نبدو الآن وكأننا نقايض حلماً طالت أمامه القامات بواقع انحنت إمامه الهامات . إذن هل نقف على الأقل وقفة مختلفة لا تقتصر على نقد وسائل وآليات التنفيذ دون التطرق إلى الاستراتيجية والتخطيط ، وقفة لا تتوقف عند تثلمات رأس الحربة ( السلطة ) دون الألتفات إلى تصدع جدار العزيمة والصبر ( المعارضة ) .
إذا كان تغيير النظام السياسي في العراق من الآخر/ المختلف قد كشف عن تشوهات كانت في الخطاب البعثي الرسمي العراقي فأن تداعيات التحصيل الحاصل تملي علينا الاعتراف بأن خطاب الأحزاب العراقية المعارضة ( وقتئذ ) كانت تحمل تشوهات مشابهة أن لم نقل أكثر فتكاً وتشرذماً . وفي كل هذا كان الأغلب يعمل بقاعدة أن العبرة في الاستراتيجية وليست في التنفيذ وان مربط الفرس في البديل الأكثر تقدماً أو على الأقل في جدار العزيمة والصبر وليس في رأس الحربة .
لنبدأ – بعيداً عن أي محددات – بمسلمات عمل السلطة ومرتكزات روحية المعارضة . فإذا كان عمل السلطة محكوماً بسياسات خارجية قبل أن تكون داخلية ومعنياً بمراعاة حسابات وموازين قوى وملزماً في الكثير من الحالات أن يقطع ما بين مرحلتين تفصل ما بينهما النيران عبر حبل يحتاج السائر عليه الحذاقة في القدرة على التوازن ، فأن خطاب بعض أقطاب المعارضة كان دوماً أقرب إلى نبض الشعب وبالتالي فهو لايأبه بكل تلك الحسابات ويدعو إلى انطباق السماء على الأرض إذ لزم الأمر .
وبلغة أكثر تبسيطاً نجد انه إذا كان يفترض بعمل السلطة ان يعبر عن عقل الشعب وان يعتمد في نجاحه أو إخفاقه على مدى قدرته على نقل مواقع التخندق من مكان إلى أخر ، فانه كان يفترض بخطاب المعارضة ان يعبر عن ضمير هذا الشعب وبالتالي أن يبقى أكثر التصاقاً بالثوابت والمبادئ وعدم التعاطي مع معطيات وأفرازات المحطات المرحلية .
رغم هذه البساطة في الصورة فأننا حقاً أمام إشكالية وهذه الإشكالية التي تبدو في طرفيها متناقضة وعصية على التعايش تحت سقف واحد فإنها كانت على مر الأزمان شرطاً من شروط الرقي والتحضر ، فقد بدت المعارضة بمثابة الوقود الذي يتغذى منه صاحب السلطة أو يحترق بنيرانه ، وكانت العبرة دوماً في نتائج هذا التنافر أو فلنقل هذا التفاعل ما بين الثوابت أو المبادئ وما بين معطيات المرحلة ( بنت ظرفها ) . ومن هنا وفي حالات كثيرة ساد اليقين ولو بشكل نظري في أجواء مفادها أن العقل المتفتح يحتاج دوماً إلى ضمير صاح دون أن يحاول أي منهما أن يلغي الآخر سواء أكان ذلك الإلغاء عن طريق القمع المباشر أم غير المباشر عن طريق الأغراء والاستمالة أو عن طريق تبادل المنافع وربما تبادل المواقع ، وفي هذه الحالة الأخيرة طالعنا ولو نادراً عن حالات كان يتسلم فيها المعارض زمام السلطة أو أن يحاول صاحب السلطة – في حالات أكثر – أن يكون المبادر إلى الترشيد وإلى الانفتاح وبناء الجسور ممارساً أو متظاهراً الحرص على الجمع بين دورين، دور الرقيب ودور الحسيب في آن معاً .
وعلى الصعيد العملي ، لعل التجارب التي من حولنا تكشف لنا الكثير . فلقد لاحظنا في الكثير من البلدان كيف أن المعارضة حين تسلمت السلطة فشلت فشلاً ذريعاً في تحقيق الحد الأدنى من برامجها وفي الأغلب الأعم فأن هذا الإخفاق لم يكن عائداً إلى المشجب الساذج الذي يطيب للبعض أن يعلق خيبته عليه ، أي نزعة الادعاء أن سبب الإخفاق يكمن في أن الثقة في معارضة الأمس لم تكن في محلها ذلك أن الإخفاق الموما إليه غالباً ما كان يعود بشكل أساسي إلى حقيقة أن الضمير اليقظ الذي تجسد في المعارضة أيام كانت في صفوف المعارضة لم يثبت قدرته بالضرورة في أن يكون عقلاً مدبراً أيضاً ، وان نشدان الكمال لايتم بضعطة زر كأن يتم الإطاحة بحزب أو زعيم أو قائد أخر مع حالة من النشوة التي قوامها – انتظار الجمل بما حمل – دون النظر إلى الكثير من الاعتبارات الأخرى ، ولنا في ذلك عبر كثيرة لسنا بصدد كشف غطائها .
وبالنظر إلى قمة الهرم حيث تتربع السلطة ، نجد إنها ليست عدداً وعدة بسعة بقية أجزاء الهرم ناهيك عن القاعدة ، وعليه فأن إنجازات وقبل ذلك امكانات السلطة تبقى دائماً نقطة في بحر طاقات وآمال وقدرات الشعب . وفي جدلية العلاقة ما بين السلطة والمعارضة وما بين القاعدة والقمة تتلخص حقيقة أن من يصنع الشعارات لايكون بالضرورة صانع سياسات وان من يعبر عن ضمير الشعب ليس قادراً بالضرورة على تحقيق رفاهه ، وإذا استثنينا الاستثناء وافترضنا الأمانة والرغبة في العطاء لدى كل صاحب موقع ، فأننا نجد انه إذا كان على صاحب السلطة أن يحقق أقصى ما يمكن ، فعلى خطاب المعارضة مواصلة المطالبة بأقصى ما يجب دون أن يكون ثمة تعارض ما بين تحقيق الحد الأدنى والمطالبة بالحد الأقصى ، ذلك أن صاحب السلطة هنا إنما يقدم ما طالته يده وما وقعت عليه بصيرته ، أما إذا كان الذي تحقق يعبر عن يد قصيرة وعين غير بصيرة فعندئذ يجب استخلاص العبرة المركزية القائلة بأننا إمام مسؤولية مستقبل الوطن / الشعب ولسنا إزاء مسؤولية مستقبل فئة بعينها
وفي نظرة إلى تجارب ناجحة من حولنا وكلها للأسف غير عربية أو حتى عالمثالثية ، نلاحظ كيف تجسدت تلك المفاهيم وانعكست على كافة المناصب والمواقع والفئات في المجتمع جاعلة منها نسق واحد في إطار تعاون الجميع – بالتعارض وليس بالتناقض – من اجل أنجاز الممكن وتطويره ، وهل يجب أن نكرر حقيقة أن تحقيق الممكن في معركة نشدان المطلق يمثل خلاصة ما تستطيع أن تعطيه الحياة الديمقراطية الصحية من ألفها إلى يائها ؟
وهنا لابأس من بعض التفصيل :- فإذا مانحن نظرنا إلى هذه الخلاصة في واقعنا العراقي فإننا للأسف لانجد لها أثراً يذكر ، إذ لانلمس سوى التوق الدائم نحو المطلق وكأن الحياة على مشارف أنفاسها الأخيرة . إذن ، هل نكون ظالمين إذا نحن افترضنا أن واقعاً كهذا لاينطوي على قصر النفس فحسب بل يجمعنا نميل إلى التناطح أو إلى كسر المخ دون أن نرى المدى المتاح بينهما ؟ كذلك ، هل ترانا نكون مجحفين لو نحن استخلصنا حقيقة كوننا نعمد إلى اختزال المسافات بحثاً عن نهاية المطاف متجاهلين الحيثيات والظروف وبالتالي متجاوزين كل أبجديات العلاقة ما بين القاعدة ورأس القمة ناهيك عن تجاوز حلقات الوصل ما بينهما وانتظار أن يعم خير رأس القمة أو أن يغطي جهده – وبخاصة إن كان قد وصل إلى القمة من بين صفوف المعارضة – كافة آمال الشعب وذلك بضغطة زر نشداناً للكمال أو الخلاص ، لافرق .
إن مدلولات هذا النفس القصير لاتقتصر على بث البريق الشعاراتي فحسب حيث لها أيضاً دور دق أسافين زعزعة الثقة ما بين أوصال الهيكل الهرمي الذي لا غنى عنه في المجتمع أو النسق المجتمعي السياسي . ومثل هذا التطور أو الواقع يقيم جدران قطعية ما بين قطاعات المجتمع تماماً مثلما هو يقيم القطيعة ما بين المثقف وصاحب السلطة وما بين الفنان وهموم شعبه وما بين السياسي أو الثوري وامكانات بلده ، وما بين القاعدة وحلقات الوصل وما بين حلقات الوصل والمراتب العليا وما بين ما نحلم به وما نعيشه وما بين امتداد قامات الحلم وانحناء هامات الواقع . فهل بعد كل ذلك نستغرب واقعاً نعيشه وقوامه الجلوس على – خازوق – بينما الأنوف شاخصة في السماء ! ولعل مما يزيد الطين بلة ، هي تلك الملاعق المزركشة التي تبرز من وسط مستنقع الوحل داعية لتناول وجبة من المطلق ضاربة بعرض الحائط حقيقة أن المطلق هو دوماً غاية المنى ومتجاوزة أيضاً حقيقة أن السلطة في نهاية المطاف وبعد أخذ كافة الاعتبارات والمقاييس في الحسبان هي ثوب الشعب ، فلا أحد يرتدي ثوباً أكبر أو أصغر من حجمه ومن يحاول يسقط بعد أن يصبح مهرجاً ؟ ! وإذا كان ثمة سلطة دكتاتورية فبالتأكيد ثمة في المقابل شعب مدجن وإلى أن يتحرر الشعب تتغير السلطة ، وهكذا دواليك …
لا أحد هنا بالتأكيد يدعو إلى تكريس السلطة كيفما كانت لكننا بالتأكيد أيضاً إنما نرثي حالاً اختزلنا فيه المسافات واكتفينا بدور أصاخة السمع إلى الهدير في البركان أو أكتفينا بالنظر إلى الهرم انتظاراً إلى ما سوف يتمخض عنه رأس القمة من معجزات … نعم ، نحن هنا إنما نرثي نشدان الكمال وسط هدير الطواحين التي لا تنتج سوى تحريك الهواء أو الشوق المطلق إلى المطلق فنحصد قعقعة ولا نرى طحيناً !! .