ونحن نتعسل الكلمات ، تأخذنا المهاوي إلى ، حيث مرابع المعاني الراقية والتي نقاسمها الزهور وابتسامات الفجر الأبيض ، وقد نجد الأبواب موصدة ، ولكننا بصبر الحب نطرقها مرات ومرات ، هكذا كل مرة نطالع فيها احد الدواوين الشعرية التي تحمل الكثير ، هذا الكثير (تشحنه المفردة الشعرية بطاقة جمالية لم يسبق له أن عهدها ، تفتحه عليها وتختبر ذكاءه الاستقبالي بها ، فيصبح التعامل عندئذ تعاملا امتزاجا متفاعلا لا تعاملا استقرائيا وصفيا خارجيا.) ومن ثم (يصبح النص الشعري الحديث بلغته الكيانية الحديثة جزءا من قلق المتلقي وطموحه ووعيه وشخصيته ، وهو يطمح الى الدخول بها والتواصل معها والتفاعل مع خصوصياتها ، لتنتقل اللغة الشعرية من وظيفتها التوصيلية إلى وظيفة انبعاثي تتدخل في أدق خصوصياتها الشخصية وموقفها من الجمال والفكر والأشياء ، وتعيد صياغتها وإنتاجها من جديد)ص62 وهكذا تبرز المصاعب لقراءة كلمات تحمل لغة جديدة وتخفي بين ثناياها المعاني .. هذه الأفكار تصارعت وأنا أحاول القراءة في ديوان (كوميديا الذهول) للشاعرة ريم اللواتي والذي حفل بأنسنة الأشياء سواء كانت مرئية أو لا مرئية ونلاحظ الشاعرة قلقة جدا ومصابة بدوار الحيرة حول الوجود والعدم وبين اللحظة الإبداعية المسكرة وبين لحظة الوعي ومنطقة العقل تزداد حيرتها ، فتركب موجة التغريب وعزل الكلمة عن معناها القاموسي لتحمل معنى ريم اللواتي الخاص ، حيث تقول :
(كَأَنَّهَا النُّبُوْءّةُ تَطْرُقُ الْبَابَ
فَلا تُغْمِضُ رَائِحَةٌ مُقْتَرِبَةٌ أَجْفَانَهَا إِلا عَلَى تَوَجّسٍ يَرْقُبُ الْمَدَى ذُهُوْلاً
هَذِهِ الْحَانَةُ الْقَرِيْبَةُ مِنْ حَنِيْنٍ يَمُجُّ ظِلَّهُ فِي بَقَايَا كَأْسٍ وَقِمَاط!
( خَطِيْئَةٌ ))
وهنا الذهول واضحا .. حمل بلا شك قلقا يراودها فتدور معه وأحيانا تحاول صده تقول :
(كُلَّمَا كَانَ دَوَرَانُ الْغِيَابِ أَقْرَب إِلَى الصَّمْتِ
كَانَتْ سَاعَةُ السُّكْرِ فِي تَمَامِ الرَّحِيْلِ)
هذا التوتر بين الغياب إلى حد الصمت أو الغياب في حالة الخمر وكأنه رحيل مؤقت عن الوعي ، وهي تدرج نوعين من الغياب الأول : الموت والثاني : الغياب عن الوعي مؤقتا إذن ، هي تحمل مخاضا تضعه في رسالة جمالية اتخذت مركب إثارة الأسئلة حول هذا الكون المضطرب في قناعتها ..
(يَالِهَذَا الْمَجْبُوْلِ بِالرِّسَالَةِ
وَالسَّرْدِ الْحَكِيْمِ
يُؤْمِنُ بِالنُّبُوْءَةِ أَكْثَرَ مِنْ ذَاتِهِ
مِنْ مَاءِ الله فِي طِيْنِ حَوَّائِهِ)
وقد لاتكتفي الشاعرة بهذه التساؤلات ، بل تستمر في طرح رؤية خاصة قد تتحول إلى فلسفة في حكمة الوجود وهو السر الذي تبحثه هنا ..
(قَبْلَ أِنْ يَهْتِكَ عِرْضَ السِّرِ
كَانَتْ آثَامُهُ تُحِيْطُ بِهِ
وَيَدُهُ الْقَصِيْرَةُ تَلْمِسُ أَطَرَافَ الْخَوْفِ)
ثم تتحول الى (مزامير الوحشة)جامعة بين الجمال والقبح أي مزامير وتعني موسيقى لكن الباعث هي الوحشة ثم تقول :
(يَزأَرُ وَحِيْدًا
تَخْرُجُ مِنَ الحُلْمِ فُقَاعَةٌ
تَرَكَت رِسَالتَهَا فَي الْقُبْلَةِ الْمَجْنُوْنَةِ
يُلَوِّحُ فِي الْبَيَاضِ
مُتَكَأُ النَّشْوَةِ رُمَّانةٌ !
حَمِيْمَةٌ
سَاخِنَةُ الْوَثْبِ
إِلَى الْخَيَالِ
رَغْوَةٌ يَلُّفُ خَصْرَها عِنَاقٌ
وَلَهَا سَمَاءٌ
تُنْزِلُ الشَّهْدَ!
كُلُّ شَيءٍ مَفْتُوْحُ النَّوَايَا
نِيَّتُهُ الزَّهْرُ
وَفِعْلَتُهَا الجَدْب!)
وهنا جمعت بين القبلة والجنون والزهر والجدب أي إنها جمعت النقائض لأجل بث رسالتها الشعرية بهذه الدرجة من التخفي بين الوجود واللاوجود إلا إذا صلحت النوايا وتوضحت المرامي والأهداف فـ(كُلُّ شَيءٍ مَفْتُوْحُ النَّوَايَا) ولكن خبث الإنسان أحيانا يكدرها وكأني بالشاعرة تبحث عن ذاتها وسط هذا الخضم الذي يحاول تحريف رسالة الإنسان الحياتية الى مرامي أخرى تكون الشاعرة قلقة إزائها وتبقى محاولاتها في انسنة الأشياء تعكس شكها المريب في صدق الآخر لذا هي تتحاشى التحاور معه في أكثر الأحيان ..
(الشَّارِعُ الْمَسْكُوْنُ بِالْمَوْتِ لا أَجْنِحَةَ لَهُ
يَبْقَى سَاكِنًا فِي احْتِضَارِ الْجُدْرَانِ
يَسْقُطُ طُوْبُ الْوَقْتِ عَلَى رَأْسِ الْمَأسَاةِ
الشَّارِعُ الَّذِي كَانَ وَاقِفًا بِالأَمْسِ
تَرَاخَتْ رُوحُهُ فِي جَلْسَةٍ بَارِدَةٍ
الْكُرْسِيُّ الْمَهْجُوْرُ يَحْمِلُ جُثَّةَ الظِّلِّ
قَصِيْرَةٌ مَسَافَةُ الْعَدَمِ
وَالْبَرْزَخُ دَعْوَةٌ أَخِيْرَةٌ عَلَى مَائِدَةِ الرُّوْحِ
قَبْلَ أَنْ تَنْدَسَ فِي تَابُوْتِهَا
تُخْرِجُ يَدَهَا مُلَوِّحةً لِلْقَدَر!)
فالشارع والكرسي والبرزخ وهو بالمعنى اللغوي الحاجز وبالمعنى الفقهي عذاب القبر قبل يوم القيامة فهذه الأشياء تحاول الشاعرة اللواتي استنطاقها واخذ المحجة منها والمعنى الآخر من هذا هو خلق أقنعة تتخفى فيها وكأنها تحت رقيب متجبر .. هذا (سفر المتاهة) تحده (سجدة سهو) فـ(لَسْتُ أنكيدو فَكَيْفَ بِكِ دُوْنيَّا عشْتَار( ، لتصرح بجواز الاتحاد معه لغاية ، قد تتبين دوافعها تقول :
( يَا أَنْتَ السَّمَاءُ أَمْطرَت
بَعْضَكَ بَعْضِي
وَالأَرْضُ فِينَا شَتَاتٌ
مُدَّ يَدَكَ
لا زَالَ فَضَاءُ الرَّبِّ يَتَسِعُ أَغَانِيْنَا
لا تُخْرِسِ الرِّيْحَ
أَسْمَعُهَا تَحْمِلُنَا
قُل : رَتِّلِيني كَآيَةٍ تَخْتِمُ عَلَى زَمَنِ القَدَاسَاتِ
دَثرِينِي وَجهَكِ
شَعْرَكِ
وَغَطِّي بَلَلَ التَّعَبِ نَبِيْذاً
دَعِيِني أُمَشِّطُ العَدَمَ بَحْثاً
وَجْهُكِ يُقَابِلُني دُوْنَ الِجهَاتِ
في وِجْهَةٍ جَدِيْدَةٍ سَألْتِنِي
” أحبَبْتَنِي “
غَيْمَتُكِ تَائِهَةٌ فِي السُّؤَالِ
لماذَا المطَرُ لَيْسَ لَنَا؟!
وَالنُّبُوءَةُ تَحْمِلُ وَجْهَيْنَا)
وهنا عادت بطرح الأسئلة كبرهان على قلقها وحيرتها كإنسانة تبحث عن ذاتها وعن النقاء والحب والجمال ف(النبوءة تحمل وجهينا) ف(لماذا المطر ليس لنا) وتلك غيمتنا تائهة لتقول : (مُدَّ يَدَكَ / لا زَالَ فَضَاءُ الرَّبِّ يَتَسِعُ أَغَانِيْنَا) هذا جزء من الحقيقة التي تبحث عنها الشاعرة في محراب الكلمات الخاشعة المتكهنة في خواطرها ، معتبرة اللحظة الشعرية غياب مؤقت عن الوعي كفعل كأس النبيذ ولكن بين لحظة الشعر ولحظة السكر لحظة تأملية لا يرقاها الا غياب الوعي في لحظات الشعر حينما تغزو الشاعرة ، لذا هي تشكك بهذا الآخر الذي يمثل نصفها الثاني في الحياة وبدون لقائهما لاتستمر أي حياة في الكون وهذا التشكك متمثلا بقولها :
((أنتِ تِلْكَ الَّتي عُجِنَتْ بِنَارِها وَطِيْنِي(
لا يَحْرِقُهَا مِنَ الغِيَابِ إِلا دُخَانٌ يَسْتَجِيرُ مِنَ العَتْمَةِ بِالفَرَاغ!
كَمْ يَتَصَاعَدُ أَبْيَضَ
يُشْبِهُكِ
تَنْظُرِينَ لأسْفَلِ الوَجَعِ
لَكِنْ… ” هَلْ قَلْبُكِ أَبْيَض؟!”
تَصْنَعُ التَّسَاؤَلات لَحْنًا خَاصًا)
وهنا تداخل بالأصوات صوتها وصوته خالقة بذلك توهجا ملحا لإنتاج سلسلة من الأسئلة وهو برهان لايساوره الشك من أن الشعر تيه تتوالد في داخل خضمه الأسئلة ونحن لانشك من أن الأسئلة تترك من قبل الشاعرة بدون أجوبة ، وهي مهارة في جذب القارئ أو المتلقي كباحث عن الأجوبة وطبعا حسب مهارة القارئ وقدرته على اجتراح الأجوبة ، وبهذا تغذ السير نحو (قيامة الاكتمال) بقولها :
(اذْهَبْ وَبِيَدِكَ سُتْرَةٌ وَاقِيَةٌ مِنَ التَّفْكِيْرِ ، سَتَحْتَاجُ إِلى الَّلا تَفْكِيْرِ قَبْلَ أَنْ تَصِلَ إِلَيْهَا!
(قِيَامَةٌ)
أَيَسَرُكَ يَعْرِفُ مَلاكَهُ
دُونَ اقْتِرَافٍ لِيَمِينٍ لا جُنَاحَ لَهُ!
سَيَهْطِلُ مِنْ جِرَابِكَ صَوتُ ((( خُشُوعٍ)))
(صِرَاطٌ)
فِي مُنْتَصَفِ الحَبْلِ الممْدُودِ
بهلَوَانٌ يَرْقُصُ أُكْرُوبَاتِ القَلَقِ
الهاوِيَةُ تُخْرِجُكَ مِنْ الشَّكِ
تَرْفَعُكَ إِلى يَقِينِ الأَهْوَال
الطَرِيْقُ طَوِيْلٌ
احْتِمَالٌ وَاحِدٌ لِلْوُصُولِ
كُنْ أَنت
(بَرْزَخٌ مُؤَج
وهنا تضع فكرة الاحتمالات لأنها مسكونة بالحيرة والقلق والبحث المستمر في مساحات الحياة ، فهناك حب وهناك سعادة وهناك نصف إنساني آخر يجلب لها هذا الجمال والحب ونسبة معينة من السعادة ، فأي طراز وأي نصف هذا الذي تبحث عنه وهي مجبولة على فطرة الخير .. والاحتمال الوحيد أن يكون هو البرزخ لهذا المد من الموج ثم تخاطبه هكذا :
(سُبْحَانَ الَّذِي جَعَلَ لَنَا بَيْنَ الحُبِّ وَالحُبَّ ” قَدَراً”
وَأَيَّاماً تَعْرِفُ أَكْثَرَ مِنَّا
عَيْنَانِ تَرْقُبَانِ خَيْطَ الغِيَابِ هَلْ سَيُطِلُّ وَشَرْقُ الشَّمْسِ في الأفُولِ
يُغَنِّيَانِ:
حَنَانَيْكَ مِنْ عِشقٍ هُوَ أَكْثَرُ مِنْ امْرَأَةٍ تَخْرُجُ مِنْ ضِلعِ رَجُلٍ
أَكْثَرُ مِنْ نِتُوءٍ يَتْرُكُ فِي الجَوفِ خوَاءَهَا
يا سُبْحَانَكَ
إِنَّهَا القِيَامَةُ فِي الصَّوتِ القَادِمِ مِنَ العَدَم
بَعْدَمَا تَدُبُّ فِي أَوْصَالِهِ الْحَيَاة
هِيَ هُوَ
هيُولى الفَوْضَى)
وهو خطاب حمل سخرية عدم الفهم بجعل المرأة تابعة للرجل ، بينما الخطاب الإلهي يحث على الحب والعاطفة والسكن ، وليس ترك الحرية كاملة للرجل يقطف ما يشاء من رحيق أي امرأة ، إنما محصور في المرأة التي تبادله الحب وإثراء الحياة بالنسل والشراكة ، وهي فلسفة أسست لها الشاعرة اللواتي من البدء ، وبدون هذه الفلسفة سيصار إلى فوضى غير حميدة في الأرض ، ولكن في الحب يكتمل العالم وتحلو الأرض ..
(أُحِبُّكِ
حَتَّى النَّزَق
وَرَفْعِ الشِّعَارَاتِ الأَفْلاطُونِيَّةِ
وَجَعَلِكِ مَدِيْنَته
أُحِبُّكِ
بِحِجْمِ فِكْرَةِ أَنَّكِ ” الْجَنَّة “
وَأَنِّي حُوْرِيَّةٌ)
هكذا تبغي من العلاقة الإنسانية الرابطة بين الرجل والمرأة ولكل واحد سعي يحمده الله ويقدسه ..
((أَيُّهَا الْطَرِيْقُ!؟)
حَيْرَانَ يَعْرِفُ أَنْ الإِجَابَةَ نَصْلٌ
وَأَنَّ الْطَرِيْقَ سَيَبْقَى طَوِيْلا
كَجَدِيْلَةٍ سَافِرَةٍ
مَدَاهَا الأَرْضُ
مَسَافَتُهَا أُنْثَى
قِبْلَتُهَا رَجُلٌ!
وَحَوَاسُّهَا الْغَوْغَاء)
إذن الحيرة والقلق تقود نحو البحث عن الحلول بطرح أسئلة أخرى عن الغياب ..
(أَيُّهَذَا الْوَجْد الْوَاقِفُ بَيْنَ الرَّحِيْلِ وَالرَّحِيْل!
أَيُّهَذَا الْحُبُّ الْمُغَادِرُ مَفَازَةَ الْعَلَن!
جُنُوحُ الْوَرْدِ عَلَى الَّلونِ فِي مُغَادَرَةِ الْمعَنَى)
وكل الشعر قديمه وحديثه يبحث عن المعنى .. والشاعرة ريم اللواتي بديوانها هذا قد وضعت عدة أسئلة حصيلتها كونت لدى المتلقي فلسفة خاصة لهذه الشاعرة التي لن تتخلى عن الحب وعن النصف الآخر ، بيد أنها وضعت حدود لهذه العلاقة .. حفل بها ديوانها وجاء بكلام يدهش المتلقي ويصدم الذائقة ويعدد الأجوبة حسب المعاني وعذري هو ضيق الوقت الذي قطع بسيفه رحلتي الممتعة مع أشعار ريم اللواتي التي تحمل بصمتها الخاصة ..
/كتاب (عضوية الاداة الشعرية) أ.د. محمد صابر عبيد سبسبة 14 الصادرة من جريدة الصباح العراقية ص62
/ ديوان (كوميديا الذهول) للشاعرة ريم اللواتي
[email protected]