18 نوفمبر، 2024 12:27 ص
Search
Close this search box.

إستراتيجية البرنامج النووي العراقي

إستراتيجية البرنامج النووي العراقي

قـد يتساءل البعض ما الهدف من إصدار هذا الكتـاب ؟ ولماذا يصدر فـي هذا الوقت وقد صدرت كتب عـدة تناولت البرنامج النووي العراقـي ؟
يجـيب المؤلفان من أنهم أرادوا إصداره الآن لكي ينصفوا الإحداث والتاريخ وقيادة تعرضت لكثير من التشويـه فـي صورتها وفـي عرض تفكيرها لا دفاعاً عنها أو مدحاً لها فهذا ـ حسب رؤيتهمـا ـ ليس وقت كيل المديح أو سرد المثالب .. ربمـا ـ يقولان ـ تكون هذه أول وثيقة تصدر عن البرنامج النووي العراقـي ولا تعبر عن رأي شخصي فـي البرنامج ، وهـي ليست مذكرات شخصية ولا تتناول أو تنتقد أشخاصا وعناوين أو تتحدث عن خصوصيات معينـة .
أنـهم أرادوا أن يدونا ويوثقا ما كانت قيادة العـراق قد فكرت فيه وحقيقة تطور الإحداث وما أدت إليه مـن جهة وما آلت أليه من جهة أخرى ، لكـي لا يتصور أو يذهب بعيـداً من يتراءى له أن الأمر لا يعدو نـزوات ورغبات ، ولـم يتم تناول أسماء أو حيثيـات معينة محددة لان ذلك يذهب بالحقيقـة بعيداً على حد قولهمـا . إن هـدفهما هو عرض الصورة بوصفها وثيقـة للتاريخ كما رسمت لا كمـا يتخيلها البعض أو كتـب رواية بشأنها لإغراض التشويـق .
والمؤلفـان ـ حسبما يؤكدان ـ لا يقصدون بكلامهم بكتابهم الوثيقة ، القيـادة كما يفهما البعض أو يشيع عنهـا من أنها شخص ما فكر أو تخيل وتصور ، شخص مـا أراد إشباع رغبات شخصية أو طموح شاب أو نجم صاعد ، انـه تاريخ دولة امتد أكثر مـن خمسين سنة أتُمن المؤلفـان على بعض منه فأرادا أن يوثقـا ، بحكم موقعهم العلمـي والوظيفـي .. الذي أتـاح لهم أن يطلعوا على تفكير قيادة العراق بشـأن إستراتيجية البرنامج النووي العراقـي وتحملوا مسؤولية صوغ أطر وتفاصيل هذه الإستراتيجية ومن ثـم تحويلها إلى برنامج عمل ومفـردات فنية شاركوا فيها وآخرون . ومـع معرفتهم أهمية تلك التفـاصيل الفنية وأهمية تدوينها ، فقـد ركزوا على إستراتيجية البرنامج النووي وخططه ووضعها في سياقهـا التاريخي وتسلسلها المؤسساتـي .. وهـذه بقيت في معظمها ـ كما يؤكدان ـ فـي العقول وغير مدونـة .
تـلك الإستراتيجية ـ كما يشيران ـ لـم تكن مجرد مخيلة شخص وإنمـا حالها حال استراتيجيات برامج كبـرى أخرى وليـدة فلسفة ورؤى مؤسساتيـة .
وتـأسيساً عليه ، شرعا المؤلفان فـي الكتابة عن هذا البرنامج ، لان ـ كمـا أرادا ـ من حق أبناء العـراق والأمة العربية ، أن يطلعوا عليه وهـذا الحق مسؤولية في أعناقنا وحق علينا ودين لرجال البرنامج النووي العراقـي كي لا تدفـن معلومات مع مـن يذهب للقاء ربه قبل أن يدوّن مـا في ذاكرته بعد أن ذهـب من ذهب .. أنها وقفة أمام التاريـخ .
قبـل قصف إسرائيل لمفاعل تموز سنة 1981 وبعـده ، نشر الكثير عن برنامج العراق النووي دفاعاً عنـه أو هجوماً عليه بالتهم والبهتان . وقـد اخذ ذلك النشر شكل موجات تتصاعد تارة وتخفت تارة أخرى ، ولـم يجر في كل ما كتب آنذاك التطرق كثيـراً إلى الجوانب التكنولوجية والفنية للبرنامـج .
بعـد حرب 1991 ، ومع إعلان العـراق برنامجه الوطني ، وأولى زيارات فرق التفتيش ، تصاعدت موجـة الكتابات ، وركب الموجة أعضاء من فرق التفتيش خارقيـن التزاماتهم المهنية تجاه الوكالة وعارضين ما حصلوا عليه للإعلام ، وتصّـرف بعضهم مثل المهرجين في حلبة سيرك عالمي ، كـل واحد منهـم يريد أن يتصدر الإعلام أو أن يبيع ما عنده ، ثـم أخذت الوكالة الدوليـة وعلى مدى سنوات عقد التسعينات تصدر تقاريـر تناولت أعمال التفتيش وتطرقت إلى جوانب مـن البرنامج الذي استحوذت علـى وثائقه بما يزيد على مليون صفحة ، ومـع ذلك قدمت صورة شوهاء لذلك البرنامج وبقـي ما كتبته إملاء أمريكيا يقدم الذرائع لإدامة حصار ذهب ضحية له أكثر من مليون ونصف مليون طفل عراقـي .
مـع بدء الألفية الثالثة ومع تصاعد الاستعدادات لشـن العدوان على العراق بدأت موجة جديدة من الكتابـات استهدفت وصف العراق بالشيطان من خلال ادعاء امتلاكه فـي ذلك الوقت برنامجاً نووياً كان بزعمها قاب قوسيـن أو أدنى من السلاح النووي وتهيئة العـالم لتقبل الحرب عـلى العراق ولتدميـره .
ومـع كل ما صدر بعد الاحتلال من كتب وكتابات لم تطرح إستراتيجية ذلك البرنامج كمـا فكرت فيه قيـادة العراق ووجهت به ، وكمـا جرى رسمه وأتُمنت عليه مجموعة صغيرة من قادة البرنامـج .
امتـد البرنامج النووي العراقـي أكثر من خمسين عاماً ومر بمراحل ثلاث كـانت الأولى مرحلة التأسيس وقـد بدأت فـي خمسينيات القرن الماضي عنـدما أعلنت حكومة العراق الملكية فـي سنة 1955 ، تأسيس لجنة الطاقة الذرية ، وأصدرت قراراً يقضي بتأسيسها سنة 1956 ، وتضمن بيان الحكومة الأسبـاب الموجبة للتأسيس وخلاصتها الاستفادة من البحث العلمي والتكنولوجي في تطوير العراق صناعياً وزراعياً وصحياً واجتماعياً ومواكبة ما يحصل من تطورات علمية في العالم . وقد امتدت تلك المرحلة حتـى بداية السبعينيات وفيها أرسيت القاعدة العلمية من باحثيـن وملاكات فنية وبنـى تحتيـة من منشآت وأبنية ومختبرات بطاقة (2 ميغـا واط ) جرى تشغيلها سنـة 1968 .
بـدأت المرحلة الثانية في سنة 1974 ، عنـدما صدر قانون جديد لمنظمة الطاقة الذرية وانتهت في سنـة 1981 ، بقيام إسرائيل بتدمير المفاعـل . وأصطلح البعض على تسمية هذه المرحلة ضمن أدبيات سياسات العلم والتكنولوجيـا ، مرحلة نقل التكنولوجيا أو كمـا فضل المؤلفان تسميتها (مرحلة توطين التكنولوجيا) . وشـرعت هذه المرحلة في إعداد خطة إستراتيجية اعتمدت المنطلقات الآتيـة :

ـ البـرامج البحثية ذات الأهداف المحدودة .
ـ التـواصل العلمي والتكنولوجي مع العالم .
ـ البيئـة العلمية والتكنولوجية .
ـ الكتلـة الحرجة ، المتمثلة في توفر عدد من العلماء والباحثين والفنيين .
ـ القيـادة والإدارة العلمية .
 
ومـن هذه المنطلقات أعدت منظمة الطاقة الذرية برنامج عمل بغية امتلاك تكنولوجيا دورة الوقود النووي . وقـد تركز هذا البرنامج علـى :
ـ استخـراج طاقات اليورانيوم من الترب العراقية وتنقيتها .
ـ امتـلاك تكنولوجيا تصنيع الوقود .
ـ بنـاء مفاعل بحوث مواد لإجراء تجارب وفحوصات للمواد النووية .
ـ معالجـة الوقود الحار عن طريق أجـــــراء الفحوصات لمعرفة خواصه العلمية والتكنولوجية. بعـد أن اقرت الخطوط العامة لبرنامج العمل بدأت مرحلة التنفيذ وتحويل تلك الخطوط إلى مشاريع تنفيذية بالتعـاون مع جهات أجنبية . ومـا أن بدأ التعاون النووي مع هذه الجهات حتى قامت إسرائيل بنشاطات اجهاضية بدأتها بالإعلام ثم انتقلت إلى التخـريب والتفجير بعدها قامت بعمليات اغتيال مدروسة لبعض العـلماء ، وعنـدما لم تصل أعمالها إلى مبتغاها لجأت إلى القصف الجوي فـي غمرة المواجهة العسكرية بيـن العراق وإيران . وقـد جاء العدوان الإسرائيلي لينهي هذه المرحلة وليشرع العراق في المرحلة الثالثـة ، التـي كانت مرحلة بناء برنامج وطني مـن نضح خالص لعقول عراقيـة وبسواعد عراقية بعيداً عن أي مساهمة أو أيد أجنبية . كـان لابد من اكتسـاب التكنولوجيا النووية بالاعتماد على الذات فهي لـن تعطي لأحد لا بالمـال ولا بالتحالفات بـل من خلال بناء علمي دؤوب وفـق تخطيط متكامل وتنفيذ دقيـق .
انتهـى البرنامج رسمياً فـي 10/نيسان/1991 ، وتـوقف نهائياً في 26/حزيران/1991 ، ثم ألغيت منظمـة الطاقة الذرية العراقيـة بعد الاحتلال الأمريكي سنـة 2003 .
كـان على العقل العراقـي أن يستنبط الدروس التي كـانت مليئة بالعمل والعبر رغم قصر مدتهـا .

* الـدرس الأول : هـو أن الاتفاقيات الدولية لا قيمـة لها ولا تحمي أحدا ولا تلتزم بها الدول الكبرى إلا أذا اقتضت الضرورة . فالعـراق لم يسلم من الاعتداء عليه رغم كل الشفافية التي كان حريصـاً على إحاطة برنامجه النووي بها وكل الحمـاية التـي يفترض أن يحصل عليها بموجب اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية ونظام ضمانات الوكالة وكل شرعية التعاون الدولي وأهميته ، فـإسرائيل لم تهتم بكل ذلك فقوضت في لحظات برنامجاً علمياً دولياً على ارض عراقيـة .
* الـدرس الثاني : هـو ضرورة التحصن ضد الاختراق الأمني فقـد كانت لإسرائيل علاقات أمنية استخبارية مع دول عديدة تنسق معها وتحصل على معلومات في غاية الأهمية في ما يتعلق بأمنها كما تتصوره . وكـان العراق والطاقة الذرية على وجه الخصوص مركز الاهتمام . كمـا أن إسرائيل أسست شركات وتغلغلت فـي شركات عاملة في مجالات لها بحسب التصور الإسرائيلي علاقة بأمنها الوطنـي . لذلك شكل التعاون لبناء المفاعل والمختبرات الأخرى بطبيعتها العلنية والمفتوحـة داخلياً وخارجياً ثغرة كبيرة استطاعته إسرائيل بواسطتهـا التعرف على نشاط الطاقة الذرية ومدى تقدمـه .
* الـدرس الثالث : هـو أن طموح بناء مركز أبحاث عالمـي كبير بمفاعل ضخم مفتوح عالمياً كما خطط له فـي المرحلة الثانية كشف عن نقطة وهن تعرضه لهجوم وقصف يصعب درؤهما . ثـم أن بناء أي مفاعل لا يمكن إخفاؤه فـي عالم الأقمار الاصطناعية التجسسية والطائرات المسَّيرة .
* الـدرس الرابع : هـو أن بعد تعّرض العاملين فـي بناء المفاعل العراقـي لحملة اغتيالات كان على العقل العراقـي أن يطور مجموعة من المفاهيم والخطط والإجراءات لحماية العاملين فـي البرنامج النووي من الاغتيال ومن تسرب المعلومات قبـل أن يحين أوان أطلاقها وللإقـلال إلى الحد الممكن من نسبة خطر استهداف منشآته للتدمير وظلت حماية الإفراد من علمـاء وباحثين وفنيين تحظـى باهتمام كبير من جانب الإدارة العلمية للطاقة الذرية بعد الذي حصل من اغتـيالات .

تـورد المرويات الدينية فـي قصة النبي إبراهيم الخليل حواراً جرى بينه وبين جبريل يوم أراد حاكم المدينة إحراق النبـي . فـي ذلك الحوار دعا إبراهيم ربه أن ينتقم له من أهل العـراق ، فرد سبحانه وتعالـى طلبه على لسان جبريل قائلاً : لا تدعُ عليهم يا إبراهيم ، فقـد أودعت فيهم خزائن علمي وجعلت فـي قلوبهم الرحمـة .
قـد يعترض مـن يعترض على هذا الحوار ويشكك فـي صحته ولكـن لا يختلف اثنان بشـــأن العراق .. خـزانة العلم .. نشـأت على أرضه أولى الحضارات .. اخترع أهله الخط والكتابة فأرخوا للإحـداث والأزمان حتى سميت عصور ما قبـل اختراع الكتابة عصور ما قبل التاريـخ .
وعليـه ، فقد كان البرنامج النووي جهداً عراقيـاً خالصاً خلاقاً مبدعاً ذلك الذي أنجزه العقل العراقي عنـدما صاغ برنامجه النووي وعمل على تنفيـذه مستوحياً كل تاريخ العراق وخزائن علمه التي أودعهـا العزيـز الجليل فـي أهله .. جهد خلاق مبدع نتج من عقول عراقية لتكون حاوية لركب الأمة العربية ونبراسهـا ، ولتحقق للأمة إسهامها الحضاري من جديـد .
* الكتـاب :
إستراتيجية البرنامج النووي فـي العراق ، فـي أطار سياسات العلم والتكنولوجيا .
تـأليف ـ همام عبد الخالق عبد الغفور  و  عبد الحليم إبراهيم الحجاج ، ط1 ، مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت ، 2009 ، 204 ص .
[email protected]

أحدث المقالات