18 ديسمبر، 2024 8:59 م

فرنسا.. ضعف اليقظة الجمهورية وتضاعف الجبهة الوطنية

فرنسا.. ضعف اليقظة الجمهورية وتضاعف الجبهة الوطنية

أوروبا برمتها وفرنسا بالتحديد كانت في حاجة إلى مشروع سياسي جمهوري يعيد التفكير في العقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الفرنسيين، ويرمم مفهوم المواطنة المتصدع على أنقاض حروب الهويات المفترسة وفائض القوميات الإثنية.

على وقع نتائج الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية الفرنسية استحضرت النخبة السياسية والثقافية الفرنسية عبارة “اليقظة الجمهورية” كعنوان بارز لاستحثاث تجميع القوى المؤمنة بمبادئ الجمهوريّة وراء المرشح إيمانويل ماكرون ضدّ مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان التي حصدت نحو 22 بالمئة من الوعاء الاقتراعي في دورته الأولى.

استرجعت الصحافة الفرنسية، بسرعة، سيناريو الانتخابات الرئاسية لسنة 2002 حيث سجّل رئيس الجبهة الوطنية وقتها جون ماري لوبان المفاجأة السياسية الأبرز والتحق بالمرشح الجمهوري جاك شيراك في السباق الثنائي على كرسي قصر الإيليزيه.

ولئن عاشت فرنسا السيناريو الصدمة في 2002، فإنها اليوم تعيشه بسياق تطبيعي شعبي وسياسي وثقافي مع أطروحات اليمين المتطرّف التي فرضت نفسها في الانتخابات البلدية والإقليمية والأوروبية، والأكثر من ذلك أنّ سؤال الصدمة الحقيقية في فرنسا الجمهورية لم يعد من سيحكم البلاد من اليمين أو اليسار ولكن من سينافس اليمين المتطرّف في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية؟ ومن هو القادر على تجيير كتلة تاريخية واستنفار كل مقدرات الشعب والأحزاب لتشكيل التناقض الانتخابي والبرلماني ضدّ اليمين المتطرّف؟

ومن حيث يدري الفاعل السياسي الفرنسي أو من حيث لا يدري، تزيد دعوات اليقظة الجمهورية والكتلة الانتخابية الصماء والإجماع من اليمين واليسار على التصويت لصالح ماكرون، سواء أكان اقتراعا ناجعا أو اقتراعا عقابيا، من أسهم اليمين المتطرّف ضمن المشهد السياسي الفرنسيّ إذ تتأكد مقولة استحالة هزم أقصى اليمين إلا في ظل التكتل العريض من المتناقضين. وهو في المحصلة دليل قوّة وحجّة تموقع وتمركز لليمين المتطرف، وقرينة ضعف لغيره من الأحزاب السياسية.

ولئن سقطت كافة النخبة السياسية الفرنسية في الهرولة نحو مقولة التصويت لصالح ماكرون باعتباره طوق النجاة الوحيد من اليمين المتطرّف ومن البعبع اللوباني، كان جون لوك ميلينشون الأكثر قدرة على استقراء المشهد، إذ اعتبر أنّ فرنسا في حاجة إلى مشاريع سياسية حقيقية ورؤية للبناء أكثر رحابة واتساعا من البرامج المقدّمة من ماكرون ومن لوبان على حدّ السواء.

استطاعت اليقظة الجمهورية إنقاذ فرنسا في 2002 من لوبان الأب، وتمكنت أيضا من انتشال فرنسا من مستنقع الجبهة الوطنية في الانتخابات البلدية والإقليمية في 2016، ولكنّها في كلّ مرة كانت تزيد من الخزان الانتخابي لليمين المتطرف وتضيف في رأسماله الرمزي والاعتباري لدى الناخب الفرنسي، سيما وأنّ الجبهة الوطنية كانت تستفيد في كل مرة من صورة المظلومية الحزبية المتضخمة من فرط تحالف اليمين واليسار عليها.

اليوم، تحصد فرنسا نتاج رفضها تحويل اليقظة الجمهورية من شعار انتخابي إلى شعار سياسي حقيقي، ومن إطار مناسباتي إلى فضاء مدني وثقافي واستراتيجي، ولئن كان السبات على اهتراء مبادئ الجمهورية مكلّفا فإنّ استنهاضها في العقول والأفئدة وتجييرها لأهداف انتخابية بحتة يصبحان أمرا في غاية الصعوبة.

وفي وقت حساس كانت أوروبا برمتها وفرنسا بالتحديد في حاجة إلى مشروع سياسي جمهوري يعيد التفكير في العقد الاجتماعي والسياسي والاقتصادي بين الفرنسيين، ويرمّم مفهوم المواطنة المتصدّع على أنقاض حروب الهويات المفترسة وفائض القوميات الإثنية. اختارت الأحزاب الكلاسيكية إمّا الانخراط في التسعير الهوياتي على شاكلة الاتحاد من أجل الحركة الشعبية، وإما البقاء ضمن الحدود السياسية التاريخية فاسحة المجال لليمين المتطرّف لاكتساح الفضاء العامّ ولقصف العقول ولتغيير المعادلات في أكثر من استحقاق انتخابي وفي أكثر من بلديّة وإقليم.

سيناريو 2002 بعيد كل البعد عن 2017، لا فقط لأنّ اليمين المتطرّف بات اليوم رقما مركزيا وأساسيا في المشهد الانتخابي والسياسي الفرنسي بعد أن كان على الهامش، بل أيضا لأن إيمانويل ماكرون يمثّل شخصا أسس حزبا ذا وظيفة انتخابية بحتة، على عكس جاك شيراك الذي جاء من تيار سياسي معروف الديناميكية والأهداف والرؤى وتعود ارتساماته ومقارباته إلى الزعيم الفرنسي شارل ديغول. وهو الأمر الذي جعل الصحافة الفرنسية تسأل بسخرية ماكرون هل برجالات هولاند أو ساركوزي ستحكم البلاد؟

قد يربح ماكرون المرحلة الثانية من الاستحقاق الرئاسي بفعل الطلقة الأخيرة لليقظة الجمهورية، ولكن من المؤكد أنّ لوبان ومعها الجبهة الوطنية ستكون الرقم الصعب في كافة الاستحقاقات القادمة من البرلمانيات الفرنسية إلى الأوروبية، وصولا إلى الرئاسيات المقبلة في ظل وحدة الجبهة المتطرفة وتناثر وتنافر الجبهة الجمهورية.

مشهد يلخّص الحالة الانتخابية الفرنسية، في مقرّ ماكرون الانتخابي كانت الحشود تنتظر “أوباما الفرنسي” بأغاني الهيب هوب، أما في مقرّ لوبان فكان الجمع ينتظر “ترامب فرنسا” بأغاني إيديت بياف وجاك برال، أمّا في مبنى المرشح اليساري جون لوك ميلينشون فكانت الزغاريد المغاربية تستقبل الرجل القادم من بعيد.
نقلا عن العرب