23 ديسمبر، 2024 4:14 م

مرت العديد من الدول بمشاكل سياسية وصراعات داخلية، وفي الكثير من الاحيان قد تتطور وتأخذ شكلها المسلح وتذهب نتيجته ذلك خسائر جمة بشرية ومادية وغيرها، ومن السخرية تجدهم بعد صراع  يطول امده ام يقصر يجلسون في نهاية المطاف الى طاولة مستديرة للحوار والتفاهم للوصول الى حل او اتفاق او مصالحة او تسوية او سمها ما شأت، وهنا نذكر تجربة الارجنتين بشيء من التفصيل كنموذج من تجارب الشعوب، والتي تعد من التجارب الثرية بتفاصيلها في التحول الديمقراطي والتعايش السلمي والمجتمعي، وكذلك تعتبر من التجارب الطويلة فقد امتدت لسنوات كما سنبين لاحقا ومن الممكن تقسيمها الى ثلاث مراحل هي:المرحلة الأولى:بدأت هذه المرحلة بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال (خورخي فيديلا) على رئيسة الارجنتين (ايزابيلا بيرون) في عام ١٩٧٦، تحت ذريعة حماية الارجنتين من خطر الشيوعية، وبهذا استطاع الجيش فرض سيطرته على البلاد، وتشكيل مجلس عسكري مكون من (٩) جنرالات، قاموا من خلالها بالتالي (الغاء الدستور, فرض الاحكام العرفية, حظر التظاهر والتجمهر, فرض الرقابة على الصحافة و الأعلام , فرض الهيمنة العسكرية على النقابات ومنظمات المجتمع المدني).وهكذا بدأت مايعرف باسم “الحرب القذرة “واستمرت لمدة (٦) سنوات، فكانوا يستخدمون كل الطرق الغير شرعية والقمعية في الكثير من الاحيان لقمع كل من يخالفهم سواء كانوا طلبة او اعلاميين او اعضاء نقابات، أو حتى مواطنين عزل، وتم خطف الاطفال وقتلهم لمساومة ذويهم، والى غير ذلك من الاساليب الاجرامية التي تمتاز بها الانظمة الديكتاتورية في ابتكارها تحت شعار حماية الوطن.خلفت هذه المرحلة (٣٠) الف حالة اختفاء لشباب، ولم يعطي العسكر لذويهم حتى الحق بمعرفة مصيرهم او دفنهم، في حال إذا عرفوا قد كانت نهايتهم القتل، فقد كان يعمد الى القاء الجثث في البحر او حرقها حتى لايتركون ورائهم اي دليل.
لكن في عام ١٩٧٧ نفدت حركة واحدة من الاجراءات التعسفية القمعية، وهي بوقفة (١٤) ام لشباب قد اختفوا، تجمعن امام قصر الرئاسة في ساحة تسمى “ميدان مايو”، فتركهم العسكر لقلة عددهن وكبر سنهن، الا انه في عام ١٩٨٢ وبعد أن اصابهم الغرور (فقد بسطوا سيطرتهم على البلاد وحكموها بقبضة من حديد)، قاموا بالاتجاه لاحتلال جزر “الفوكلاند” التابعة جغرافيا الى الارجنتين واداريا و سياسيا الى بريطانيا وكانت هذا التحرك بداية المرحلة الثانية.
المرحلة الثانية:بعدما الحق الاسطول البريطاني هزيمة بالجيش الارجنتيني، خرج الاخير منهزما منكسرا وكانت بعد هذه الهزيمة ضغوط شعبية ودولية لاجراء الاصلاحات، وعقدت اول انتخابات ديمقراطية منذ (٦) سنوات من حكم الجنرالات، وذلك عام ١٩٨٣ وجاءت بالرئيس”راؤول الفونسين” الى سدة الحكم وأول ما نادى به “الوحدة الوطنية”، وكانت اول قضية واجهته للتحول الديمقراطي هي قضية الاشخاص المختفين، وهنا أنشات لجنة لتقصي الحقائق سميت “اللجنة الوطنية لدراسة مشكلة اختفاء الاشخاص” واستطاعت ان تضع تقريرا عن اختفاء (٩) الاف شخص اختفوا، بالرغم عدم وجود وثائق كافية بسبب اتباع النظام العسكري سياسة اخفاء الادلة والوثائق، ويعتقد ان العدد الحقيقي هو (٣٠) الف شخص، وبعد ان اكتمل التقرير ونشر في الجريدة الرسمية على حلقات بدأت محاكمات ضد الرموز ذلك العهد ورجال الجيش المتهمين بالانتهاكات، فسمي الرئيس الارجنتيني برئيس نورمبرغ تيمنا بمحاكمة “نورمبرغ” الشهيرة (والتي بدأت اول جلساتها في عام ١٩٤٥ وحاكمت حينها القيادة الالمانية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية)، الا أن عدم اتخاذ خطوات واليات حقيقية لتحجيم المتورطين وسحب الصلاحيات عنهم، قد اخطا الرئيس “الفونسين” بتقدير قوة الجيش، صحيح انكسر الجيش لكنه ظل محتفضا بترسانته وعدته وعتاده، فبدأت مجموعة من الهجمات بالسيارات المفخخة مجهولة المصدر، وكذلك عمليات اغتيال منظمة، ولكن كان الجميع يعرف من وراءها، وفوق ذلك هدد الجيش بالحرب الاهلية اذا لم يوقفوا المحاكمات ضد رجالاته، فاضطر الفونسين الى اصدار عدة قوانين للحد من هذه الهجمات واخراج البلاد من شبح الحرب الاهلية منها :
١_قانون “النقطة النهائية” وقد حدد تاريخ نهائي لقبول اي دعاوي ضد رجال النظام السابق .
٢_قانون “الامتثال للواجب” وهو القانون الذي يعفي اي ضابط من رتبة اقل من”كولونيل” من اي مسؤولية قانونية ازاء قتله للمواطنين تحت ذريعة انه كان مجبرا لتنفيذ الاوامر.
٣_ اصدار قانون العفو العام حيث تم اعفاء حتى جنرالات العسكرية بعد محاكمتهم وادانتهم وقاموا بالافراج عنهم .على الرغم من الانتكاسة التي شهدتها هذه المرحلة في اعادة التسوية الوطنية، والمسار المتعرج الذي سلكته، فهم حكموا على الجناة وبعدها يتم الافراج عنهم او وضعهم تحت الاقامة الجبرية، الا ان تشكيل لجان الحقيقة ونشر نتائجها، واجراء محكمات علنية كان من مكاسب هذه المرحلة.
المرحلة الثالثة:بدات هذه المرحلة في عام ٢٠٠٥ بعد مايقرب (٣٠) سنة من بداية الانقلاب العسكري الذي اشرنا اليه سابقا، ففي عهد الرئيس “نستور كريشنر” حيث اعلن مجلس القضاء الاعلى عدم دستورية العفو العام الذي سبق وانه اصدر بعهد الرئيس الفونسين، تحت ضغط من العسكريين، وهكذا كانت هذه المرحلة بداية للمحاكمات الجادة  للجناة التي تم ادانتهم بالفعل، من خلال لجان الحقيقة والمحاكمات التي تمت في الثمانينات واستطاع القانون ان يسري بشكل سليم لعدة اسباب منها :
١_قادة الجيش المتهمين بالانتهاكات قد تجاوزت اعمارهم الثمانين .
٢_الضباط الاخرين المتهمين بتنفيذ المجازر بلغت اعمارهم الستين .
٣_تغيير تركيبة الجيش حيث اصبح يضم اجيالا جديدة لاتدين بالولاء لهؤلاء العسكريين . 
وبالفعل في هذه المرحلة، وفي عام ٢٠١٠ تم اصدار احكام ضد “خورجي فيديلا” قائد الانقلاب العسكري وحاكم البلاد في حينه بالسجن على الرغم من تجاوز عمره (٨٥) عاما، وكذلك احكام “رينالدو بينونه” اخر الحكام العسكريين واحكام ضد  قادة وضباط من الجيش قاموا بتنفيذ انتهاكات جسيمة، وعلى الرغم من ذلك كله لم يعتذر العسكريين عن الانتهاكات بل دافعوا عن انفسهم قائلين على لسان “فيديلا “ان النظام العسكري عمل على الحيلولة دون وصول الشيوعية الى الارجنتين” وهكذا هو حال الطغات دوما يرون قتلهم للابرياء منة منهم ورحمة.
الارجنتين في الوقت الحالي جمهورية دستورية فيدرالية ديمقراطية تعمل بنظام فصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، واخيرا نقول ليس بالضروري أن تسير التجارب بنفس الطريق والمنهج لكنها جميعا قد تصب وتصل الى حقيقة واحدة، فمهما طال الزمن لحل تنازع أو صراع ما، لابد من مجئ اليوم الذي يجلس فيه الجميع للتحاور والتناقش للوصول الى نهاية النفق المضئ، وعسى نعتبر منها ونجعل التحاور والتفاهم خيارنا الاول وليس الاخير.