( القراءة النقدية بين صنعة الروائي و مشخصات الناقد )
أن من حصيلة تمظهرات فعالية أدوات المنهج النقدي السليم ، هو توافر ثمة حركة إجرائية مرنة من شأنها أولا و أخيرا خلق علائقية حيوية دافقة بين النص المدروس و بين صلب موجهات رؤية الناقد التي من شأنها منح دراسته النقدية فسحة إجرائية سوية الدلالة و الأداة و التقويم و الطرح لفضاء و لمتن و شكل ذلك النص المدروس . في سياق سلسلة قراءات كتاب ( سرد ما بعد الحداثة ) للناقد و الروائي الصديق عباس عبد جاسم وجدنا طبيعة قراءات الناقد في حقل الرواية و القصة القصيرة و التي اراد منها الوصول الى مداليل منطقة ما وراء السرد ــ الميتاسرد ــ في تجربة النصوص التي أتخذها نموذجا لموضوعة و فكرة سرد ما بعد لحداثة . غير أننا و نحن نطالع أدوات و محمولات تلك الأشكال المبحثية في معاينات قراءة تلك النصوص وجدنا جل معالجات الناقد لتلك التجارب قد طال الناقد في خصوصية مصطلح مفهومه النقدي حيث رطانة الأصطلاح و تشعبات الأسئلة المطروحة من جهة الناقد و التي لم تدخل في صياغة أية علاقة عضوية ما بين صوت الناقد و رؤيته و بين موضوعية النص نفسه . و هذا الأمر بات من الوضوح في وجه مباحث مقال ( الوصف و السرد / من تعديل المفهوم الى تأويل النص ) فمن خلال ما قرأناه في ورقة هذا المقال تبين لنا حجم اشتباكية إخضاع النص لرؤية و علاقة الناقد قسرا و دون أي تعاملية فريدة في أسئلة الإجرائية النقدية لديه بأستثناء وجود ثمة سؤال ممنهج إحادي الطرح و المطارحة في عتبة تمظهرات نظرية عصية و بالغة العسر في ملاءمة رؤية
موضوعة النقد مع فحوى تجليات النص نفسه ، و تبعا لهذا النهج يقول عباس عبد جاسم عبر عتبة فقرات مقاله مثل هذه الإفتتاحية : ( استتبع تغيير أشكال القص تغيير آليات الوصف و السرد فقد تمثل الوصف في الرواية الجديدة في لغة تصف نسيج المكان وحده برؤية بصرية من الخارج و مزجت رواية تيار الوعي الوصف مع السرد في لغة تصف نسيج الذهن وحده برؤية تحليلية من الداخل و لم تكتف حركية القص بالوصف المستقل عن السرد بعين الوصاف الشيئي أو المزج بينهما و أنما أتجهت الى استخدام الوصف بعين الشخصية القصصية نفسها فتغيرت العلاقة بين الوصف و السرد و خاصة بعد أن خلخل السرد غير النقي واقعية السرد نفسه مما جعل حركية القص تتجه الى خلط الترتيب الزماني و المكاني للوصف و السرد بأفق مفتوح على مستويات متعددة من اللغة و الدلالة و الشكل .. و لا تلعب شفرات النص السردية و الشكلية و التقنية المختلفة دورا أساسيا في تخليق أضاءات جوانية مضمرة في دلالات و ملامح النص بل أنها تعيد تكريس منتوجها الأسلوبي في بنى من الصياغات الأسلوبية الخاصة فارضة بذلك تحديداتها على رؤى النص و مغزاه . لذلك نجد أن غياب التناول التفصيلي لتلك الشفرات النصية و افتقار النقاد لإكتشاف الجدليات الفعالة فيها بات من أخطر أوجه القصور في نقدنا الممنهج / سرد ما بعد الحداثة ) . ونتيجة لتخطيط عباس عبد جاسم الجيد للموضوع و اختياره الموفق لصياغات مصطلحاته التعاملية . غير أننا نجده و عند وصوله ورقة أو مرحلة دراسة أنموذج النصي الذي يقع كترتيب تسلسلي بموجب علاقات فقرات مباحث المقال و الذي كان بدوره نصا قصصيا للقاص محمود عبد الوهاب بعنوان ( الحديقة ) إذ نرى الناقد من خلاله راح يعقد مخطوطة سيميائية خاصة و مركبة من شأنها فرز اشارات و تفاصيل و محاور مخفيات و كشوفات
علائقية النص السيميائية و الإفعالية و الصفاتية في جل تغيراتها الدلالية لغرض الكشف النقدي عن جوهر العلاقة النصية العضوية التوالدية للمعنى ، و تبعا لما قرأناه في حقل المخطوطة و المداخل التنظيرية من لدن إطارية مباحث الناقد حيث للأسف الشديد وجدنا الدارس لم يوفر لفضاء تفصيلاته التراتيبية العصية أي جهة ملاءمة مع أحداث و حالات النص نفسه بل أنه راح يفوت على نفسه و على القارىء حصيلة أختيارات بنيوية و دلالية هامة كان من المفترض على الناقد رصدها بادىء ذي بدء قبل الدخول الى غائبية شروحاته التغاضية الهائلة عن محتوى ما يحمله النص من طبيعة نوعية هامة في شفرات و انسجة القص . أن من أشكاليات مباحث الناقد عباس عبد جاسم في معاينة تجارب النصوص هو ولوجه الصارم نحو مستويات منظورية مركبة كامنة في مقترباته لدراسة النص الأدبي ، على حين غرى نلحظ بأن بعض النصوص لا تبلغ كل هذا المستوى من رؤى التفخيم المفهومية لديه و الحاصلة في علاقات و أجواء و طبيعة و موضوعة و شكل النص المدروس كحال عوالم القاص علي السوداني في مقال ( هو كوكو و ما كوكو / اللعب الحر بقواعد القص ) و مقال ( الميتاسرد التاريخي و تمثيلات القهر الكولونيالي / موقع مخيم المواركة من سياق الرواية العربية ) . و بالرغم من جدة استقصاءات المقتربات في سرد ما بعد الحداثة في رؤى آليات الناقد غير أنها في الوقت نفسه جاءت تسلط شفراتها المفهومية و المنهجية حول موطن تجارب ليست بالقريبة بالشكل الموضوعي الدقيق من قراءة موقعية و آلية منهج الناقد .
( تعليق القراءة )
في الواقع أن الاهتمام بالبنية أو البنى السردية المختصة بعوالم نصوص ما بعد الحداثة هي من السمات الفاعلة و البارزة في منهج و رؤى عباس عبد جاسم شاكرين له ولكن هناك مجاليات غير مستجيبة في طبيعة تجربتها النصية الغير فاعلة في شكلها الاعتيادي المتوحد . فالناقد في مشروع كتابه ( سرد ما بعد الحداثة) راح يلجأ الى تجارب نصية لا علاقة لها تماما بمشروعه المعني بسرد ما بعد الحداثة و ذلك لبعد الترابط و التلاحم الموضوعي مع آلياته و منهجه و مقولاته . فضلا عن هذا الأمر راح يبرز لنا كقراء هو مدى حجم سلامة أدوات الناقد . فالقارى لها لربما لا تتضح له سوى مقتربات مقولية موغلة في بطون مجالات المكفوفية النظرية التي تحاول رسم و فرز و تقويم حالات و حياة النص ذوقا و كشفا , فالناقد في فضاء قراءاته النقدية لم يفصل القول النظري عن مساحة موقعية الممارسة الإجرائية بأي حدود فاصلة ما ، بل وجدناها أي العلاقة الإجرائية للنص شبه دمجية مع آليات نظرية غامضة بأطروحاتها الجاهزية المبنى و المصدرية . صحيح ولا أنكر بأن هناك تجارب تستحق التعويل عليها لما فيها من قيمة فنية و جمالية و تقنية كبيرة كتجربة مقال (الضفيرة / رواية ما فوق واقعية ) و فصل مقال ( طفولة جبل / الأحساسية الجديدة في كتابة الرواية ) و لكن هذا الأمر لا يتوقف على نوعية النص و كاتبه بل الإشكالية تتعلق بمقولات و آليات و تنظيرات الناقد لها و التي راحت تضع النصوص المنقودة في مقالات الكتاب في موضع الإيماءات الأصطلاحية و الصور الكيفية الغير معتدلة مع محتوى تضمينات دلالات النصوص ذاتها. و في الأخير لا أجدني بالضد مع تجربة الصديق الناقد و لكن أجدني مخالفا لبعض مشخصات ادواته النقدية التي لم تحسن عملية
الفصل و المفاصلة بين مجال التنظير و دائرة الإجرائية التطبيقية للنصوص المدروسة . أن قراءة مباحث و مقالات كتاب ( سرد ما بعد الحداثة ) سواء كان الأمر في الرواية أو القصة القصيرة أو غير ذلك فالأمر يتطلب من الناقد إدخال ثمة علاقات مشخصة و مفاهيم متحركة في طبيعة مقولاته القرائية للنص ، بل ينبغي أيضا توفير ما هو متغير في شكل من أشكال التقنية و الدلالة الرؤيوية في مساحة المعاينة النقدية لدى الناقد نفسه .. لا أن يقدم قراءات مصدرها الأساس قناعات مصدرية خاصة قد تنطبق على مداخل نصوصية مطابقة لذلك المحمول المدلولي المختص بمنطقة ما وراء السرد .. لا أن تقدم القراءة النقدية مرة أخرى لدى الناقد ثمة تجارب لا تعتمد و لا تتمثل بها تلك الأفكار لا من بعيد ولا من قريب بل لربما تبدو القراءة النقدية بهذا الحال و كأنها عشوائية غنوصية متنافرة الرؤى و الأطراف و الأقطاب و المشارب و الأهواء . هكذا قرأنا مقالات كتاب ( سرد ما بعد الحداثة ) حيث وجدناه عبارة عن مقولات قرائية كان مصدره الأساسي المتحكم هو صنعة و حرفية عين الروائي الذي أخذ يقدم وجهة نظره النقدية و مشخصاته المفهومية حول تجارب روائية و قصصية وفقا لسيرورة مرتبطة أشد الأرتباط بقاموسية دليل الناقد المنظر وبلا هوادة ما وهو يؤول مقولاته المفهومية الحادة حول مواضع نصوصية كان من الأجدر به تقويمها بمقصوديات إجرائية معيارية تتوافق و دليل و نتائج وقائعها النظرية المفترضة بطريقة اتفاقية ما.