كعادتي يومياً استيقظ مبكراً وانا ارى الليل يجر اذياله متجها لعالم آخر واستقبل الصباح المتثائب المتعكز على عكازة الشمس ولسان حاله يقول افاً لهذا الليل الطويل أنزل السلم بتثاقل شديد ولايزال النعاس يداعب جفني ولاول مرة انتبه لعلو السلم وكم تأخذني النشوة وانا أرى الجميع بمنظار عمودي احاول أن اصحو استعداداً ليوم عمل جديد اخذ حقيبتي الجلدية الصغيرة ورغم صغرها الا انها تحتوي الكثير من اوراق واقلام وحبوب للصداع وعلكة وعلبة سكائر وجهاز الموبايل ونظارة شمسية واخرى طبية وفي بعض الاحيان يحل ضيف جديد على الحقيبة.استعد لمعركة الوصول الى مقر عملي واصل بعد جهد جهيد بين الازدحامات الخانقة ومواكب المسؤولين.. بالمناسبة انا لاول مرة ارى شارعاً يحتوي على كل شيء مثل حقيبتي السوداء غريب هذا الشارع ترى فيه مركبات الحمل الكبيرة والمتوسطة والصغيرة والعربات التي تسحبها الخيول وسيارات نقل الركاب (الكيا والكوستر) وسيارات صالون والضيف الجديد (الستوتة) وباعة المنادل الورقية والصحف والمتسولين.انا على يقين تام حتى في الصومال لا يوجد هكذا شارع .فور وصولي الى مقر عملي يكون سؤالي الاول عن الشاي وبعد ان ارتشف (استكان) الشاي العجيب الغريب الذي يعده اثنان من افشل من يعد الشاي في العالم أهم بكتابة موضوع ما أحاول جهد امكاني ان يكون خفيفاً بعيدا عن (الميتافيزيقية والنظرة المخروطية) وذات يوم كتبت مقالاً لم استطع ان اكبح جماح نفسي كتبت وقلت انا ومن بعدي الطوفان استغرب صديقي العزيز المصحح اللغوي من هذا المقال وابدى عجبه وخوفه، المقال فيه مخاطرة كبيرة.
ولكن لايهم الصدق والحقيقة هما اكبر مخاطرة في العمل الصحفي عرض المقال على رئيس التحرير والذي بدوره أرسل في طلبي دخلت عليه رمقني بنظرته الابوية وحذرني من نشر هذا المقال ولكني اصريت وتعهدت بتحمل جميع التبعات.
وحين نشر المقال أحدث ضجة كبيرة حتى بدأ القراء والمسؤولون يتسألون من يكون صاحب هذا المقال فوجئت برتل من عربات الدفع الرباعي في بوابة مقر العمل وانبرى شخص ذو هيبة يسأل عني تقدمت اليه وانا لا استطيع ان انبس بحرف واحد تفضل معي قالها بحدة انت مطلوب من قبل السيد المسؤول وانطلق الموكب معلنا انتصاره الساحق بالقبض على محرر مسكين اراد ان يشاغب قليلا استقبلني السيد المسؤول استقبالاً حاراً وصافحني بحرارة وشد من ازري واثنى كثيرا على مقالي هذا مقال قلما نقرأه على صفحات الجرائد والمجلات ولجرأتك وصراحتك قررننا تعينك رئيسا للتحرير لا اعرف لماذا احسست بعطش شديد وان الشمس لاتبعد سوى شبرين عن رأسي تجمع كل جفاف الصحارى في حلقي.. عاد بي الموكب وهذه المرة مهللا بمكرمة سيادته تسنمت منصب رئيس التحرير وانا كلي خجل من رئيس التحرير الذي اكن له كل الاحترام ومن زملائي الذين هم اقدم مني في المهنة لم اكن اتوقع ان يحصل الامر بين ليلة وضحاها جلست على كرسي الرئاسة وانا اشعر بالزهو وقررت ان ابقي على كادر المكتب القديم من سكرتيرة وافراد حماية وبدأت تتوافد حشود المهنئين وانا ارى على وجوههم ابتسامة صفراء انصرفت لاداء وظيفتي الجديدة وانصدمت بواقع مرير وانا اسمع الهمس والغمز واللمز من زملائي المحررين ايقنت حينها كم هو صعب ان تكون مسؤولا وان لاتفرق بين احد واخر وان لاتسمع لفلان وعلان وان تتابع كل صغيرة وكبيرة سحبت اوراقي وشحذت قلمي وكتبت مقالا اخر انتقد فيه سيادته على تصرفه غير المهني بتنصيبي رئيسا للتحرير وانا الشاب قليل الخبرة والدراية بدهاليز الصحافة والاعلام وذهبت بعيدا بالنقد ظننا مني ان سيادته يتقبل النقد والرأي الاخر.. وما ان نشر المقال حتى قامت الدنيا على ارجلها الثلاث حين عرفت ان للدنيا ارجل ثلاث ولذلك هي عرجاء….. سمعت صوتا عاليا خارج مكتبي وضجيجا عاليا اين هذا الذي انكر نعمة سيادته عليه عاد الجفاف الى حلقي وامطرت كل مسامات جسمي عرقا وارتجفت وكأنني في صقيع المنجمد الجنوبي فتح باب غرفتي واذا بصوت ولكن هذه المرة صوت حنون (اكعد يمه راح تتاخر على الدوام) تنفست عميقا وحمدت الله وشكرته انني كنت احلم.. وياله من حلم مزعج.
الحمد لله رب العالمين الذي جعلني من المحررين المساكين المغضوب عليهم ولكن ليس بضالين…
[email protected]