يرى رئيس وزراء بريطانيا الأسبق ونستون تشرتشل، الديمقراطية بأنها “أفضل الخيارات السيئة”، وربما يقترب هذا الرأي الصادر من أعرق ديمقراطيات العالم، مع الرد الذي الذي أصدره صموئيل هنتنغتون بكتابه “صراع الحضارات” على تلميذه فرانسيس فوكاياما الذي أعتبر النظام الغربي بنسخته الأمريكي هو النهاية التي وصلتها البشرية في مسار العدالة، وهو بذلك يدلل على قيمة النظام الغربي في إحلال السعادة على الأرض. صدام الحضارات يضع صيغة جديدة للصراع الإنساني، ولعله يحاول التدليل على حركيّة التاريخ المستمرة ويرفض وضع حدّ لإنتاجية العقل.
مع ذلك، تبقى الديمقراطية حلماً بشرياً تتوق إليه جميع المجتمعات التي تعاني غياب العدالة وإنعدام المساواة وتردّي الحريات. بيد أنّ الأحلام، في كثير من الأحيان، تبقى خيالاً يداعب أجفان السهارى لإستجلاب النوم.
إذا لم تعمل المجتمعات على إستحضار القيم الديمقراطية في حياتها اليومية؛ لن تفرز بيئات تلك المجتمعات سوى مزيداً من الأنحراف والنزوح صوب الفوضى، فتحدث عملية تقنين وتشريع لجرائم كبرى يساعد النظام الديمقراطي على ترسيخها وتعميقها بأعتباره نظام جبان في مواجهة المجتمع.
فالتغيير الهرمي الذي يستهدف السلطة، يبقى قاصراً ما لم ينبثق من القاعدة، وهذه يجب أن تحمل مستوى فهم مقارب لمستوى النظرية في النظام الديمقراطي، وفِي حال حدث مثل ذلك التغيير الهرمي، فهو ينجح في حالة بقاء النظام الجديد مشابه في طبيعته للنظام القديم، وهنا يكمن سبب نجاح الإنقلابات العسكرية والثورات الآيدلوجية التي تفرض لوناً واحداً من التفكير والتوجه، فآليات ووسائل الإنقلابات منسجمة مع المجتمعات المستبدة ومفاهيمها في الغلبة وسيطرة الأقوى. أما في حالة أختيار النظام الديمقراطي، فيجب مراعاة طبيعة المجتمع أو تطويره بالإتجاه الذي يضمن إنسجامه مع النظام. ويأتي ذلك من خلال مقاربة نظرية معينة أو صياغة نظرية تتماهى مع النظام الإجتماعي الذي يعد الأصل, فالدولة ومؤسساتها هي مرآة المجتمع، ولابد لها من شعب كأحد شروطها. وهذا لا يعني إنزال النظام السياسي إلى مستوى الواقع الإجتماعي كما ليس العكس؛ إنما إخضاع النظرية السياسية والواقع الإجتماعي وتطويع أحدهما للآخر بما يكفل الوصول إلى المنتصف بحيث تكون النتيجة زوال الأعراف الديمقراطية المتقاطعة كلياً مع المجتمع، وإلغاء التقاليد والعادات الإجتماعية البدائية والمتخلفة طوعاً للدولة.. بمعنى تحطيم المجتمع تشريعاته البالية والمتعارضة مع صيغة النظام الجديد، على إعتبار ذلك التشريع حالة بدائية، وبوجود القانون المتطور الذي يتحقّق بوجود الدولة الديمقراطية، فلا داعي لما هو بدائي.
الديمقراطية لا تختزل بنظام سياسي فحسب, بل تشمل مجمل جوانب الحياة؛ لذا تتمظهر مشاكلها بعدم الإستقرار التام وفشل محاولات الإصلاح, طالما بقي التقاطع بين البنية الثقافية للمجتمع والقيم السياسية للنظام الديمقراطي للدولة. وهذا القطع العضوي في جسد الكيان, يؤسس لدولة منافقة مرهقة غريبة الأطوار في أداءها. فالحكومة التي ينتجها المجتمع, تتملّق جماهيرها المشبعة بعادات إستبدادية, سواء كانت في الريف أو المدينة.. وربما يظهر جلياً ذلك الإزدواج في المراس العشائري؛ إذ تعتبر العشيرة مظاهر التسلّح والنزاعات المسلحة جزءاً من شخصيتها المعنوية ويرتبط بكرامتها وعزّتها وإستمرار نفوذها, وهي بذات الوقت تشارك في صنع القرار السياسي عبر تأثيرها الحاسم في الإنتخابات التي تعد دعامة من دعائم الديمقراطية.
ثمة واقع آخر نعيشه بعمق غير ما نراه من المظاهر الديمقراطية, وهذا الواقع بحاجة إلى مواجهة شجاعة تبدأ من تحرير النفوس من العقد المستحكمة والسلطات المعيقة لحركة التحرّر الإنساني بغية توفير الحد الأدنى من شروط النظام الديمقراطي, وإلا فحركة التاريخ في العراق لن تأخذ شكلاً غير مسارها الدائري!