لم يكن مدعاة لخصومة أن تضم الأسرة أفرادا ينتمون إلى أكثر من دين، ولا يؤدي التحول عن دين العائلة إلى قطيعة، واتهام بالردة يترجمه جهول بفتوى شيخ جهول أيضا إلى قتل.
من المأثورات التي تُسْتَدعى بصور عاطفية كلما تصدّع البنيان المصري، شهادة اللورد كرومر المندوب السامي البريطاني في كتابه “مصر الحديثة” بأن الفرق الوحيد بين المسيحي والمسلم “أن الأول مصري يتعبد في الكنيسة، والثاني مصري يتعبد في المسجد”. في ذلك الوقت المبكر كان النسيج الاجتماعي أكثر تماسكا وإنسانية من دول لا تفرق حاليا بين أبنائها بسبب الدين، ولا تتقصى الجذور الدينية لعائلة من تقلده منصبا تراه تكليفا لا منحة. لا تفخر فرنسا بتعيين رشيدة داتي المسلمة من أصل مغربي وزيرة للعدل (2007)، وتلتها مواطنتها نجاة بلقاسم وزيرة حقوق المرأة (2012)، وفي ألمانيا عينت الفلسطينية سوسن شبلي متحدثة باسم وزارة الخارجية (2014)، وفي إسبانيا فازت المصرية نجوى جويلي في انتخابات البرلمان (2015) وأشرفت على انتخاب رئيس البرلمان بصفتها أصغر الأعضاء سنا، وفي يناير 2016 انتخبت المغربية خديجة عريب رئيسة للبرلمان الهولندي.
سبقت مصر هؤلاء بنحو مئة عام، مع فارق يخص الظرف التاريخي، إذ كان المسيحي الذي تحمله كفاءته إلى رئاسة الوزارة مصريا لا وافدا. كانت مصر جذابة وجاذبة لمن يريد منصة يطلق منها إبداعه وتفرده، في الفقه والفكر والآداب والفنون والصحافة، فلا يعنى أحد بالأصل الأوروبي لاستيفان روستي، أو الشامي للكواكبي الذي نلوذ بتراثه كلما عانينا شرور الاستبداد، ولا انتبه أحد إلى لقب محمود بيرم التونسي، أو انشغل بالأصل العراقي الكلداني لنجيب الريحاني، أو سأل عن الأصل الجزائري التونسي لمحمد الخضر حسين شيخ الأزهر بعد ثورة 1952. لم يكن مدعاة لخصومة أن تضم الأسرة أفرادا ينتمون إلى أكثر من دين، ولا يؤدي التحول عن دين العائلة إلى قطيعة، واتهام بالردة يترجمه جهول بفتوى شيخ جهول أيضا إلى قتل. لم تنشغل الصحافة عام 1946 بإسلام ليلى مراد، ولم يتغير شيء في حياتها أو حولها، كأن يغضب جمهورها، ويرى الغوغاء في إسلامها نصرا من الله.
لم يخلُ المسار من استثناءات تؤكد القاعدة، وقائع طائفية كان نجيب محفوظ طرفا في إحداها. بعد تخرجه بتفوق في قسم الفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة عام 1934، رشح لبعثة لاستكمال دراسته العليا في فرنسا، ولاحظ الطالب المشتاق تأجيل البعثة ثم فوجئ باستبعاده، إذ جنى اسمه عليه؛ بظن أعضاء لجنة فحص أسماء المرشحين أنه مسيحي، وكانت “حصة” المسيحيين في ما يبدو قد اكتملت ورأوا الاكتفاء بمن اختاروهم كتمثيل نسبي، واستبعدوا نجيب محفوظ.
ما جرى مع محفوظ إقصاء ناعم، يسهل على بيروقراطية محترفة أن تمارسه ولا تترك أثرا، في مقابل إقصاء خشن بلغ درجة القتل لقادة مسيحيين، ليس بسبب الدين وإنما لدوافع وطنية. وقد دفع تحريض الاحتلال على الفرقة بين المسلمين والمسيحيين شابا مسيحيا إلى قتل رئيس الوزراء المسيحي. في تلك الفترة نشطت جمعيات وطنية تنتهج العنف للتخلص من رموز الاحتلال وأعوانه، وانتمى إبراهيم نصيف الورداني (1886 – 1910) إلى جمعية “اليد السوداء” التي تسعى إلى الانتقام من “الخونة”، ورأى الشاب العائد من دراسة الصيدلة في سويسرا وبريطانيا أن يتولى قتل رئيس الوزراء “الخائن”، كلاهما مسيحي فلا تكون للحادث ظلال طائفية، بعد أن وافق بطرس غالي عام 1910 على تمديد امتياز شركة قناة السويس 40 سنة أخرى، لتنتهي عام 2008 بدلا من 1968. حكم على الورداني في 18 مايو بالإعدام، وروّج الاحتلال أن الدافع تعصّب إسلامي، فجاء الرد الشعبي على التهمة بهتاف “تسلم إيدين الورداني قتل بطرس البريطاني”، كما رد المحامي المسيحي ناصف جنيدي منقبادي بالقول “إننا جميعا قد ضاقت صدورنا من السياسة المنحازة للإنكليز التي كان يدافع عنها بطرس باشا، وإنني لأصرح بصفتي مصريا قبطيا أن حركتنا إنما هي حركة وطنية ترمي إلى الحرية”. وأعدم الورداني في 28 يونيو 1910، وفي يوم إعدامه ودعته “ملكة الأسطوانات” الست نعيمة المصرية بأغنية “قولوا لعين الشمس ما تحماشي أحسن غزال البر صابح ماشي”.
الشواهد كافية للدلالة على أننا صرنا طائفيين. في سكرة صعود قوى اليمين الديني بعد ثورة 25 يناير 2011 قال سلفيون مصريون (النصارى في حمايتنا)
وظلت صور الورداني ممنوعة من التداول واحتاجت سيرته إلى ثورة لإعادة الاعتبار إليه، فكانت يوليو 1952 التي أدركها عريان يوسف سعد (1899-1974)، طالب الطب عضو جمعية “اليد السوداء” أيضا، وقد حاول عام 1919 اغتيال يوسف وهبة رئيس الوزراء فأخطأته الرصاصة، وحكم على عريان بعشر سنوات أشغالا شاقة، واعترف بأنه أراد كمسيحي قتل “عميل الاستعمار”، وألا يقوم بالعملية مسلم، تفاديا لأي ظن بأن للاغتيال باعثا دينيا يشوه الهدف الوطني للحركة. وفي مذكراته يقول إن الشعب “كلما انفجرت قنبلة من قنابل الفدائيين على وزير من وزراء الاستعمار كان يهلل ويكبر حتى لو لم يصب الوزير بسوء، وكان الفدائيون في نظر الشعب في ذلك الوقت أبطالا توزع صورهم، خفية كالمنشورات”.
ليس المقال درسا في التاريخ، بل محاولة للإجابة عن سؤال: ماذا جرى؟ ولماذا؟ لن أسأل: كيف؟ فالشواهد كافية للدلالة على أننا صرنا طائفيين. في سكرة صعود قوى اليمين الديني بعد ثورة 25 يناير 2011 قال سلفيون “النصارى في حمايتنا”. لست في مجال تحليل خطاب الإخوان والسلفيين في استكثارهم على المسيحيين أنهم “مسيحيون”، ولكنهم “كفار”، و“صليبيون” بما في الكلمة من حمولات ومرارات تاريخية، وفي أحسن الأحوال هم “نصارى”، وإنما أعجب لتغييب مفهوم “دولة القانون” التي تتولى حماية المواطنين ولا تنحاز إلى دين. ولا يختلف هوس “النصر” لدى هؤلاء المتعصبين عن تصريح محمد مختار جمعة، وزير الأوقاف ورئيس المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية وعضو مجمع البحوث الإسلامية، يوم أحد السعف (9 أبريل 2017)، بعد استشهاد 46 شخصا وإصابة 125 في تفجير كنيسة مار جرجس في طنطا والكنيسة المرقسية بالإسكندرية، إذ استأذن ابن حزم في الإعلان عن “حماية شركائنا في الوطن وأن ندافع عنهم”، وهو كلام يحتمل شبهة طائفية استعلائية تجاه رعايا لا مواطنين.
قبل أكثر من مئة عام، لاحظ البريطاني إس.إتش. ليدر تقديس المصريين للأولياء والقديسين، وأن الاحتلال سبب “الصدع” بين المسيحيين والمسلمين؛ فليست بينهما “عداوة فطرية أو متأصلة وهو ما أثبته التاريخ.. ولم يحصل القبطي من الإنكليز على شيء من خلال الصدع… شعب واحد وموحَّد.. أحفاد شعب مصر الذي عاش قبل سبعة آلاف عام”. وسجل في كتابه “أبناء الفراعنة المحدثون.. دراسة لأخلاق أقباط مصر وعاداتهم” أنه رأى كنائس بناها المسلمون، ومسجدا أنشأه ثري “قبطي قبل الاحتلال بعام أو عامين”، ووجد تلاميذ مسلمين في مدارس علمانية قبطية، كما “لا يفكر أحد في استبعاد الأطفال الأقباط من المدارس المشابهة التي بناها مسلمون”. وذكر واقعة دالة عند انخفاض منسوب النيل عام 1908، حيث “شهد جامع عمرو الكبير في القاهرة مشهدا بارزا بحق. كبار المشايخ المسلمين ورجال الدين الأقباط جميعا، ومعهم رجال الدين من الكنائس الشرقية الأخرى والحاخامات اليهود، تجمعوا في صحن الجامع كي يتوحدوا في التضرع من أجل رفع منسوب المياه”.
لا يتسع الآن جامع عمرو، أو غير عمرو، لأبناء الأديان الثلاثة في مواجهة حدث كبير، فقد صرنا طائفيين وانتهى الأمر. آمل ألا يكون قد انتهى تماما.
نقلا عن العرب