18 نوفمبر، 2024 3:11 ص
Search
Close this search box.

مغامرة الوصول الى فندق الرشيد في بغداد .. عندما إستيقظتْ الذكريات الصحفية النائمة

مغامرة الوصول الى فندق الرشيد في بغداد .. عندما إستيقظتْ الذكريات الصحفية النائمة

صباح يوم الأحد 18/12/2011 ، كنتُ أقطع الطريق ، مشياً على الأقدام من ساحة المتحف في علاوي الحلة بالعاصمة العراقية ، بغداد ، باتجاه فندق الرشيد . لا أبالغ حين أقول : وقتها إنتابتني مشاعر التوجس ، واكثر من ذلك : القلق . سأتجه نحو واحدٍ من بوابات المنطقة الخضراء ، وسأدخل الى مبنى يُعتبر جزءاً من هذه المنطقة . وفي طريقي نحو ذلك ، سأمر على مبنى وزارة الخارجية الذي شهد أحداثاً دموية مؤلمة في آب 2009 ، ثم أن هذا الطريق لم أسلكه منذ عام 2002 ، أي قبل الاحتلال الأجنبي لبلادنا . والفندق لم أدخله منذ ذلك التاريخ .
    وللتوجس المصحوب بالقلق الكبير ، سبب مهم آخر . كان هدفي من التوجه للفندق ، تغطية جانب من اجتماعات اتحاد الصحفيين العرب التي بدأت في العاصمة العراقية يوم السبت 17/12/2011 ، واستمرت لمدة يومين . لست أدري إن كان ما نويتُ القيام به مغامرة محسوبة ، أم غير محسوبة . فأنا لا أحمل بطاقة دعوة للحضور ، ولا (باج) ولا كتاب تخويل من جريدة ما ، كأن تكون جريدة الزمان – بغداد .
    فكيف سأدخل الفندق في ظل إجراءآت أمنية مشددة . وللحقيقة والانصاف  أقول : أنني لم أطلب كتاباً من الجريدة ، كما لم أطلب من زملائي في ادارة نقابة الصحفيين دعوة للحضور ، ولا (باجاً) ، كما أنهم لم يتذكرونني ويدعونني للحضور .
    إنها مجازفة في أمرٍ ومكان وزمن لا يتحمل المجازفة . وهكذا كنت أحث السير باتجاه تقاطع الشاكرية حيث يتقابل في جانبين منه : فندق الرشيد وقصر المؤتمرات . إجتزت تقاطع وزارة الخارجية . مشيتُ بمحاذاة الجدار الكونكريتي العازل ، كان عالياً بشكل ملفت للنظر ، والملاحظ أن المشاة على جانبي الشارع قليلون جداً ، وكذلك السيارات . هدوء حذر يسود الشارع .
    وبمواجهة أول نقطة أمنية (عسكرية) ، كان السؤال الهادئ : استاذ وين  رايح ؟ . الجواب : الى مؤتمر الصحفيين . سؤال : الباج ، الدعوة ؟ هذا ما تقوقعتُه . والآن (الفاس وﮔﻊ عالراس) . تظاهرتُ بتجاهل سؤال العسكري ، وأبرزت هوية نقابة الصحفيين العراقيين . كانت الوانُها الحمراء تخطفُ البصر . أردفتُها بهوية قديمة صادرة عن اتحاد الصحفيين العرب ، تحت عنوان : هوية صحفية عالمية . وكانت الهوية الثالثة ، هي : شعري الناصع البياض مما يُوحي بالاطمئنان . والنتيجة : تفضل إستاذ ! ؟ .
    وهُنا بدأت الاجراءآت الأمنية . كانت عديدة ، دقيقة ، سلسلة ، بدأتْ بالفحص الليزري ، مروراً بالتفتيش اليدوي ، وإنتهت بـ (شَّمة) ، أو (لَحْسة) من كلب بوليسي لم يكن عدائياً ، وربما أقول كان وديعاً . شَمَّ الحقيبة التي لم تكن تحوي سوى قلمي وأوراقي وكامرة تصوير بسيطة ، إشتريتُها عام 2006 ، من محل مقابل مرقد السيدة زينب بالعاصمة السورية دمشق .
    قال بعض (الحاسدين) لهذا الكلب (المسكين) ، أن راتبه يبلغ عدة آلاف بالعملة الصعبة (عداً ونقداً) . وأن صاحبه ذا القامة الطويلة ، ولون البشرة البرونزني (ذلك يرجح أنه من أحد بلدان أمريكا الجنوبية ، ومن أحفاد طيب الذكر  كولومبس) .. أن صاحبه يتقاضى راتباً يفوق راتب أي استاذ جامعي عراقي . ويمضي بعض (الحاسدين)، وقاكم الله شرهم ، بالقول : أن الصحفي والباحث العراقي ، حميد المطبعي ، يتقاضى أقل من (نصف دولار) امريكي ، معنى ذلك أن الراتب الشهري لهذا الفارس البرونزي الذي يقود الكلب الذكي الوديع ، يعادل عشرة آلاف مرة راتب باحث عراقي مثل : حميد المطبعي ، (إذا قدرنا راتبه بخمسة آلاف دولار) .
    إنتهتْ ، والحمدُ لله ، الاجراءآت التفتيشية الدقيقة ، غير المطولة ، ومن خلال النفق المار تحت الشارع ، وصلت فندق الرشيد . هذا المبنى المحمل بالابهة التي تستلب المشاهد ، بُني في أخر فترة التخمة الدولارية في العراق (عقد السبعينات) من القرن الماضي ، وهي الفترة التي ذاق فيه العراقيون نسبة غير قليلة من ثمار ثروتهم . كان بامكان العراقي ، خلال عقد السبعينات ، أن يسافر الى أي جهة في الأرض (طبعاً عدا إسرائيل) ، وجيبه مليئ بالدولارات ، ويقصد تايلند (لاسباب معروفة تتعلق برغبة العراقي) ، وكذلك بلدان أوربا الاشتراكية (قبل أن يحررها أبطال الديمقراطية !!) ، لأنها رخيصة ، آمنة ، تريد اصطياد الدولار بأي ثمن ، مما يرفع سعره ، (وبلغة الشفّافية المعاصرة) يسمون ذلك (السوق السوداء) .
    فندق الرشيد ، بني مع مجموعة فنادق أخرى (فلسطين مرديان ، وعشتار شيراتون ، والمنصور ميليا ، والسدير نوفوتيل ، وبابل) كجزء من استعدادات العراق لاستضافة قمة دول عدم الانحياز .
    وهنا أستيقظتْ ذكريات نائمة . ففي الاعوام 1976 ، 1977 ، 1978 ، كنت مهندساً في المؤسسة العامة للسياحة ، ومديراً لمشروع فندق السدير نوفوتيل الذي بُنٌي قرب ساحة الفتح ، وليس بعيداً عن مبنى إتحاد الكتاب والمؤلفين العراقيين . وبهذه الصفة إلتقيت مع مختصين في طليعتهم : الدكتور سيروان الجاف ، مدير عام دائرة المباني في وزارة التخطيط آنذاك . اشتركت في لجان شكلت لغرض متابعة تنفيذ هذه الفنادق التي صُرف عليها ببذخ كبير . كانت السلطات العراقية ، وبالذات رئيسها آنذاك ، تريد أن تظهر عظمتها ، وغناها ، وكرمها (الحاتمي) أمام ضيوفها من وفود الدول غير المنحازة . والنتيجة : إندلعت حرب طاحنة على الحدود الشرقية للعراق ، وتأجل مؤتمر دول عدم الانحياز ، ثم تقرر نقل مكان إنعقاده من بغداد ، الى كوبا ، ذلك البلد الفقير (مالياً) ، والذي يشكل قصب السكر جزءاً أساسياً من عائداته ، هذا إذا تجاوزنا عائد استئجار قاعدة (غوانتانامو) التي إشتهرت بمعتقلها الرهيب . والنتيجة أيضاً : أنجزت الفنادق ولا يوجد من يشغلها ، بقيت كل واحد منها : مثل عروس جميلة خرساء .
    ضيوف الدولة العراقية قبل الاحتلال ، وخاصة من الاعلاميين ، يعرفون فندق الرشيد جيداً إذ كان المكان المفضل لاقامتهم . وفي 2003 ، أطبق عليه الاحتلال ، مثلما أطبق على بغداد ، وكافة مدن العراق . أصبح جزءاً من المنطقة الخضراء ، وبلغة أصدقائنا (المحررين) ، تسمى : (Green Zone) . عند الدخول للقاعة الاولى ، تطالعك أبيات من شعر علي بن الجهم ، الشاعر العباسي المشهور . ومجموعة (ثريات) كل واحدة منها ، كلفت مليون دينار عراقي ، بسعر صرف (3ر3) دولار لكل دينار ، أي (3300000) ثلاثة ملايين وثلاثمائة دولار بأسعار ذلك الوقت ؟ ! .
    بعد هذه المجازفة ، بدأت مهمتي الصحفية . بوضوح جئتُ من أجل تفعيل علاقات صحفية قديمة ، ومن أجل تأسيس علاقات جديدة . كنتُ أريد أن أجعل الذكريات تستيقظ ، بدل أن تبقى نائمة على وسادة النسيان . والصعوبة : من أين أبدأ ؟ أعرف أن هناك أجيال صحفية جديدة (معظمها شابة) ، لا أعرفها ، وحتى إذا عرفتني من خلال نشر كتاباتي على بعض المواقع الالكترونية (وفي مقدمتها موقع جريدة الزمان : طبعة العراق والطبعة الدولية) ، فانها لا تعرفني جيداً .
    معظم حملة الاقلام الصحفية ، الآن ، هم من (السنافر) ، مع محبتي لهم (أو، على وجه الدقة : لَهُنَّ …) ، وتمنياتي بالنجاح . والمسألة الآن : كيف أُؤسس لحوار بين الأجيال الصحفية مع الفارق الكبير بالعمر ؟ كان أول طير اصطادته شبكتي ، هو : الصحفية الليبية زينب شاهين التي تتولى رئاسة الشؤون الصحفية لفرع النقابة الليبية في بنغازي ، ونائبة رئيس نقابة الصحفيين في ليبيا .
    كانت زينب طيراً بريش حمل زرقة البحر المتوسط الذي تتعانق مياهه مع ساحل مدينة بنغازي ، طار من هناك وحطَّ بفندق الرشيد ، في مدينة الرشيد . حينما كنت أحاورها ، تذكرت قولا للأديب السوري شوقي بغدادي ، ونَصُّه : كنتِ الطالبة الاجتماعية الخجول التي جاءت تسأل استاذها عن معضلة دراسية ، فقفزَ قلبه من صدره وسقط على دفترها . لكن زينب لم تسأل محاورها ، بل كان هو البادئ بالأسئلة .
    حاورتُها . ومساء نفس اليوم دفعتُ الخبر (الحوار) الى جريدة الزمان – طبعة بغداد . ونشرته الجريدة في الصفحة الثانية من عددها (4075) بتاريخ 20/12/2011 ، وتحت عنوان : الصحفية الليبية زينب شاهين لـ (الزمان) : انزال العلم الامريكي من سماء العراق أفرحني كثيراً . ولم يكن الخبر يحمل إسمي ، بناءً على طلبي . فأنا كاتب عمود صحفي ، وكاتب مقالة (سياسية) خاصةً . لكنني – بسبب الرغبة والهواية وربما المهنة – أمارس الكتابه في حقول صحفية أخرى . إبني شاهين ، وهو قارئ ومتحدث ومستمع وصيرفي (أضيف لهذه الصفات كلمة جيد) ، . قال لي : إن ما فعلته هو عمل مندوب صحفي ، وقد لا يُليق . ومع إحترامي لوجهة نظره ، ومع نظرتي الخاصة لحقل (المندَبة) الصحفية ، فاني – وهذا ما يهمني – قد استجبتُ لنداء الكتابة الصحفية . وأصارحكم : في أعماقي يعوي ذئب صحفي . يعوي كمن لسعه برد صحراوي في أخريات ليل شتوي . ومثل هذا الذئب لا يكف عن العواء مالم أدفئهُ برداء الكتابة الصحفية ، أو بالكلام الواضح ، بـ (بطانية) الكتابة الصحفية .
    الصيد الثاني كانت الصحفية نجيبة الحمروني ، نقيبة الصحفيين التونسيين ، وزميلتها الصحفية  سعيدة بوهلال . وكان الصيد الثالث الاعلامية الموريتانية : أم كلثوم محمد مصطفى . قد تقولون : كلهن من الجنس الناعم . وأقول : نعم .. ومن فصيلة (السنافر) . ولكن من الرجال الصحفيين التقيت الصحفي : شلبي ، من العاملين بصحيفة الأهالي المصرية ، والصحفي الياس مُراد ، نقيب الصحفيين السوريين ، الذي علا صوتُه ، وسُمِع من خارج القاعة المغلقة ، يتحدث في اجتماع لاعداد البيان الختامي للمؤتمر ، وكان (الموضوع السوري) من القضايا الساخنة – ولعله القضية الساخنة الوحيدة – التي لم يحصل عليها إجماع . وعندما سألته ، عن رأيه بالبيان ، الذي ناقشوه ولم يصدر بعد ، أجاب باقتضاب : دون المطلوب .. مِشْ إكويَّس !! . كان الزميلان : الصحفي السوري ألياس مُراد والصحفي المصري شلبي ، هما الوحيدان من الصحفيين العرب الذين إلتقيتُهم ، وكان بياض شعر رأسيهما ، يقترب كثيراً من بياض شعر رأسي ، ولكن لا يتفوق عليه .
    وما ذكرته هو بعض محطات هذه المغامرة . والآن : هل هدأ الذئب الصحفي ، وكفّ عن العواء ؟
نعم .. ولكن لبعض الوقت ؟!
[email protected]

أحدث المقالات