17 نوفمبر، 2024 6:24 م
Search
Close this search box.

إجناسيتان للسرد… زهدي الداودي برفقة صالح سعيد ..

إجناسيتان للسرد… زهدي الداودي برفقة صالح سعيد ..

قراءتي الأولى لرواية زهدي الداودي (رجل في كل مكان ) في 1975 أشعرتني بمتعة لاتنسى ..القراءة الثانية في 1987وهي قراءة اضطرارية فأن تكون مطاردا بتهمتي : التخفي عن الزيتونيين ، ومنتميا بلا إنقطاع لزهرة الرمان ، إذن عليك قراءة كل ما يتوفر لك أثناءها تماهيت ُ في حدث الرواية .. تتناول ماكان يجري وقت قراءتي الثانية ،من خواء وتقتيل وظلام مدجج ..عدتُ في 2016 للرواية بقصدية إستكمال مشروعي النقدي حول الرواية العراقية ، قبيل صدور روايته (ذاكرة مدينة منقرضة ) التقطت ايميله من مركز النور، وارسلت إليه رسالة قصيرة ، باركت أصداره الجديد ،أخبرته أني مازلت استعيد روايته الوحيدة التي قرأتها.. وأني بدأت بقراءتي المنتجة في (رجل في كل مكان )..كما ذكرّته بالقصة القصيرة (برتقالة من حيفا) المنشورة في مجلة (آفاق عربية ) في 1979…
(*)
لاحظتُ أن رواية (رجل في كل مكان ) محكومة بإرجاء غريب !! فالروائي زهدي الداودي انتهى من النسخة الصالحة للنشر بوقت قصير ( آب 1966 – 6/ 4/ 1967) لكن هذه الرواية لم تنطلق كمطبوع ، إلاّ في نيسان 1974/ دار الفارابي / بيروت !! أي بعد سبع سنوات تقريبا.. بالنسبة لي كانت قراءتي الثانية في آذار 1988..كتبت ُ عنها في سجل ٍ كبير وأعرف ُ انها كتابة لايمكن نشرها وأنا مطارد، وها أنا أعود للرواية ذاتها .. وأحاول الإستفادة من كتابتي تلك ..
(*)
الجميل في هذه الرواية إنها تنتسب للرواية القصيرة ولاتشكو من الترهل ..
وهي سبقت رواية (البحث عن وليد مسعود ) في البحث عن فردية مميزة سبقتها بقرابة عقدين من السنوات .. ورغم تجاورها مع (الطريق ) لنجيب محفوظ وقد صدرت الطبعة الأولى للطريق في 1964..فالروايتان تنطلقان من مغادرة السجن ،صابر يبحث عن أبيه سيد الرحيمي ، وأحمد حسين ، يبحث عن صالح سعيد ..وفي كلا الاسمين : شحنات رمزية .. مع أختلاف النوعية ..لصابر مطلقه
الميتافيزيقي / المعيل الإقتصادي ، فهو مؤتلف مع التوكل وأنتقل توكلياً من الأم / إلى الأب الباذخ الثراء.. والنقلة بوصية من أمه وهي تحتضر ..
أحمد حسين يبحث عن مطلقه السياسي ، ومن خلال هوية السجن يتضح ذلك المطلق . بالنسبة لرواية نجيب محفوظ ( الطريق ) .. صابر وقف مع المشيعين ، حين غطست أمه في قبرها ..أما أحمد حسين ،فقد قصد وحده قبر أبيه ، نلاحظ ان خطابه لايخلو من التفارق الموضعي المرموز بدلالة الترابية ..(أنت الآن راقد في مكانك الابدي ليس بعيدا عني ..أنت تحت وأنا فوق ..بودي لو أخاطبك وأنا دون قدميك وليس على ارتفاع منك ..ولكن هكذا شاءت الحياة، لن أكون في مستواك إلا حين يطويني الموت ../ 18) ثم سيكتشف القارىء الترابية الثانية ..(قلبك عامر بالامنيات والآمال التي لم تتحقق ، والتي كنت مؤمنا أشد الأيمان بأننا سنتممها بعد رحلتك ، كنت لاتخشى على نفسك الموت ، أنا أعرف جيدا أنك أستقبلت الموت بجرأة رجل حقيقي ../ 19)
*ترابية الشكوى ( 19- 20)
ترابية الاستقواء ..(لست أدري ماذا أفعل ؟ جئت اليك لعلني أستلهم منك القوة ، فقد خارت قواي وأنهكتني الأيام ../20)
(*)
مَن هو صالح سعيد ؟ وهل له وجود عياني ..؟ يخبرنا السارد العليم ..( كان صالح سعيد قد تحدث اليه عن أعدائه وكيف أنهم يتحينون الفرص لتحطيمه والقضاء عليه ..وكان يستغرب لشجاعته ، واستهانته بهم .. وكم مرة حذره من مغبة الاهمال .. وهاهو لاقى الأمرين من أعدائه ..ومازال مصيره مجهولا../ 65)..
ولماذا صارت رحلة بطل الرواية مشروطة برؤية صالح سعيد ..وحسب السارد العليم ..(وقبل أن يبدأ الرحلة ينبغي له أن يدير بعض شؤونه ويلتقي بقريبه وصديقه الحميم صالح سعيد الذي لايمكن أن تتم الرحلة بدونه ../28)…وسبب هذا المشروطية ربما ..أن صالح سعيد بمرتبة الأنا الأعلى بالنسبة لأحمد حسين 🙁 ذلك الإنسان الذي كان يعتبره المثل الاعلى في الحياة ../75).. وصالح سعيد هو الطريق الملكي المؤدي لخفقان قلب المناضل أحمد حسين ..(والطامة الكبرى تبدأ حين تدير واجدة ظهرها لي ../ 75) ..وهذه الأنثى لايكتمل بسواها أحمد حسين (..واجدة التي هي كل شيء بالنسبة اليه..الخيط الوحيد الذي يربطه بالحياة ..ماذا يكون إذا أنقطع هذا الخيط…؟ / 76)….
(*)
سيخبرنا السارد الثاني فؤاد كامل ، جار صالح سعيد ،وهو مشارك بتصنيع الرواية ولو بحيز صغير ، لكن لهذا الصغر أهميته الكبرى (… صالح جريحا تنزف منه الدماء وبيده مسدسه يقاوم بشكل غريب ..أطفاله مذبوحين ..زوجته الحامل قد شق بطنها بشكل وحشي ..كان صالح يشد جرحه العميق بقطعة قماش وبهدوء متناه ../ 59) الشاهد الرائي فؤاد كامل ، سيكون بدوره أحدى ضحايا الجريمة ..(ولم أشعر إلاّ وقد شل الجزء الأسفل من جسمي ..) ..أما الضوء الوحيد في آخر النفق فهو شهادة فؤاد كامل ..( لاأدري أين صالح سعيد ..هل مات متأثراً بجراحه ..أم مازال حياً؟ .. إلا أني أدري انه كان حيا حتى بعد أسبوع من أصابته ..)..
(*)
أستوقفني السرد الخاص المنبث من أحمد حسين إلى الفتاة أحلام ، إبنة فؤاد كامل ، في زيارته الثانية وهنا تكمن الإجناسية الثانية للسرد في الرواية ..، فهو يسرد سيرته بتلفيق حكائي لذيذ ، يوائم ذهنية الفتاة الصغيرة ، وهو يقترض حكيه عائليا ..(كنت صغيرا جدا، كانت جدتي تحبني كثيرا وتقص علي قصص الملك سليمان وخاتمه وكنوزه ../ 110) فيتدفق مخيال جدته في تلقيه البكر ..(كنت إذ ذاك اعتقد ان النجوم معلقة فوق رؤوسنا قريبة منا، وان كل من يرتقي برجا عاليا يستطيع ان يتناول واحدة منها..)..ثم تتحق امنية الطفل ويتحول الحكي حلما ..(وقد تحقق لي ذلك الحلم ذات مرة، وصعدت ُ الجبل مع أهلي ، فاذا بمسافات شاسعة وسلسلة أخرى من الجبال.. وأصبحت عندي رغبة جارفة في أن اعرف ماذا يوجد وراء تلك الآفاق البعيدة ..) ..في ذرة هذا المحلوم به، ثمة إنجذاب اللاوعي الفردي ، وكمون ماسوف يجري لأحمد حسين ، المتشوق للسعة (وعندما كبرت كان همي ان اجتاز مايسمونها بالحدود وارتاد الافاق والبحار ..كنت ابحث عن مرفأ يقع على جزيرة الفردوس ..وقد سمعت كثيرا من الآخرين باني مصاب بالجنون ..) ثم يتماهى احمد حسين في لسان جدته الحكواتية ويسرد وجيز سيرته وماجرى له بمخيال لذيذ يوائم التلقي الذي عند الصغيرة أحلام.. وفي نهاية الحكاية ( 110- 112) يقوم بتجسير بين داخل الحكي ولحظة جلوسه مع أحلام ..(ثم وجدت نفسي مرة أخرى وراء السور..حيث لا أحد يسأل عني .. وها
أنا الآن كما ترين عائد من العالم الآخر وجالس بين يديك يا أميرة القصر.. وأنا خالي الوفاض ..لاعثرت على خاتم سليمان ولاكنوزه …ولابلغت جزيرة الفردوس..بل تركت اسمي الحقيقي في ذلك القصر بين أكوام الايادي والارجل المقطوعة والرؤوس المهشمة ..لقد رجعت بلا أنا…/ 112)..
في هذا الاشتغال السردي الحكائي العجيب ..يتقدم الروائي العراقي زهدي الداودي تقنيا على كثير من الروائيين العرب في تلك الحقبة ،المكتوبة فيها روايته اعني 1966 وكذلك المنشورة فيها روايته أيضا 1974.
(*)
لدينا ثلاث سرود في (رجل في كل مكان )
(1) سرد الواقع : ذكرى نقرة السلمان / شوارع مدينة البطل / شوارع بغداد امكنتها..
(2) سرد مايجري لصالح سعيد ، حيث يمتزج الواقعي بالمتخيل ، دون الافصاح المباشر عن هوية صالح سعيد
(3) السرد الثالث / هو السرد بإجناسية ثانية ، هو الحكائي المبثوث في فضاء خاص : احمد حسين يحكيه حكاية إلى أحلام فقط ..
(*)
ستقود أحمد حسين مصادفة مفتعلة روائيا ، يلتقي في الحانة بأحد نزلاء السجن ، فيكتشف معلومة جديدة (صالح سعيد ..لقد سمعت انه مختفي عن الأنظار وقد صدر بحقه أمر ٌ بالقاء القبض عليه ، وانه متهم بالقتل ../ 78) ..(رأيت قبل أيام في أحد الشوارع رجلا متنكرا بالكوفية والعقال كان يشبهه بلحمه ودمه..حتى انني أردت أن أكلمه ، إلا انني ..) وسنعرف ان هذا الرائي ايضا يبحث عنه وبشهادته
(أنا أيضا أبحث عنه ،لأني بحاجة إليه../79)..(سمعت انه قد تقاتل مع أعدائه ..وقتل عددا منهم ../ 79).. والكلام نفسه فؤاد كامل حين يزوره أحمد حسين في المرة الثانية / الأخيرة ..(لقد تأكدت انه موجود ، وفي صحة جيدة، ولكنه مطلوب من العدالة ../ 113)..
(*)
أعود إلى توقيت الجريمة، حسب كلام فؤاد كامل ..(كان ذلك قبل سنتين ../ 58)
تبدأ الرواية بإطلاق سراح أحمد حسين ..(خطواته مثقلة بعامين كاملين ../ 5)
إذن ثمة تزامن بين الحادثتين ، وحين نربط ذلك مع سنة كتابة الرواية : آب 1966 فيمكن إعتبار الرواية تغترف من مجازر 8 شباط 1963 والبطل من نزلاء (نقرة السلمان ) ..(في السلمان كنت ترى القمر أقرب إلى الأرض ../ 17).. (وحين كان القمر يرتفع ويبدأ السكون يأتي ألفريد والآخرون ../ 18) وهل هناك ألفريد آخر …؟! انه الشاعر والمناضل ألفريد سمعان ..أحد نزلاء نقرة السلمان ..
(*)
حين يلقى القبض على أحمد حسين ثانية .. تكتمل دائرة السرد وتنفتح في الوقت نفسه على مابعد النص ، فالبحث عن صالح سعيد ، لاينتسب لبحث صابر في رواية نجيب محفوظ (الطريق ) ،ولا لبحث جبرا إبراهيم جبرا عن وليد مسعود أما بحث أحمد حسين فمختلف جدا .. فالسجناء كلهم بالتهمة ذاتها والتي اسمها صالح سعيد ..(قال أحدهم ،خيل اليه انه كبيرهم : كلنا هنا من أجله ..كان مختفيا ً في منطقتنا ، داهمته الشرطة ذات ليلة وكادوا ان يلقوا القبض عليه ولكننا استطعنا ان ننقذه وهو الان في مكان أمين ../ 125- 126)..وهكذا أمتد المفرد في الجمع المتكاثر ، لأن المفرد بوظيفة واحدة متحدة : السعي الدؤوب لصالح السعادات الاجتماعية الوطنية ..
*زهدي الداودي / رجل في كل مكان / دار الفارابي / بيروت / ط1/ 1974 

أحدث المقالات