18 ديسمبر، 2024 10:19 م

القيامة عند الملكة فكتوريا ومعدان الجبايش

القيامة عند الملكة فكتوريا ومعدان الجبايش

عام 1977 .اقامت الدولة العراقية ( أنذاك ) احصائها الثاني الكبير بعد احصاء عام 1957 ، كنت وقتها طالبا في الصف الرابع عام عندما تم تكليف الطلاب بهذه المهمة وكانت وجهتنا قرية من قرى اهوار ريف الجبايش عند سلفٍ يسكنه عدد من المعدان يطفوا وسط الماء كما يطفو كوكب زحل في الفضاء العميق .
وكان علينا أن نقضي الليل عندهم عندما اكملنا عملية شاقة في احصاء سكان تلك القرية ، إذ كان اغلبهم بدون هويات احوال مدنية ( جناسي ) ولايعرفون متى ولدوا ، وعلينا نحن أن نقدر الاعمار وكان يتوسلون لنا أن نجعل اعمار شبابهم حتى لو كانوا في سن الثلاثين دون الثمانية عشر عام خوفا من سوقهم الى الجندية وتظل الجواميس يتامى من دون راع يرعاها.
في تلك الليل حيث كانت ضيافتنا عند كبيرهم الشيخ ( فشاخ مدلول فحل ) وقد وصلت اعوامه الى ما يناهز الثمانين أي انه كان من مواليد 1877 . لكن ذاكرته كانت متوقدة لتسجل لنا تفاصيل الحياة أيام الترك والانكليز ، وفيما تحدثه لنا من أزمنة القرن التاسع عشر انهم ذات لحظة شعروا إن القيامة ستبدأ ذلك عندما سمعوا ذات يوم صوت مدوي يشق عباب الماء اخاف الدواب وجعل القصب يهتز …
وكان ظنهم إن البشر الذين يسكنون الايشنات الموجودة كتلول من التراب داخل الاهوار قد استيقظوا وعليهم أن يصفوا حساباتهم مع اهل الارض لأن المعدان كانوا يعتقدون إن جواميسهم تذهب هناك الى تلك الاراضي المحرمة والتي تلفها الاساطير وخرافات الجن والاشباح الليلة فتتغوط على تلك الارض وتتبول ، وكان سكنة تلك التلال من الموتى تغتاظ لهذا التصرف وربما استيقظت هذا النهار لتصفي حساباتها مع المعدان وتعلن قيامتها.
يقول الشيخ مدلول وقتها ضاع علينا ( المِشراد ) وصرنا واحد يقول الى الثاني ( ابريني الذمه ) ،  وكنت صبيا وقتها عندما رأيت ابي فشاخ يعانق امي باكيا وهو يسألها :من يبقى لجواميسنا يا وضحة . ؟
فردت عليه أمي : ( موش ) هي الجواميس الي تروح هناك تسرجن وصنعت لنا هذه الورطة .هم قيامتها ويانه وراح تتحاسب.
دقائق وظهرت لنا حقيقة هذا الصوت :يا ولدي لاجن ولاهم يحزنون . الصوت الذي شق الماء نصفين وجعل السمك يرمي بروحه على اليباسة واسطح الصرائف كان صوت مركب تجره ماكنة من الحديد صوتها لم نسمع مثله في حياتنا سوى مع الرعد والبرق .
لقد كان المركب يحمل جنود كركه وانكليز ومعهم ضابط .
وحين رسوا قريبا من السلف ، تنفسنا الصعداء :وسألهم ابي بواسطة مترجم . لماذا ارعبوتنا ، لماذا جئتم بهكذا رعيدة . لو جئتمن بزوراق بمجاديف  احسن . انتم لم ترعبوا البشر فقط . أرعبتم حتى السمك في الماء.؟
رد الضابط الانكليزي  قائلا : زمن المجداف ذهب الى غير رجعة ، هذا زمن المدافع والسرعة .
قال ابي : يعني القيامة قريبة .
قال الضابط : كلا .الملكة فكتوريا قادمة ، وهي تشبه القيامة.
الى هنا اقف عند حدود حكاية . ضحكت في وقتها ، ولم اشعر أن الشيخ مدلول رحمه الله تحدث بها على شكل نبؤة .ولم اتذكر تلك القصة عن قيامة الملكة فكتوريا في سلف المعدان بأهوار الجبايش إلا عندما نقلت محطة ( السي أن أن ) التلفزيونية صورا للحاكم البريطاني بول بريمر يتجول بذات المشحوف الذي يجره ماطور كهربائي بين قرى المعدان …
وقتها الناس التي مر بها بريمر لاتعرف شيئا عن حكاية زورق قيامة الملكة فكتوريا الذي اتى لهذه المناطق لاول مرة قبل اكثر أكثر مئة عام.!