لا جديد يلوح سوى على الشاشات، فكل شيء محسوب بدقة تبدو وكأنها عفوية. غير أنّ أسس رسم التحالفات السياسية في الأنظمة البرلمانية، تحديداً في العراق، تخضع لقواعد محددة تزيد أو تنقص حسب الظروف وطبيعة المرحلة التي تسبق الإستحقاقات الدستورية.. التحالفات الجديدة، تعني صراعات جديدة، فقط تتغير الخرائط قليلاً أو كثيراً، لتتحكم بحدتها.
ربما فاق المشهد التصورات والمؤشرات، ليصل إلى ما قبل الثبوت، وهذا ينطبق على جميع الساحات الوطنية في العراق، بيد أنّ الساحة الأكثر تأثيراً على الوضع الوطني والتي ترسم سياسية وتوجه الدولة؛ هي الساحة الشيعية ومخرجها السياسي: التحالف الوطني.
بدأت إرهاصات تشكيل الأحلاف السياسية وصيرورة الصراعات بين القوى الشيعية، منذ إنطلاق موجة الإحتجاجات في بداية العام ٢٠١٥، عندما حاولت أطراف معينة إستثمارها لتصفية خصومات والإنتقام من جهات تعد مناوئة لتوجهاتها، وبالمحصلة أستطاعت جهة واحدة الظفر بالموجة وتنصيب زعيمها “راعياً للإصلاح”، ورغم أصطدام تلك الموجة بالواقع وتناقض الإدعاء مع الحقيقة، إذ برز الإزدواج صارخاً؛ إلا أنها فرضت مساراً جديداً على أصحاب ذلك الإدعاء يصعب عليهم تركه، فكان أن تخالف (تيار الصدر) مع جميع القوى الشيعية، وما زال يسير بهذا الإتجاه مغازلاً القوى المدنية تارة وقوى الساحة السنية تارة أخرى. تبدو مركزية الصدر الخانقة ميزة حسنة، بيد أنها نقطة ضعف عميقة تجعله وتياره يسعون عن قصد أو دونه إلى فرض أحادية الرأي على مجمل الوضع العراقي دون أدنى رغبة بحوار أو تفاهم تفرضه طبيعة العمل السياسي. وهذا يحتّم عدم أخذ المتغيرات السياسية والإجتماعية بنظر الإعتبار، فالمعادلة التي شكلت حكومة العبادي إختلفت عناصرها كماً ونوعاً. حزب الدعوة صاحب السلطة منذ العام ٢٠٠٥، ما زال يعاني تأجيل مؤتمره الحزبي العام تحت مطرقة التقاطعات الحزبية بين جناحي المالكي والعبادي، وسندان التنافس الجماهيري مع القوى الأخرى.. ولعله وجد بالتحالف الوطني، كعادته، طوق النجاة لعبور المرحلة، لكن يبقى الحديث عن حزب الدعوة خاضع لأجنحته؛ فالعبادي يستقبل مغازلة الصدر المستمرة له برحابة وإرتياح شديد، حيث يضمن بفاء مقار الحكومة بعيدة عن العبث، كما حصل في البرلمان، فضلاً عن توجه المطالبات لغيره في ظاهرة إنتقائية لما يسمى بالإصلاح. بينما يتمسك جناح العبادي في حزب الدعوة بالتحالف الوطني، وهو تمسك ينم عن إدراك للقدرة التأثيرية التي يمتلكها التحالف على المستويين الوطني والدولي. أما جناح المالكي فهو الآخر يعاني من الإنقسام، فبعد فتور “جبهة الإصلاح” البرلمانية، ما زالت أصوات أعضاء هذه الجبهة تعلو برفض الحكومة وأي مشروع يطرحه التحالف الوطني، وربما يقتصر ذلك الرفض على الإعلام دون أي موقف فعلي مضاد للتحالف.. بينما الموقف الرسمي والإعلامي للمالكي داعم وبشدة للحكومة والتحالف الوطني، بل هو أحد أركان ذلك التحالف. في الواقع هنا تحدث المقاربة ونقطة الإلتقاء بين جناحي حزب الدعوة، إذا ما أخذ مسار التحالف الوطني دافعاً لأدامة وحدة الحزب الإنتخابية، ويبدو هذا السيناريو هو الأقرب، مدفوعاً بالإندماج مع الأغلبية التحالفية من جهة، والخشية من إنشقاق قاتل في الحزب من جهة ثانية.
تبدو رئاسة التحالف الوطني بعد موتها السريري، ورطة وقع بها تيار الحكيم، وما زال الحدث هكذا يقرأ رغم النشاط والحيوية التي دبت في جسد التحالف، غير أن تبني حكومة في ظل أزمات هائلة يبقى الورطة قائمة وقد لا تشفع لرئاسة التحالف سلة القوانين والمشاريع والمبادرات التي أطلقتها.. نقطة القوة التي تميز بها المجلس الأعلى؛ هي إنعكاس رؤيته اللامركزية للدولة على بنيته الحزبية التيارية والمتمظهرة بحالة الكيانات العديدة والمؤسسات التابعة للحكيم والتي تتبنى أحياناً وجهات نظر متباينة، لكن بالمجمل تتفق تلك الكيانات على تقوية وتوحيد التحالف الوطنية، لأسباب تاريخية حيث يعتبر المجلس مؤسس أول كتلة شيعية موحدة، ولأسباب مرحلية تتصل بزعامة عمار الحكيم للتحالف. وهنا تتجلى وحدة موقف بين حزب الدعوة والمجلس الأعلى.
قوى الحشد الشعبي، بعضها مرتبط بصورة مباشرة بالمجلس الأعلى، وبعضها متحالف مع جناح المالكي، وأخرى تتقارب مع الطرفين في مواقف وتختلف في أخرى.. وبالمجمل فهي جزء من التحالف الوطني الذي أعلن الصدر وتياره رفضه الأنضواء تحت رايته.
من تلك المعطيات، يتضح أنّ الصدر بدأ يدخل صراعاً مفتوحاً مع جميع أطراف التحالف شبيه بصراع ما بعد التغيير، لكن تفاعلات المرحلة الحالية تختلف عن سابقتها، الأمر الذي يكشف ظهر الصدر أمام الجمهور المطالَب بمشروع واقعي لم يطرحه الصدر، والظاهر لن يستطع إنضاج هكذا مشروع!.