصف اليومي الإجباري على …الرقم …الرقم سُرق من ذاكرة العراقيين ..والرقم هنا… يعني الحقيقة …ويعني كم الانجاز او الفشل او مقدار استحقاق من يتحدث في بناء هذا او ذاك( الشفافية في الرقم) .
وعلى الرغم ان اللغة وفي أحيان دائمة يُمكن تسخيرها لارتداء ادوار متعددة سواءً أكان اللبس الوطني أم الطائفي ام الإداري أم أي نحوٍ يمكن ان يأخذنا به الكلام ،على ان صاحبه عميق او متفهم او مشارك في المشهد…ودائماً يخرج لنا السياسي ويحلل ويرمز متأسفاً على ما يجري ، وفي يديه سوط التغيير..التصحيح . نحن دولة تعيش بلا رقم …وهنا الرقم أهول واعتى مما وصفته قبل حين…ولو كنا نصارع الأرقام سواء أكانت أموال مشروعات أم عدد أيام، ام سنين…ام أفراد، أي حسابات أخرى تركت للوصف والتقدير على إنها تفسير واستيعاب وضبط للتحديات .
وكانت الدول العظمى والصغرى قد مرّت وعصفت بها أزمات ومصاعب ومخاطر لكنها مسكت (الرقم العلمي) من المختبر ام من قياسات الرأي العام ام دراسات الميدان الاجتماعي ام من التنبؤ العلمي ، على انه الدواء الشافي للعلل الاجتماعية والسياسية والثقافية . ودهشتي تزيد حينما تخلو أحاديث وتصريحات السياسيين من أي علاقة بهذا (السلطان العادل) الذي تركناه وسنلتقي ونفكر حين الانتخابات المقبلة ، عندها يصبح هو البطل وهو القياس .
عشرات الظواهر مرت وتمر دون أرقام … ولا حتى بالتخمين …ماذا نصارع الآن بالشكل الواقعي سوى عتمة وضبابية الحقائق …الأرقام ..العدد.. ..الزمن ….وكل ذلك يندرج تحت معقل المعلومات …ولكم الامثله على ذلك …الأمن …الزراعة …الأمية …الكهرباء ….مقبولية الكتل السياسية …الضياعات اليومية لدوائر الدولة الاقتصاد….ساعات الاستهلاك اليومي لوسائل الإعلام في الأزمات السياسية ، الكفاءات البشرية لبعض المشروعات ….عشرات ..والرقم والزمن مفتوحان..
ولكي لا نغرق بدوامات سياسات المستقبل وبالمضارع المستمر … بالكلمات والتصريحات ولنكن واقعيين …ونقُّر إننا لا نعلم الكثير عن بلدنا وما تلفه من دقائق الظواهر ..سواء أكان على مستوى الرأي العام ام مؤسسات الدولة..ولكي تكون معرفة الاثنان ممكنة وحيوية لنصنع كما الآخرون في كل بقاع الأرض مركزاً ( للمعلومات الوطنية واستطلاعات الرأي ) وبشكل احترافي ووطني …يمد السياسيين بكل الأرقام والأوصاف والحلول، التي يحتاجها اي مسؤول في إطلالته اليومية …وكلي أمل ان يُنشئ على وجه السرعة …وبدون أي مطبخ للسياسات والتوافقات. إجعلوهُ أكاديمياً حُراً……اجعلوه وليد الجامعات والكفاءات… وسترون العجب.
* مركز حمورابي للبحوث الستراتيجية
[email protected]