23 ديسمبر، 2024 10:12 م

نحن والكويتيون، مرة ثالثة

نحن والكويتيون، مرة ثالثة

كتب أحدهم مقالا عن التقارب الكويتي العراقي المطلوب، باعتباره ضرورة وليس ترفا، فأعلن، جازما وبالإطلاق، “عدم وجود أطماع عراقية في الكويت، لا رسمية ولا شعبية، بل إن معظم العراقيين يُكنّون كل الود للكويت وشعبها ويحترمون سيادتها “.
وقال مستدركا، ” لكن الكويتيين، مع ذلك، ما زالوا قلقين من بعض الآراء العراقية المشكِّكة بالكويت التي تطرح في وسائل الإعلام أحياناً. والمشكلة أن بعضهم يعتقد أنها تمثل رأي غالبية العراقيين، بينما الحقيقة هي غير ذلك”.
إن هذا النوع من التجهيل (المثقف) لا يخدم أحدا، لا الكويتيين ولا العراقيين. فالهرب من الحقائق، وتزوير الوقائع، ومداهنة أحد الطرفين، وتصغير المخاطر المحدقة بعلاقتهما الآنية والمستقبلية، لا يؤدي إلى إطفاء نار الحقد المتبادل، ولا يستأصل نزعات الثأر المتزمتة المقيمة في النفوس،  بل ينصح بإبقاء نارها مشتعلة  تحت رمادها الخادع المخيف.
إن جميع الصحفيين والكتاب الكويتيين والعراقيين المستفيدين من حالة الشك المتبادل بين حكام الكويت وحكام العراق، خصوصا فيما بعد سقوط نظام صدام حسين، لا يمثلون الغالبية في الشعبين، وبالتالي فلا يحق لهم التحدث لا باسم العراقيين ولا باسم الكويتيين.
فالحقيقة التي لا نقاش فيها أن قلة قليلة من العراقيين تحب الكويتيين وتسعى إلى نسيان الماضي، خصوصا مع النفخ العدائي الخبيث من بعض حكام العراق وبعض دول الجوار، جنبا إلى جنب مع إصرار الحكومات الكويتية المتعاقبة على معاقبة الشعب العراقي كله، والثأر منه، والسعي لإذلاله، بحجة التعويض عن الأضرار التي ألحقها بها الديكتاتور. وهي، والدنيا كلـُـها، تعرف أن الذي قام بغزوها ليس الشعب العراقي، وأن الفئة التي نفذت الغزو وارتكبت الموبقات، ليست سوى فئة شاذة قليلة زال سلطانها ودفعت ثمن جرائمها بحق أهلها العراقيين، قبل غيرهم من الجيران والأشقاء والأصدقاء.
ويغيب عن الأشقاء الكويتيين أن العراق لم يكن بالأمس نوري السعيد ولم يكن عبد الكريم قاسم ولا صدام حسين. ولن يكون اليوم  نوري المالكي. بل هو عراق علمائه وأدبائه وشعرائه وفنانيه، ولكنه أيضا عراق فلاحيه وعماله ومواطنيه البسطاء،  وفيهم المتحضر وفيهم المتخلف. وفيهم عزيز النفس  وفيهم الرخيص.
كما أن الكويت لم تكن أحدا من أمرائه ولا وزرائه ولا سفرائه، بل هو شعبٌ فيه طيبون كثيرون مسالمون متسامحون، ولكنْ فيه أيضا غلاةٌ متزمتون وجهلة وموتورون. 
ومرارا وتكرارا دعونا أشقاءنا الكويتيين وأهلنا العراقيين إلى طي صفحات الماضي الأليم، والتخلي عن الرغبات الثأرية الخائبة، والعمل على إعادة بناء علاقات جديدة، بين الشعبين أولا، قبل الحكومتين، وبدء حياة جديدة  تقوم على التسامح والرغبة في الأخوة الصادقة والنزيهة بين شقيقين. ولكن ليس كل ما نتمناه ندركه مع الأسف الشديد.
ولابد هنا من الصراحة والاعتراف بأن في الكويتيين جيوشا من الحاقدين الباغضين لكل ما هو عراقي، تعشش لغتها وفكرها وآثارها في كل منزل ومسجد وومدرسة وسوق ووزارة.
وفي العراق متطرفون متعصبون، قوميا ودينيا وطائفيا،  ما زالوا يعيشون على فكر الماضي المتخلف وشعاراته البائسة التي تقول بتبعية الكويت للعراق، تعشش في قلوبهم ونفوسهم أحقاد الأمس وأحقاد اليوم على الكويت والكويتيين.
ويختم كاتبنُا مقاله بهذه النصيحة الغالية: ” إن ما يتمناه العراقيون والكويتيون من حكومتيهما هو عدم الإنصات إلى المتطرفين في الجانبين، بل المضي في اتخاذ خطوات جريئة وعاجلة لتطوير العلاقات التي ستفتح أبواب الخير على الجميع”.
هكذا بكل بساطة. بجرة قلمه الذهبي الصقيل تصحو السماء الماطرة، وتنبت الزهور مكان الشوك والصبير، وتتدفق عيون الماء من الصخر الأصم.
لم َيطلب من الفئة الكويتية القليلة الضالة الجاهلة الحاقدة المخربة، مثلا، وهو الناصح المخلص الأمين، أن تتخلى عن رغبتها الثأرية غير المبررة وغير المعقولة في الانتقام من جميع العراقيين. ولم يقترح على حكومتها أن تعترف بأن ما أخذته وما تأخذه من تعويضات، وهي مبالغ تافهة بالقياس لما تملكه من أموال طائلة، لا يؤدي إلا إلى ترسيخ القناعة الشعبية لدى بسطاء العراقيين بأن الكويت، كلها، شعبا وحكومة، تريد تركيعهم والانتقام منهم لمعاقبة حاكم ذهب وذهب أعوانه، ومن حاكم جديد سيذهب هو الآخر وتذهب أيامه ولياليه، كذلك.
فهذا الزمن هو زمن الشعوب التي تموت من أجل حريتها وكرامتها وحق مشاركتها الفاعلة في تقرير مصير وطنها، دون شبيحة ولا كتائب ولا جواسيس مخابرات يأتون مع الفجر حاملين العصي والخناجر لاغتيال الرأي المخالف لرأي الحكومة والرئيس أو الأمير.   
وللأمانة، ينبغي أن نعترف بأن بين الكويتيين والعراقيين من فرص الأخوة والمودة والتفاهم والتسامح والنظر إلى الغد الجميل أكثرَ كثيرا جدا من نقاط الاختلاف والكراهة والحقد وطلب الثار.   
وما علينا اليوم، في العراق والكويت، سوى أن نطوي صفحات العداوة السابقة، ونكون متحضرين، وأن نحسن قراءة طبيعة العصر الجديد وقيمه ومفاهيمه، ونجلس على طاولة مشتركة، بمقاييس المصالح المشتركة وحدها، وليس بمصالح حزب أو حاكم أو طائفة، بروح الأخوة والجيرة والكياسة والذوق والخلق الحسن، بدل قرع طبول حرب نحن غير قادرين عليها ولا راغبين في آلامها وأحزانها التي ذقنا منها كل مرار.   
وليس خاطئا ولا عميلا ولا مرتشيا ولا خائنا للوطن من يدعو إلى أن نجنح للسلم ونمارس السياسة بالعقل، وليس بالعضلات.    
فلولا الكويت، ولولا دورها في إسقاط نظام الديكتاتور  لكان عدي وقصي وعلي كيمياوي وعبد حمود ما يزالون يركبون على ظهورنا، ويستبيحون دماء أبنائنا ويبعثرون أموال دولتنا، ويمنعون علينا السفر والموبايل والستلايت والهمبرغر والهوت دوغ  والمحابس المشذرة.
ولولا الكويت أيضا لما قفز أقطاب المعارضة السابقة، فجأة، من مقاهي لندن وطهران ودمشق والرياض إلى قصور برزان وعدي وقصي وعبد حمود وعزت الدوري وطارق عزيز. ولما أصبح الرؤساء رؤساء ولا الوزراء وزراء ولا السفراء سفراء، ولما ملك الحاكم ومعارضوه الملايين والعمارات في لندن ودبي والقاهرة والسيدة زينب وعمان.    
لا سبيل للكويت لجبر كسور قلوب المواطنين العراقيين، قبل حكامهم، سوى أن تكف عن مشاكسة العراقيين، ووضع العصي في عجلات قطارهم المتكسر الممزق الهزيل، وأن تتعود، شيئا فشيئا، على فعل الخير والتسامح ونسيان الماضي والنظر إلى عراق الغد، فهو وحده الباقي، من الآن وإلى أن يشاء الله، وليس وعاظ السلاطين.