17 نوفمبر، 2024 9:33 م
Search
Close this search box.

حوار مع الشاعر العراقيّ أديب كمال الدين

حوار مع الشاعر العراقيّ أديب كمال الدين

أديب كمال الدين شاعرٌ يربضُ في إيقاع كلمةٍ من فتافيتِ جسدهِ النابض بسحرها وكهربائها.. كلمةٍ بلونِ شوقهِ، وبعمق عشقهِ الصوفيّ، وباتّساع علاقاته الصباحية التي يعطّره حرفٌ بموسيقا وظلال.. حرفٌ مثيرٌ، فسفورهُ خلاصة صلاة واجبة خاشعة بدمع ليْلكيّ، يتوّجُ قصيدته بكيمياءِ جملةٍ رشيقةٍ، لا تنسَبُ إلاّ لهُ، وتقرأُ بالعينِ والقلبِ معاً، حوّلهُ الحرف المكهرب بذبذبات روحه الكاهنة إلى مُتجلٍ.. وصلاتهُ لنْ تكونَ قضاءً في محراب الكلمات، وعلى قِبلةِ الحرف، حولتهُ إلى مخلوق قرآني.. صوفي، ابتهالاته تبثُّ عبر أثير الحروف المتيم بها وهي من كيمياء حبر روحه العاشقة!
     شاعرٌ يكتبُ ليُؤرّخَ لجرحهِ النازف أبداً. ولجراحٍ أكثر ألماً وصراخاً، ينكأها الزمنُ والوطنُ والغربة مجتمعين.. وإذا ما ضُبطَ متلبساً بمغامرةٍ شعريةٍ، فهي حياتية، ليسَت نُزهةً ولا ترفاً..وهوَ يكتبُ ولا يتسلّى أبداً! يأخذكَ لكونٍ شعريّ مُموسقٍ.. مُنغّم، ينساب عبرَ حروفية تؤسّسُ للغةٍ بعدَ الكلمات..قصائد تُقرأُ همساً، وتُنبيء بميلاد لغةٍ صوفية كونية فاعلة لا محالة لترتيب تفاصيل عالمٍ جديد يفكّر شعراً.. ويعشقُ شعراً. في كلّ قصيدة جسارةٌ مُذهلةٌ، تمتعكَ في عطرها، بلْ تربكُ ضربات القلب، تُحيّركَ.. أهي جسارة ذاكرة شجرة تُثمرُ.. وحمامة تتناسلُ أم أنها أفعال لغة تتفجّر صوراً..دلالاتٍ.. معاني سامية.. لوحاتٍ تشكيلية، فتتماهى القصيدة واللوحة، لتجدَ الشاعر أديب كمال الدين الذي منَّ الله عليه بالحكمة والحرف الساحر، شاعراً ورساماً في الآن.. مدمنُ كتابةٍ بحبرِ الجسد، وهو بالكتابة – الحياة كلّ شيء، ومن دونها لاشيء!
    أديب كمال الدين الشاعر الحالم وهوَ يجيدُ رقصةَ ” زوربا” الباعثة والمجددة للحياة ،وهو المنتسبُ لسُلالتهِ التي تملأ الحياة قصائد غير مرئية، أطفأت كوارثُ الوطن المتلاحقة.. والحروب المفتعلة حلمَهُ الزورباويّ هذا، وفازَ بالحرف– مفتاحه السحريّ لأبواب اللازمان! وهو إذا ما اشتاق، يشتاق شعراً، ويحنُّ شعراً، وتحيتهُ شعراً، والشعرُ وحده الذي يفوض أمره إليه، ليُرتّبَ لهُ علاقته، ويتوّج بحبّات المطر انتظاره لصباحٍ جديد، بعطر الوطن لهذا تزداد قصيدته عمقاً ، في كلّ قراءة حالمة، متلوة بيقظةٍ عسيرة.. حاورتُ قصائده وقد مهّدت لي الطريق كي أسافرَ في ميتافيزيائه الإنساني لأحاورهُ، أسكنُ إليه بحراسة الحرف وعذارى الخيال، فكان كتابه الجديد “مواقف الألف” الصادر مؤخراً ببيروت يدعوني إلى الحوار، ويجدد بي الرغبة للقائهِ والحوار معه عبرَ أثير الحرف والكلمات.
صدرَ له  من الدواوين الشعرية:
– تفاصيل 1976 – النجف
– ديوان عربي 1981- بغداد
– جيم 1989 – بغداد
– نون 1993 – بغداد
– أخبار المعنى 1996– بغداد
– النقطة ط1 1999-  بغداد،  ط2 2001 – عمّان- بيروت
– حاء 2002 – عمّان- بيروت
– ما قبل الحرف .. ما بعد النقطة 2006 – عمّان
– شجرة الحروف 2007 – عمّان
– أُبوّة (بالانكليزية) 2009 – أستراليا
– أربعون قصيدة عن الحرف 2009 – عمّان
– أربعون قصيدة عن الحرف 2011 (بالإيطالية: ترجمة أسماء غريب) إيطاليا
– أقول الحرف وأعني أصابعي 2011- بيروت
– مواقف الألف 2012 – بيروت
_كُتِيت عنه عديد الدراسات النقدية بأقلام كبار النقاد العراقيين والعرب. كما كُتبت عنه ثلاثة كتب نقدية (الحروفي: 33 ناقدا يكتبون عن تجربة أديب كمال الدين الشعرية- اعداد: د. مقداد رحيم 2007), (الحرف والطيف – د. مصطفى الكيلاني 2010) ، (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين- د. صالح الرزوق 2011)
– تُرجمت قصائده إلى أكثر من لغة عالمية .. وقام بترجمة عديد القصص والمقلات والقصائد  من الانجليزية إلى العربية.
– فازَ بجائزة الإبداع الكبرى للشعر العراق – بغداد 1999 واختيرت قصيدته (أرق) واحدة من أفضل القصائد الأسترالية 2007.

       .القرآن الكريم كنزٌ لا يفنى لكلّ أديبٍ وكاتبٍ وشاعر.
* لستَ غريباً بهمومكَ.. وأحلامك على القارئ العربيّ، ولكن إذا أردتَ أنْ تقدّمَ نفسَكَ شعرياً، كمخلوق ٍ لغوي.. ماذا تقول؟
–  أنا مخلوق قرآني، صوفي، حروفي!
نعم، فمن القرآن الكريم نهلتُ معارفي في مختلف الأصعدة. فالقرآن الكريم بحر عظيم وفيه علم ما كان وسيكون، أي علم الأسئلة الكبرى التي واجهت البشرية منذ خلق آدم إلى يومنا هذا عبر أخبار الأنبياء والمرسلين، وتفاصيل عذاباتهم ومعاناتهم وصبرهم وغربتهم وأحزانهم وهم يبلّغون في مختلف الأزمنة والأمكنة رسالةَ التوحيد والمحبة والسلام واحترام الآخر وعدم تحقيره أو الاعتداء عليه بأيّ شكل كان وبأيّة صورة كانت. وهو لكلّ كاتب وشاعر وأديب كنز لا يفنى من المعارف اللغوية والروحية والفكرية، والأسرار الإلهية، والقصص المعتبرة، والمواقف الأخلاقية ذات المضامين العميقة، والحوارات الفلسفية واليومية  ما بين الخالق ورسله وما بين رسله وأناسهم.
ومن التصوّف تعلّمتُ معنى التأمل في ملكوت ملك الملوك، ذاك الذي يقول للشيء كنْ فيكون. وتعلّمتُ عظمةَ الزهد، وأسرار الروح الكبرى، ومعنى سياحة الروح عاريةً إلا من رحمة ربي في زمن يعبد الناس فيه دنانيرهم ودولاراتهم حدّ الجنون.
ومن الحرف تعلّمت فن التجلّي عبر الكلمة، والتجلّي عبر النقطة، والتجلّي في المسافة الكائنة ما بين الحرف وما بين النقطة، والتجلّي عبر غياب النقطة فإذا الحرف تراه وحيداً كوحدة يوسف في البئر، والتجلّي عبر غياب الحرف فإذا الساعات تتساقط في الطريق كأوراق الشجر الصفر في الخريف.

                           . العربُ وحدُهم يؤمنونَ بقداسةِ الشعر.
* تتعدّدُ فنونُ الكتابةِ والإبداع، ويبقى هاجس الكلُّ هوَ الشعر.. لماذا يحرصُ عديدُ المبدعين أنْ يقدّموا في المحافل كشعراء؟ وإذا كانَ الجميعُ بدأوا شعراء فعلاً . فلماذا الشعر دونَ غيره؟ وما جدواهُ في عالم ٍ ليسَ شعرياً؟!
– هذا الهاجس هو هاجس عربي بامتياز. فالعرب وحدهم يؤمنون بقداسة الشعر ويعطون للشاعر حتى وقتنا الحاضر هالةً من الضوء. ولذا يصرُّ الكثير من الأدباء على دور الشاعر وهاجس الشعر. أما في الغرب فقد انتقلت الحضارة من الشعر الى النثر منذ زمن غير قريب. ولعلّ في مقدمة أسباب ذلك هو تحكّم القوانين المادية في الحياة وتفاصيها بشكل مطلق ومخيف حتى أصبحت هذه القوانين تهدد الحياة نفسها في معناها الأصيل.
هكذا ظهر الروائي بهالة الضوء في الغرب، ومعه الكاتب في حقول السياسة والتاريخ وعلم النفس والسير ففازوا بغنيمة الشاعر الذي تراجع دوره بقوّة وقسوة.

                         . قصائدي ليسَتْ نزهةً ولا ترفاً.
* من ديوانك الأول “تفاصيل”1976 المبارك بعطر تربة الآباء والأجداد، ورحم الشعر والشعراء– النجف، ومروراً بـ”ديوان عربي”1981 و” أخبار المعنى”  1996 وما بعده من أعمال شعرية، وحتّى “أقولُ الحرف.. وأعني أصابعي” آخر الدواوين، وأنت تغامرُ شعرياً، حاملاً أوجاع القلب من بغداد إلى عمّان إلى أستراليا.. قل لي أيّ مغامرة حياتية هذهِ؟ كيف تصفها للقارئ؟ ماذا أخذت منها؟ وماذا أعطتك؟
– هذا سؤال كبير، كيف نختصره في سطور؟ هذه حكاية كبيرة هي حكاية الحياة كلها، فكيف نضغطها في حجم مكعب صغير فيه صور الطفولة والشباب والكهولة، وصور الحب والموت والمرض، وصور الألف والحاء والباء، وصور بغداد وعمّان وسدني وأديلايد، وصور المحبة والطيبة والكراهية، وصور الماضي والحاضر والمستقبل، وصور الأبيض والأسود والأحمر، كيف؟ سأذكر لك بعض الحقائق الأساسية التي ستنير الجواب. لم أكن مغامراً على الإطلاق ولم أختر المغامرة ألبتة. كانت رحلاتي المصيرية هي رحلات الاضطرار المطلق. ففي كل مرّة تتهاوى على رأسي جدران معبد الحياة الافتراضي، أخرج من المعبد في لحظات النجاة الأخيرة، بعناية الرحمن وحفظه ومحبته ولطفه. ولولا هذه العناية الكريمة، لكنتُ، دون أدنى شك، من الهالكين.
  هذه صورة حياتي باختصار شديد، وتقابلها، وكأنّها المرآة، صورة قصائدي. فالكتابة اضطرار وتصوير لهذا الاضطرار. وحيث أن حياتي لم تكن نزهةً ولا ما يشبه النزهة في أيّ وقت من الأوقات، لذا لم تكن قصائدي- التي ذكرت أسماء مجاميعها في سؤالك- نزهةً ولا ترفاً. كانت ولم تزل كتابةً بالسكّين في لحاء الزمن اليابس الأسود المُلغّز. إذن ما الذي يعطيك الاضطرار غير محاولة تدجين محنة ضياع الحلم والحب والوطن؟ وبدلاً من العويل والصراخ، صرتُ أفلسفُ هذه الرحلة حروفياً، وأعالج أو أحلم بمعالجة خيباتها التي لا تكفّ عن التناسل عن طريق الحرف المتأمل، المتصوّف، الباحث آناء الليل وأطراف النهار عن السرّ وخالق السرّ وعالِم السرّ.

. أخلصتُ للحرفِ حتّى صارَ قدري وحُبِّي وحياتي.
* يلاحظُ القارئ والناقدُ معاً أسماء الدواوين الشعرية (جيم ، نون ، حاء ، شجرة الحروف، النقطة، ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة، أربعون قصيدة عن الحرف).. أهي أبجدية التحدّي challenge الّتي جاءت في الموروث الديني والإفصاح عن عبقرية لغة الضاد أمْ هي استجابةResponse  لهذا الموروث؟ وإذا كان تحدياً فلمن؟ أهو تحدي الكلمات للآخر .. أم للواقع ؟ أم هي  اللغة التي يجدُ الشاعر نفسه ملكها؟ حدّثني!
– في بداية إجاباتي قلت لك أنني مخلوق حروفي. وحروفيتي في أصلها قرآنية. فالحرف حمل معجزة القرآن المجيد ولا بد لحامل المعجزة من سرّ أو معجزة له أعني خاصة به. وزدْ على ذلك أن الله سبحانه وتعالى أقسم بالحرف في بداية العديد من السور الكريمة وكان في ذلك ضمن ما يعني وجود سرّ اضافي يُضاف الى سرّ القرآن المجيد نفسه.
وحين تأملت في الحرف العربي خلال رحلة شعرية امتدت خلال أربعة عقود ولم تزل متواصلة بحمد الله، وجدت أن للحرف العربي ما يمكن تسميته ب(المستويات) فهناك المستوى التشكيلي، القناعي، الدلالي  الترميزي، التراثي، الأسطوري، الروحي، الخارقي، السحري، الطلسمي، الإيقاعي، الطفولي. هكذا وعبر كتابة المئات من القصائد الحروفية التي اتخذت الحرف قناعاً وكاشفاً للقناع، وأداةً وكاشفةً للأداة، ولغةً خاصةً ذات رموز ودلالات وإشارات تبزغ بنفسها وتبزغ باللغة ذاتها، عبر هذا كله أخلصتُ للحرف عبر عقود من السنين حتي أصبح قَدَري الذي لازمني وسيلازمني للنهاية.
 لقد أخلصتُ له حتى أكرمني وأدخلني في قاعة عرشه وقبّلني ما بين عينيّ وأجلسني إلى جانبه وخلع عليّ رداء حكمته، وأفصح لي عن أسراره وخَطَرات قلبه بلطفٍ نادرٍ وجمالٍ عجيب، ومنحني- وأنا الفاني الضائع المنفيّ المنسيّ- كأسََ البهجة والمسرّة والخلود. وليس الكرم بغريب عن الحرف البتة! فلقد تركتُ من أجله الكثير، ناسياً كلّ شيء وزاهداً في كلّ شيء، ذلك أن الحرف – كما خبرتُ ذلك بعمق– لا يُحبّ أن يُشرك به! هو يحبّ – أن يُحَبَّ لنفسه، لروحه وجسده. إنّ حبّ الحرف كما أرى هو المعنى الوحيد للحبّ،  بل أنّ حبّ الحرف هو المعنى الوحيد للحبّ والشعر والحياة!

                         . أنصفني النقد  الجاد .. والناقد الحقيقيّ .
* كُتِِبتْ عنكَ عديد الدراسات بتوقيع كبار النقاد، كيفَ تقيّم الحركة النقدية؟ أهي مواكبة لهذا التفجّر الإبداعي الشعري والنثري؟ لماذا النقد متّهم من قبل كمّ كبير من المبدعين العرب؟ هلْ أنصفكَ النقد؟ فلمنْ تشير بأصابعك للناقد الذي جذبكَ.. وتتابعه عراقياً وعربياً وعالمياً؟
– نعم، أنصفني النقد فلله الحمد أعظم الحمد. النقد الجاد الحقيقي يريد تجربة مكتملة وغير مكررة ليتناولها بالدرس والتمحيص. هذا  ما يحدث نقديا بشكل عام لكن هناك الاستثناء وهو لا يُقاس عليه كما تعرف. لقد كانت مجهودات النقاد المتميزة في السنوات الأخيرة والتي ظهرت بهيئة كتب نقدية قد أعطت لتجربتي الشعرية، دون شك، ما تحتاجه من تعريف وإضاءة. حيث نُشِر كتاب الناقد السوري د. صالح الرزوق (الاجتماعي والمعرفي في شعر أديب كمال الدين) بسوريا، وكتاب الناقد التونسي د. مصطفى الكيلاني (الحرف والطيف) حيث نُشر اليكترونيا، وكتاب (الحروفي) الذي أعده وقدم له د. مقداد رحيم وصدر ببيروت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ليتحوي على جهود 33 ناقداً من مختلف الاتجاهات النقدية وهم: د. حسن ناظم،  أ. د. عبد الواحد محمد، د. عدنان الظاهر، عبد الرزاق الربيعي، صباح الأنباري، علي الفواز، وديع العبيدي، عيسى حسن الياسري، أ. د. مصطفى الكيلاني، أ. د. عبد العزيز المقالح، أ. د. عبد الإله الصائغ، أ. د. حاتم الصكر، د. ناظم عودة، د. خليل إبراهيم المشايخي، زهير الجبوري، د. محمود جابر عباس، د. صالح زامل حسين، هادي الربيعي، فيصل عبد الحسن، د. إسماعيل نوري الربيعي، نجاة العدواني، د. حسين سرمك حسن، رياض عبد الواحد، واثق الدايني، ريسان الخزعلي، أ. د. محمد صابرعبيد، أ. د.  شرى موسى صالح، د. عيسى الصباغ، عدنان الصائغ، يوسف الحيدري، ركن الدين يونس، معين جعفر محمد.
 وقبل شهور معدودة نالت الناقدة التونسية د. حياة الخياري شهادة الدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى بتونس (عن الرموز الحرفية في الشعر العربي المعاصر) عبر تجربة أدونيس، وأحمد الشهاوي، وتجربتي ضمن دراسة كبيرة، قيّمة، معتبرة بلغت صفحاتها 770 صفحة.
 على صعيد المحاضرات فقد أبلى أبناء مدينتي بابل بلاء حسنا في تقديم المحاضرات العديدة التي تناولت مجاميعي الشعرية التي صدرت في السنوات الأخيرة. ولابد لي هنا من التنويه بمجهودات مازن المعموري، عبد الأمير خليل مراد، مالك مسلماوي، زهير الجبوري، جبار الكواز، عباس السلامي. وفي محافظة ديالى حاضر سمير عبد الرحيم أغا، وصلاح زنكنة، وأمير الحلاج عن الحرف ودلالاته السردية والرمزية والتشكيلية. كما كانت هناك كتابات نقدية متميزة عن قصائدي المنشورة في أستراليا باللغة الانكليزية للناقدة د. آن ماري سمث والشاعرة جود أكولينا.
 لقد اجتهد أغلب النقاد الذين كتبوا عني– كل حسب علمه وفنه– في إنارة زاوية من زوايا شعري من حيث اللغة والقاموس والبناء والرموز والمواضيع والعناوين، واستطاعوا، بالتأكيد، من إنارة الكثير من هذه الزوايا الشعرية بشكل قادني إلى المزيد من الكتابة والإبداع. لهؤلاء النقاد أقدم كلمة الشكر من الأعماق، فهم حين كتبوا عني لم يحلموا بالحصول على مكسب مادي أو منفعة ما الا مكسب الإبداع الخالص. وأنتَ تعرف “سوق” الثقافة العراقية والعربية وما فيها من النفعيات والأخوانيات والُشلليات. لقد كتب هؤلاء النقاد وعشرات غيرهم (لم أذكرهم بسبب محدودية المجال فعذرا شديدا)، كتبوا نقديا متميزا عن شعري الذي كان ولم يزل معنياً بخطاب الإنسان وهو يحاول أن يفهم أسرار العالم وأن يكشف عن النفس البشرية في وحشتها ووحدتها وحبها ومحنتها وغربتها وبحثها عن النور وسط الظلام والأمل وسط الحطام.
                                   .المترجمونَ جنودٌ مجهولون .
* تُرجمتْ قصائدك إلى أكثر من لغةٍ، وأنتَ الشاعر المثابر قمت مشكوراً بترجمة عديد القصص والمقالات والقصائد من الإنجليزية للقارئ العربي.. ما رأيك بالقول: ” كلّ ترجمة هي خيانة لأصلٍ فريد لا نظيرَ لهُ”؟ وهل نحكم على الترجمة من خلال الألفاظ.. أم ماذا؟ وما أسباب ندرة المترجمين الجادين لدينا؟ أهو الخوف من محاكمة النصّ أمْ محاكمة الآخر؟
– ليست المسألة مسألة خيانة أم لا. الترجمة محاولة لتقريب تجارب البشر والقضاء على عزلتهم المخيفة التي تسببها اللغات. لكن في كل محاولة تكمن بالطبع أسباب النجاح وأسباب الفشل دون شك. المترجمون جنود مجهولون يحاولون أن يهدموا جدران عزلة الأمم عن بعضها بعضا ليقضوا على سوء الفهم المتبادل عند الأمم جميعا إزاء بعضها بعضاً. ولولاهم لكان سوء الفهم الأممي مخيفا حقا!
  لكن الترجمة من ناحية أخرى، وبخاصة الترجمة الأدبية، عملية صعبة ومعقدة وتتطلب إزاء صعوبتها العميقة وتعقيدها الكبير أن “يجتهد” المترجم في عمله. وما دامت المسألة مسألة “اجتهاد”، وبخاصة حين تعجز قواعد اللغات المختلفة عن اختراق بعضها بعضا، لذا من السهولة بمكان أن يقع المترجم في “الخطأ” أو ما يشبهه. لكن هذا الخطأ يعتبر محدود الأثر في سلبيته، حين نتفحص في آخر الأمر ما أنجزه المترجم من أثر حميد في نقل تجربة الآخر وأفكاره وآلامه ومعاناته وآماله، في نقل إبداعه وخفقة قلبه وروحه.

                            . الكتابةُ مهنةُ التعاسة والفقر .
* “الحياةُ كتابة” و”الكتابة حياة” أيّ العبارتين الأقرب إليك؟ ولماذا؟
– الكتابة حياة. أفضلُّ هذه. ربما لأنني لم أعش حياة سعيدة ولا مستقرة مطلقا. فكانت الكتابة عندي هي محاولة لترويض ما لا يُروّض وتجميل ما لا يُجمّل. بمعنى آخر أن الكتابة هي استبدال “خسائري الحقيقية” على صعيد الحياة ب”انتصارات وهمية” على صعيد الكتابة! وبالطبع فذلك أمر ليس خاصاً بي وحدي.  فقديما قالت العرب: أدركته حرفة الأدب. أي أدركته التعاسة وسوء الحظ! نعم، فالناجحون السعداء، المتماسكون، المتزنون لا يكتبون ولا يقربون الكتابة يا صديقي العزيز! الكتابة مهنة التعاسة للأسف، فهي مجلبة للإفلاس والفقر أو ضيق ذات اليد على الأقل ما لم ينقذ الشاعر أو الكاتب نفسه فيتخذ مهنةً تعينه على مواجهة متطلبات الحياة المادية القاسية.
لكن ما يخفف من سوداوية الصورة هذه أنّ بعض الشعراء والكتّاب ينجح في تصوير ما يريد تصويره  ونقل ما يريد نقله الى المتلقي بصورة مبدعة ومتميزة ليتقبّله الأخير ويستمتع بهذا المنجز الذي صاغته التعاسة والدموع والآلام والمعاناة أولاً وأخيراً.

                    . الشعرُ اكتشاف الحياة بأقل عددٍ من الكلمات .
* يعرّف خورخي بورخيس الشعر بالقول: (إنهُ عاطفة ومتعة). ما رأيك؟ ماذا تضيف لهذا التعريف؟ بلْ ماذا ينقصهُ؟
– الشعر، كما أراه، هو اكتشاف الحياة في ومضة نادرة وبأقل عدد من الكلمات. ولذا سيكون الشعر الحقيقي والعميق نادراً على الدوام. والغلبة في الظهور، على الأكثر، للنماذج غير الأصيلة، للنماذج التي تعوزها الومضة النادرة في اكتشاف الحياة أو تعوزها قدرة الشاعر على تجسيد هذه الومضة بشكل عميق ومبتكر دونما تعقيد أو تغميض. وبالتغميض أعني الغموض المفتعل وليس الأصيل.
إنّ معادلة الإبداع في الشعر صعبة حقاً، وتتطلب من الشاعر خبرة حياتية وثقافية ولغوية وشعرية، مع مران مستمر، وإيمان حقيقي بالشعر ودوره الإنساني الخلاق، مع الحرص الصادق على عدم ابتذال الشعر بأيّ شكل من الأشكال.

أربعون قصيدة عن الحرف إلى الإيطالية
* صدرت في إيطاليا مؤخرا ترجمة لمجموعتك الشعرية: (أربعون قصيدة عن الحرف) هلا حدثتني عن تفاصيل ذلك؟
– نعم، ضمن منشورات: نووفا إيبسا إيديتوره الإيطالية (Nuova Ipsa Editore)، صدرت حديثاً ترجمة لمجموعتي: (أربعون قصيدة عن الحرف) ((Quaranta poesie sulla lettera. وقد قامت بترجمة المجموعة كاملةً إلى اللغة الإيطالية مع كتابة مقدمة وافية لها المترجمة والكاتبة المغربية المقيمة في إيطاليا: أسماء غريب، فيما زيّنت الغلاف لوحة الفنان التشكيلي أياد القره غولي. احتوت المجموعة على أربعين قصيدة كتبتها في مدينتي سدني وأديلايد في عامي 2007 و 2008، منها: جاء نوح ومضى، تناص مع الحرف، دراهم كلكامش، قطارات سدني، تناص مع الموت، المبحر منفرداً، عن المطر والحب، أسرّة، رقصة سرّية، سقوط الحرف وصعود النقطة، أعماق، اعتذار، معاً على السرير، سأقبّلكِ الآن. وكانت المجموعة في نصّها العربي قد صدرت عن دار أزمنة بعمّان عام 2009.
  قدّمت المترجمة جهدا استثنائيا على صعيد الترجمة وعلى صعيد دراسة القصائد فكانت دراستها النادرة دليلا حيا على إبداع أسماء غريب وجدّيتها النادرة، ومثالا طيبا على إنسجام شخصيتي المترجم والناقد فيها على نحو فريد.

                      . لا حياةَ لي من دون الشعرِ على الإطلاق .
* في يومٍ ما صرخ المبدع الكبير ناظم حكمت: “يا للغربةِ من مهنةٍ شاقةٍ”.. هل اندلقت من قريحتك الشاعرة مثل هذهِ الصرخة الكونية؟ كيف ترسم لوحة تشكيلية للوطن بدمع الغربة؟ مَنْ منكما الذي غادرَ الآخر؟ أم متوحدان من منفى إلى منفى!!
– واجهتُ الغربة منذ زمن مبكر من حياتي. وكانت أشكال الغربة التي واجهتها عديدة وغريبة ومتناقضة وليست الغربة الجغرافية بأكثرها سوءاً! وقد أعانني التصوّف الذي أسمّيه باختصار: حبّ الله على تحمل ليل الغربة الطويل، المظلم، الموحش. نعم، فلولاه ما كنت الذي كنته أو أكونه. لقد منَّ عليَّ البارئ الخالق المصوّر بسهول المحبة حين جُبهتُ بجبال الكراهية، ومنَّ عليَّ بقدر من الهدوء حين مزّقني الدهر، وأعطاني شيئاً من الحكمة حين سَدَر أصدقائي في الغيّ، وعلّمني الحرف بل جعله مفتاحي الشعري- السحري حين ضيّع الآخرون مفاتيحهم وصناديقهم. وهو، قبل ذلك وبعده، قد خفف عليَّ من غلواء الغربة. ولأن الشعر بالنسبة لي كان ولم يزل العنوان الوحيد الذي أستلم وأسلّم من خلاله نبضات قلبي وألوان ذاكرتي وصَبَوات روحي وأسئلة عمري ودمعة طفولتي، لذا كان متداخلاً معي حياتيا بقوّة واستمرار. وعلى هذا أقول دون مبالغة أنْ لا حياة لي من دون الشعر على الإطلاق. هكذا فالشعر يكتبني وأكتبه، أكتبه ويكتبني! إنه ذاكرتي الفنية ومذكّرتي اليومية لكنه مدَوّن بطريقة فنية شخصية وحروفية شعرية خالصة.
 لقد كتبتُ عن الغربة الكثير من القصائد ولأن موضوعتها أساسية وخطيرة بل موضوعة كبرى، لذا فإنك تجد صدى الغربة في معظم ما كتبته وما سأكتبه! وإليك هذه “الصيحة” التي أنهيت بها قصيدتي: (لم يعدْ مطلعُ الأغنيةِ مُبهِجاً)  المنشورة في مجموعتي: (أقول الحرف وأعني أصابعي):
غربتي هي غربةُ العارفين
إذ كُذِّبوا أو عُذِّبوا.
غربتي هي غربةُ الرأس
يُحْملُ فوق الرماح
من كربلاء إلى كربلاء.
غربتي هي غربةُ الجسرِ الخشبي
إذ يجرفه النهرُ بعيداً بعيداً.
غربتي هي غربةُ اليد
وهي ترتجفُ من الجوعِ أو الارتباك,
وغربةُ السمكِ إذ تصطاده
سنّارةُ الباحثين عن التسلية,
وغربةُ النقطة
وهي تبحثُ عن حرفها الضائع,
وغربةُ الحرف
وهو يسقطُ من فم السكّير
أو فم الطاغية.
             .حلمُ الشبابِ الزورباويّ أطفأتهُ الحروبُ المفتعلة .
* أعجبتني بلْ شدتني من شريان القلب قصيدتك “زوربا”! قل لي هلْ جرّبت أن تؤدي رقصته الجنونية الباعثة على المزيد من الحياة؟ هل يمكن أنْ يعيش الشاعرُ هذهِ الحياة الزورباوية؟ كيف يتحقق هذا في زمنٍ يغدرُ فيه حتى الوطن؟! ألا تتكفل أمطار ونسائم القصيدة بذلك؟!
– “زوربا” قصيدة كتبتها في زمنين يفصل بينهما أربعون عاماً. الزمن الأول هو زمن الشباب والرغبة والمسرّة ثم الزمن الثاني وهو زمن كتابة القصيدة فعليا على الورقة. في الزمن الأول حلمت أن أكتب هذه القصيدة لكن هذا لم يحصل. وبقيت القصيدة تدور على نفسها في عقلي وقلبي حتى انسكبت ذات يوم، بعد أربعين عاماً، رقصةً تأمليةً في معنى الحياة وسرّها المستتر، لأنشرها في مجموعتي: (أقول الحرف وأعني أصابعي). كانت شخصية زوربا هي شخصية السبعينيات حيث الحياة مقبلة بتفاصيل مليئة بالأمل العظيم. لكن شجرة الأمل اصفرّت وذَبُلتْ سريعاً، وحلم الشباب الذي كان يمثله زوربا خير تمثيل تهاوى تحت وطأة سلسلة الحروب العبثية التي أشعلها الطاغية فرحاً مبتسماً مزهواً ضد جيرانه لتحرق وتفسد وتحطّم ليس فقط حلم الشباب الزوربوي بل لتحرق حتى أرض هذا الحلم دون رحمة ولا شفقة. ومع كل هذا الخراب الأسطوري الذي حصل فقد أبقيتُ زوربا في القصيدة يرقص مندمجا مع فعل الرقص كليّاً، في إشارة منّي إلى أن الحياة مستمرة رغم كل شيء، وأن رموز الطبيعة لم تزل محتفظة بنبضة القلب، وأن زوربا يضحك ويضحك رغم أن ضحكته يشوبها الكثيرُ من المرارة والألم.

. ” مواقف الألف ” أسئلة الحياة والموت .
* وماذا عن مجموعتك الشعرية الجديدة (مواقف الألف) الصادرة عن الدار العربية للعلوم ناشرون ببيروت مع اطلالة عام 2012؟
-نعم، فلقد أكرمني الذي يقول للشيء كن فيكون بكتابة مجموعتي الصوفية الحروفية (مواقف الألف). وهو ما تمنيتُ كتابته منذ زمن طويل. كتبتها ب 55 موقفا صوفياً شعرياً تحاول كلها التقرّب الى البارئ عز وجل وتطلب رحمته، وترجو عفوه، وتتضرع إلى سرّه ونوره ومحبته، وتحلم بحنانه وكرمه ورزقه ولطفه، ولا عجب في هذا فهو الرحيم الكريم الغفور الرزاق البديع اللطيف.
تبدأ هذه المواقف بموقف الألف وتنتهي بموقف الجنّة. وما بين الموقفين تمر مروراً ليس عابراً بأسئلة الحياة والموت، واليقين والضياع، والخوف والطمأنينة، والمعنى واللامعنى، والظلام والنور، والشيء ونقيضه. هكذا تبدأ بموقف الخطأ والغربة والوحشة والحيرة والماء والنهر والغرق والمهد والرحيل والحرف والشوق والدائرة  لتعرج إلى مواقف الأنبياء والأولياء: نوح وإبراهيم ويعقوب والخضر وعيسى والمصطفى وعلي وكربلاء، وتصل إلى مواقف العزة والدمعة والكتابة والسجن والبيت والسجدة والسلام والحمد.
وقد كان سروري بإنجاز هذه المجموعة عظيماً لا يشبه سروري المتحقق حين كتب مجاميع السابقات. فتلك المجاميع تنتمي الى عالم الشعر والإبداع، وهذه تنتمي الى عالم الشعر والإبداع والله. والفرق كبير كما ترى. كان فرحي بها، دون مبالغة، كفرح صيّاد اصطادَ سمكةً في بطنِها ليرة ذهب!
[email protected]

أحدث المقالات