الحزن كائن جنوبي يلقي بظلاله على مدينة ؛ هي امتداد لعادات وتقاليد يسري بها الطين الحري حتى الأعماق . ولعل الصوت بما يملكه من حلاوة وعذوبة يزيد من مداعبة المشاعر لدرجة الثمالة والوجد الصوفي ؛لان الإنسان الجنوبي مهما ابتعد عن موطنه ،لابد أن يتسلل إليه داء الحزن لصبح لهو هواية وعنوان تميزه عن الآخرين . واغلب الأصوات القادمة إلى المدينة كطيور مهاجر تمارس طقوس الولع بما يثر أحاسيس ويحرك الحنين حيث يشكل الحزن ملاذاُ ودفئاً لمن أراد أن يشتهي لحظة الهوى وممارسة لعبة الاختباء خلف الذكريات .
الأصوات الجنوبية لا تزيد المدينة سوى موجات كهربائية تجدد المشاعر في حالة الظمأ والموضة ووسائل الاتصال الحديثة . عبادي العماري بتركيبته الفطرية لم يكن سوى صوت ميساني استطاع ان يسرق من المدينة أضواءها بحلاوة صوته لدرجة النشوة حتى غدا يملك من تلك العذوبة الماء الزلال ورائحة تمن العنبر ونسمات القصب والبردي ؛ انه دمعة استطاعت أن تجرح خدود العاشقين ،واه جنوبية على حبيبٍ لعله يعود في يوم ما. ربما أخذت مدينة الثورة منه زيه الريفي واستبدلته بالقاط والرباط ، ولكن هذا الجسم الاسمر النحيل هو صوت جنوبي أخاذ حيث الهور والمشحوف ،وسفونية الكراكي المهاجرة إلى ارض الله الواسعة . لم يخرج العماري عن حزنه الجنوبي ، بل طوع موطنه الجديد – الثورة – إلى عوالم الانتماء السومري حيث يختلط النواح والفرح ،ولعل النشأة الأولى تلعب دورها مع عوامل أخرى : الأرض ، المياه ، المعاناة ، الموت ، الفرح والحزن . حيث أن الأرض هناك
تعطي للإنسان شهادة مختومة بداء الحزن الأبدي ، وتغدق عليه من بركاتها عافيةً وفطرةً وشهامةً ونيراناً يستدل بها الضيف . قد تكون المدينة حاولت مطاوعته كي تسلبه هويته الجنوبية ، ولكن كان عل ثقة أنها ستكون فتاته التي ستترك أهلها كي (ينهبها ) دون الأخريات . العماري لم يكن سوى عاشق نام على وسائد البردي ،وحصير القصب ، وتنفس نسائم الهور، وشرب من الدهلة ، لذا اخذ المدينة من أهلها على صهوة مواويله .