ان يبتدئ اول سطر في مقالة لفنانة وممثلة عراقية(نجلاء بدر) تروي سيرتها بـ”كم هو مقرف أن تكون الفتاة ممثلة في مجتمع منغلق”، وان تكتب شاعرة شابة(رنا جعفر ياسين) على حائط الفيس بوك” شاعرة حرة يعني منحلة”, فذلك امر يضع اخلاقياتنا على المحك. ويجعلنا نقف امام مرآة عريضة كي نستعرض بعدسة مكبرة حجم ارتكاباتنا. نتحدث هنا عن مرارة “قواريرنا” في وسط يسمى “الوسط الثقافي”، يعني- حسب ما يفترض- الاكثر رافة بالقوارير والاكثر ليبرالية وتسامحا وانفتاحا.
اذا كان الوسط الثقافي اكثر اضطهادا للمراة فما بالك بوسط عامة الناس. الاعم الاغلب في الوسطين يتخيل نساء من خارج عالمه: نساء ينزلن بالبارشوت كي يصبحن مغنيات او راقصات باليه او راقصات فنون شعبية او ممثلات، يعني لسن من عائلته. مرة زار صدام حسين، في اول عهده بالحكم، الاتحاد السوفييتي. وواحدة من التقاليد البروتوكولية ان يزور الضيف مسرح “البولشوي. شاهد صدام عروض الرقص الشعبي الروسي. وسأل مرافقيه كيف يصنع نظيرها في بلده. النتيجة كانت تاسيس الفرقة القومية للفنون الشعبية( كيف شعبية وقومية لا اعرف!) في العام 1969. اما الفنانات فنزلن بالمظلات: من ملجأ الأيتام! اي من بنات بلا عائلة. كما روى لي احد الراقصين في فرقة الفنون الشعبية. كان حلا عبقريا بالنهاية في مجتمع لا يقبل الفنانات إلا اذا نزلن من البرشوتات.
ها؟ لماذا اكفرهت الوجوه؟ هل لاني قرنت العبقرية بصدام؟ لا تخشوا شيئا لم يضع صدام احدا من اسرته او اسركم في الفنون الشعبية بل استقدم الفنانات من ملجأ الايتام. وهو كان في عصر انفتاح بحكم هيمنة الحركات اليسارية. تروي اعتماد خورشيد في كتابها”شاهدة على انحرافات صلاح نصر” والتي فضحت “فضائح” الاخير الذي كان مسؤول المخابرات المصرية كيف التقت جمال عبد الناصر وكيف “اكفر وجهه” حين اخبرته انها فنانة على رغم أنها كشفت له أسرار مؤامرات صلاح نصر ضده. في الصفحتين 28 و29 من المذكرات تقول: “وسألني الرئيس عن قصة حياتي وظروف زواجي(…) وقال لي كسبت ايه من الفن الا الدمار، وشعرت انه له راي خاص في الفن والفنانين، لم يقوله امامي”، هكذا كما اوردت اعتماد خورشيد مع اغلاطها اللغوية! الامر ليس بجديد، بالنسبة للساسة، ولكنه لا ينبغي ان يكون جديدا مع من يعملون في الحقل نفسه اقصد الفنانين و”الراي الخاص بالفن والفنانين”، كما تروي خورشيد وهي تقصد بالتاكيد الفنانات.
دعونا نقرا ما تقوله الممثلة نجلاء بدر: “من كان يحمل لقب فنان او أديب أغلبه أصيب بداء (الطاعون ألأخلاقي) وأصبح كائنا جلّ أهتمامه اشباع غرائزه الرخيصة”، وهي هنا تتحدث عن جيل ما قبل 2003. وبعد ذلك العام ما ذا حدث؟ تجيب: “الأمراض التي أصابت الوسط الثقافي والفني العراقي أمراض مزمنة والشفاء منها يتطلب وقتا طويلا، فالسلوكيات والعقول لم تتغير، بل أزدادت عفونة ونتانة ودناءة.” وليس ذلك ببعيد عما تقوله الشاعرة والإعلامية رنا جعفر ياسين: راجعت تاريخ المرأة الشاعرة في العالم, المرحلة الوحيدة التي أٌحترمت فيها كانت في عصور التاريخ الاول عندما كانت الهة او ابنة اله, بعدها التاريخ حولها الى عاهرة والى جارية, واليوم مازالت تنادي بحريتها وتستجديها … اليس هذا قمة التيه؟”.
كل من الممثلة والشاعرة تتحدث عن وسطها. وليس عن عامة الناس. ومادمنا في صدد الحديث عن بغداد والقاهرة فلي هنا الحق بالمقارنة التي افترضتها سلفا: لنلحظ حتى في النص كيف تباغت مفردات المراة بمواربة وتغافل وحيطة مفردات الجملة كي تتستر لا حقا بتراكمها لدى رنا جعفر ياسين: تعاظمَ صوتٌ من خلفِ الوصايا: البدايةُ يقترفُها بشهيةٍ أحمرُ شرهٌ, من اليسارِ يكتبُ صهيلَهُ وينقلبُ …. ليثورَ”، لغة انثى هنا تتستر بما يشبه لغو شعري، بالنسبة لي على الاقل، ويحرمها من سمة شعرية اسمها الصفاء. للنظر بالمقارنة في ما تكتبه شاعرة واكاديمية مصرية هي فاطمة قنديل ” أنا لم أعد صالحة لأن أحب وأن أحب، لكن رغبتي في أن أحب وأن أٌحب/ لم تزل صالحة. ” او في هذا المقطع الذي لا اظن ان واحدة من قواريرينا العراقيات قادرة على التكشف بمثيله وبغيره مما تقوله فاطمة قنديل الذي لا اجرؤ انا شخصيا على ايراده في هذه العجالة (لا اتحدث عن مقدرة الكتابة): ” أتوجَّس عند ارتطام الحافلة أن/ يحس الواقفون الفراغ بين ثديٌي/ الصغيريْن والسوتيان/ أو أن يمتلئ الفراغ بيني وبين جاري فجأة/ كان طوال الطريق يثبت براءته..”.
قد لا ابالغ ان قلت ان كون الكاتب من جنس امرأة يعني ورطة لدى الاخيرة اما اذا كانت المراة جميلة فذلك قد يبدو مصيبة. الامر هنا يتعلق بسياق الثقافة وليس النص، ما يدفع المراة الى التنكر جزئيا ان جاز القول لانوثتها: يكفي اعتراف المراة بالحب لجعلها تبدو منحلة اما الرجل ان بالغ في الغزل فتلك غزوة مباركة وفحولة مستحسنة اشد الاستحسان. والحالة هنا هي من باب المتداول في القول وليس الكتابة. حتى الاعجاب بكتابة الكاتبة يشكل حرجا فهو يعني اعجابا ذكوريا بانثى وليس بالكتابة. هذا قد يدفع المراة الى احتشام اللغة وتعففها وقد يكون في منحى اخر تقليدا لنزعة كتابية ذكورية تميل الى التعبير عن ذات جمعية وليس نظرة ذاتية للذات. على الصعيد الاجتماعي ايضا نلمس شكوى نسوية ومن غرارها حالة رنا، ان شاعرة صبية يعني استسهال خصوصيتها وجعل تحررها نوعا من خفة تسهل الاختراق.
ذلك ما يحرم اديباتنا احيانا من ميزة الصفاء التي يستحقها الادب. اي تلك اللغة الكريستالية التي فيها تمحور وتراص واكتنان اكبر للمعنى: الم يقل ابو البلاغة: ما وجدت بليغا قط الا وكان لديه ايجاز في الالفاظ واطالة في المعنى”؟ كتابات اديباتنا احيانا نوع من الاطالة خارج المتن، كمن يتحدث كثيرا كي يتجنب التطرق الى مقصده، او (ويا للمفارقة) لما تسميه العربية: بيت القصيد في استعارة واضحة من لغة الشعر. لعل مدعاة ذلك من بين دواع اخرى، هو الهروب الى الامام خشية من الافصاح عما لا تحمد عقباه.
الا .. رفقا بقوارير الادب والفن يا اهل الادب والفن!!