مسألة (1):ـ يجبُ على كلِ مكلفٍ لمْ يبلغْ رتبةَ الاجتهادِ، أنْ يكونَ في جميعِ عباداتِه ومعاملاتِه وسائرِ أفعالِهِ وتروكِهِ مقلِداً إلاّ أنْ يحصلَ لهُ علمٌ بالحكمِ لضرورةٍ وغيرها. كما في بعضِ الواجباتِ وكثيرٍ منَ المستحباتِ والمباحاتِ.
وعلى ضوء ما تقدم تنقسم الأحكام الشرعية الى:-
أولاً:- الأحكام الضرورية: وتشكل نسبة ضئيلة بالنسبة الى جميع الأحكام.
ثانياً:- الأحكام النظرية(الإجتهادية): وهي تشكل النسبة الأعظم من الأحكام.
إن الأعم الأغلب من أحكام الشريعة هي أحكام نظرية(إجتهادية) وتكون موضوعاً للاجتهاد والتقليد لأن معرفتها تتطلب علماً نظرياً وبرهاناً استدلالياً؛ الذي هو معنى الاجتهاد أو قل بلوغ رتبة الاجتهاد، وليس من السهل اليسير بلوغ هذه الرتبة بل يحتاج الأمر إلى عشرات السنين من التحصيل العلمي والدراسة الجادة لعلوم مختلفة ومتنوعة كعلوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة والعلوم العقلية كالمنطق والفلسفة وعلم الكلام وعلوم أخرى كعلم الحديث وعلم الرجال والتفسير وصولاً إلى العلمين الرئيسيين الفقه والأصول، بل إن طالب العلوم يدرس هذين العلمين في كل المراحل العلمية إبتداءً من المقدمات والسطوح ومروراً بالبحث الخارج وصولاً إلى رتبة الاجتهاد؛ وعندها يتسنى لِمَن بلغَ هذه الرتبة الشريفة معرفة الأحكام عن حجة وبرهان.إن التصدّي لبلوغ رتبة الإجتهاد واجب كفائي، وسيأتي الحديث عن أقسام الوجوب في خاتمة شرح هذه المسألة إن شاء الله.
إن معرفة الأحكام الشرعية من أهم المعارف التي يهتم بها الدين(المصدر :لقاء الحنانة ومناسبات عديدة) لأن الفرد لا يتسنى له الطاعة والإمتثال لأوامر الله ونواهيه إلا بعد أن يعرف أحكام الشريعة, ومعرفة أغلب الأحكام تحتاج إلى بلوغ رتبة الاجتهاد وبالتالي لابد أن يكون الفرد مكلفاً ببلوغ رتبة الاجتهاد؛ وهذا معناه وجوب الإجتهاد على كل مكلف بمقتضى حكم العقل، ولكن حيث أن الشريعة المقدسة جاءت لليسر لا العسر ((ما جعل عليكم في الدين من حرج)) فإن هذا الوجوب (أي وجوب الاجتهاد في أحكام الشريعة) أصبح وجوباً كفائياً بفضل الله ورحمته ولطفه ،أي أن هذا النوع من الوجوب(الوجوب الكفائي) لا يشمل كل المكلفين, فإذا تصدى له البعض سقط هذا الوجوب عن الآخرين ووجب عليهم التقليد، أما إذا لم يتصدَ للإجتهاد أحد إستحق الجميع العقاب والعذاب.إن التقليد يمثل طريقاً لمعرفة الأحكام وهو طريق واجب على كل مكلَّف الذي لم يبلغ رتبة الاجتهاد,وحيث أن أغلب أحكام الشريعة تحتاج في معرفتها إلى إستنباط (إجتهاد) فيكون التقليد واجباً فيها؛ يعني في جميع العبادات والمعاملات وسائر الأفعال والتروك.إن التقليد بالمعنى الأعم ((وهو أخذ الجاهل برأي العالم)) ولا شك أن التقليد بهذا المعنى يمثل سيرة عُقلائية وإنسانية في شتى مجالات وحقول المعرفة والعلوم والفنون، ولا يمكن الاستغناء عن التقليد,إسأل نفسك عن مصدر معارفك ومعلوماتك وثقافاتك، هل أنت في جميعها قد برهنت على صحتها وأقمت الدليل في إستنباطها؟؛ بمعنى أن تكون مجتهداً في الهندسة والطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات والنجارة والحدادة والبناء وتصليح السيارات و…..الخ
إذن ليس من حق أحد أن يستنكر على المؤمنين العمل بالتقليد في فروع الدين وللأسباب التالية:
أولاً: إستحالة أن يكون جميع الأفراد مجتهدين في فروع الدين (أحكام الشريعة).
ثانياً: وجوب التقليد بحكم الشرع وحكم العقل.
ثالثاً: لأن طاعة الله متوقفة على المعرفة سواء كانت عن طريق الاجتهاد أو التقليد.
رابعا ً: لأن التقليد يمثل سيرة عقلائية وسلوك بشري قد عمل به حتى هؤلاء المعترضون!!وحكم الأمثال في ما يجوز ولا يجوز واحد.
ويتضح من خلال ذكر هذه الأسباب أن مَنْ يُحارب التقليد فقد خالف الشرع والعقل والسيرة الإنسانية التي يستلزم من تعطيلها تعطيل حياة الإنسان بأسرها!وكما قال الشاعر:إن كنت لا تدري فتلك مصيبة*********وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
أمّا التقليد بالمعنى الأخص فهذا ما سوف أتعرض إليه في المسألة الرابعة إن شاء الله.
وللحديث بقية اذا بقيت الحياة…