17 نوفمبر، 2024 9:59 م
Search
Close this search box.

استقلالية القضاء العراقي بين النظرية والتطبيق

استقلالية القضاء العراقي بين النظرية والتطبيق

استقرت الفلسفة الحديثة منذ عصر النهضة الاوربية على اعتماد الواقع العملي (التجريبي) على الواقع النظري (العقلي الميتافيزيقي)، واصبحت اي نظرية او فكرة باطلة ، اذا لم تبرهن صحتها في التطبيق العملي. وعلى هذا الاساس اعتمدت الانظمة الديمقراطية الليبرالية بناء دولهم الحديثة واصدار تشريعاتهم.

ومن اشهر فلاسفة عصر النهضة البريطانيون، فرنسيس بيكون(1626-1561) وجون لوك (1704-1632) و برتراند رسل(1070-1872)، والفيلسوف الامريكي وليم جيمس(1910-1842) الذين بلوروا هذه الفلسفة.

لذا فان معيار استقلالية القضاء لاتبرهنه النصوص المكتوبة في الدساتير التي قد تعكس مظاهر نظرية زائفة منفصلة تماما عن الواقع العملي، ونجد هذه الظاهرة في جميع الدساتير الدائمية والوقتية منذ نشوء الدولة العراقية وانبثاق اول دستور (القانون الاساسي) سنة 1925 ولحد الان. تلك الدساتير تنص على عبارات عن استقلالية السلطة القضائية، وكون المواطنيين سواسية اما القانون وللمحاكم حق مقاضاة جميع الافراد في الدولة بغض النظر عن مكانتهم الوظيفية والاجتماعية، بل يحق للمحاكم مقاضاة الحكومة..وغيرها من العبارات المنمقة والرنانة التي لم نجد لها اي اثر حقيقي على ارض الواقع الا بحدود ضيقة تعتمد الى حد كبير على اعتزاز القاضي باستقلاليته الذاتية وشجاعته ونزاهته لتحقيق العدالة وكان ذلك في ظل النظام الملكي(1958-1925) على وجه الخصوص.

ان تحقيق استقلالية القضاء عمليا، تحتاج الى وجود اليات فاعلة، ولا قيمة لما تنص عليها الدساتير والقوانيين من خطابات وعظية، تتمشدق بها الانظمة الثيوقراطية والتيوقراطية لتعزيز سلطتها الاستبدادية، كما حصل ويحصل في العراق، وبشكل خاص في ظل الاحتلال وحكومة المالكي الطائفية.

 القانون اذا ما حقق العدل، فانه من الصعب ان يحقق العدالة التي تحتاج الى قضاء رصين ونزيه وقوي لتحقيقها. والقضاء لابد ان يعتمد على مؤسسات تنفيذية مهنية كفؤة وغير فاسدة او مسيسة او طائفية، تخضع لسلطته ورقابته لمساعدته في تحقيق العدالة، وهي اذرعه الاساسية، كمؤسسات الشرطة والامن والسجون والمعتقلات، واذا ما قطعت او شلت هذه الاذرع فان القضاء سيتحول الى قضاء معوق يرتكز كليا على السلطة التنفيذية.

ولا يمكن خلق قضاء مستقل له تلك المواصفات، الا بوجود نظام ديمقراطي ليبرالي من شأنه ان يضمن تداول السلطة سلميا، والحفاظ على ديمومته من خلال الفصل بين السلطات وبناء ركائز ودعائم قوية ومتينة لاستقلالية السلطة القضائية من الناحية العملية.

ولما كان القضاء المستقل هو سيف الحق والعدالة الصارم على رقاب الحكام المستبدين والفاسدين، فانهم يسعون بشتى الوسائل المتاحة لديهم على تهميش دوره وجعله تابعا لسلطانهم بغية ضمان اصدار القرارات المجحفة بحق خصومهم السياسيين وفي عين الوقت ضمان عدم مساسه بالحاكم المستبد واتباعه في السلطة.

ولا يوجد ادنى شك من كون النظام السياسي الحالي هو طائفي بامتياز ويسعى بكل ما أوتي من قدرة وامكانية على تكريس دكتاتورية الطائفة الواحدة من خلال الهيمنة على القضاء واستغلاله لتصفية خصومه السياسيين ، ومن البديهي، لا يستطيع القضاء ان يحافظ على استقلاليته في ظل نظام سياسي طائفي مهما تضمن الدستور والقانون من نصوص نظرية لاستقلاليته.

لقد سعت الولايات المتحدة الامريكية منذ عقود من الزمن على تكريس الطائفية السياسية في العراق من خلال استخدام البعض من تنظيمات المعارضة المتواجدة في المنافي، وكللت مساعيها باحتلال العراق وبناء عملية سياسية طائفية واثنية لتحقيق مخططاتها الجهنمية في الفوضى الخلاقة وخارطة الشرق الاوسط الجديد والاستيلاء على ثروات البلاد وتدمير القولت المسلحة العراقية. ولغرض تمرير هذا المخطط الاجرامي، لابد من جعل مؤسسات الدولة وعلى رأسها القوات المسلحة واجهزة قوى الامن الداخلي والمخابرات الجديدة مرتعا للمليشيات الطائفية والاثنية، ومهدت الطريق امام اطراف العملية السياسية التي جاءت بها بعد الاحتلال، بالمضي قدما لتنفيذ هذا المخطط الذي يحقق مصالحهم ومأربهم الفئوية والطائفية الضيقة وبالتالي نشوب الحرب الاهلية الداخلية والاقليمية لضمان تلك المصالح للولايات المتحدة الامريكية ولاطراف العملية السياسية.

وكما اشرنا، ان استقلالية القضاء عمليا لا يأتلف مطلقا مع وجود نظام سياسي طائفي استبدادي ولاسيما ان هذا النظام عمل بجد على شل اذرع القضاء، بمنح الحصانة لرجل الشرطة والامن من التعقيبات القانونية عن اية جريمة يرتكبها حتى اذا كانت خارج نطاق الخدمة وضد المدنيين، اذا لم يوافق وزير الداخلية على احالتهم الى المحاكم الجنائية المدنية المختصة، والغريب في الامر، ان قرارات الوزير بعدم الموافقة على الاحالة، تكون بمثابة البراءة من التهمة..!!(المواد 111 و112 و113 من قانون اصول المحاكمات الجزائية لقوى الامن الداخلي رقم 17 لسنة 2008). وبذلك فان رجل الشرطة والامن يتمتع بحصانة اعلى واقوى من القاضي، وان القاضي ليست لديه اي سلطة فعلية عليهم في حالة التمرد وعدم تنفيذ قراراته، بل اصبحت هذه الاجهزة مصدر رعب وليست اداة تنفيذ لتحقيق العدالة التي هي من صلب واجبات القضاء.

من البديهي، ان القاضي وعلى وجه الخصوص من يتولى المواقع الحيوية في القضاء، كرئيس السلطة القضائية’ يقتضي ان يتمتع باعلى درجات الشجاعة والنزاهة والاستقلالية الذاتية وقوة الشخصية البعيدة عن الشبهات، التي من شأنها ان تجعله لا يساوم على التدخل في شوؤن القضاء على حساب العدالة، ولا سيما ان النتائج ستكون كارثية على مستقبل الوطن والشعب عندما يتحول القضاء الى وسيلة لتمرير الانتهاكات الخطيرة لحقوق الانسان واداة لتكريس مخططات السلطة التنفيذية في الانحدار نحو الدكتاتورية الطائفية المقيتة.            

ان من اهم الحلقات المخطط لها من قبل الاحتلال هو تأمين جانب القضاء العراقي، لذا لجأ الحاكم المدني (بريمر) الى اختيار اضعف شخصية عرفها تأريخ القضاء العراقي  على رأس السلطة القضائية والمحاكم العليا، منذ تأسيس الدولة العراقية ولحد الان، لما يتميز به من سيرة ذاتية هزيلة وانتهازية للغاية، اكدها العديد من القانونيين والكتاب المعروفين والمدونات الالكترونية (راجع على سبيل المثال، مقال الدكتور نبيل الحيدري في موقع الناس بتأريخ 02/04/2011 ومقال الدكتور كاظم حبيب في العدد 3263 في 31/01/2011 في الحوار المتمدن وما نشرته بعض المدونات مثل الرشيد وشبكة العراق وغيرها).

يقول لفيف من المحاميين في مذكرتهم المرفوعة الى رئيس الوزراء (المالكي)، المنشورة في الحوار المتمدن بعددها 2790 في 05/10/2009 نصا ما يلي:
“…مما لا يخفى على الكثير من ابناء العراق ممن عاشو وعاصرو زمن …صدام ان من يعمل في ديوان الرئاسة في زمنه لابد ان يكون من البعثيين الكبار الذين يضحون بالغالي والنفيس من اجل قائدهم وان من كان في ديوان الرئاسة لايمكن ان يتولى منصب سيادي بالعراق الجديد حسب ما جاء به الدستور العراقي، والسيد مدحت المحمود هو عضو شعبة في حزب البعث ومستشار اول لصدام حسين ورئيس مجلس شورى الدولة حتى  09/04/2003 وصاحب فكرة (البيعة الابدية) لصدام المنشورة بجريدة القادسية  في 15 تشرين الاول 2002 ايام الاستفتاء الشعبي عام 2002 وصاحب مقولة (اعظم قائد لاعظم شعب) المنشورة بنفس الجريدة  وكذلك شبه صدام وعصره بعصر صدر الاسلام وهذا موثق في لقائه على شاشات التفزيون العراقي في 03-11-1999 …وكان مواضبا على اجتماعات الحزب والزي الزيتوني وهو مسؤول فرقة حي الجامعة “

كما يقول الكاتب في الشؤون القانونية السيد جبار جسار في مقالته المنشورة في الحوار المتمدن العدد 1203 في 20/05/2005 ما نصه:
“…بعد عناء ثلاثة ايام وجدت تلك الصحيفة (القادسية) ليوم 15/10/2002 وفيها قول مأثور لمدحت المحمود (اعظم قائد..لاعظم شعب) وجاء في نصه (ان عملية الاستفتاء الشعبي العام هي الدرس الديمقراطي والقانوني الذي سيحقق فيه العراقيون رغبتهم الكبيرة في تأكيد الولاء والحب والبيعة الابدية والمطلقة لراعي العدالة القائد صدام حسين اعزه الله ورعاه، وهي تجربة تضاف الى تجارب العراق النضالية التي سيدرك من خلالها العالم ان العراقيون صامدون في وجه التهديدات الامريكية الوقحة وثابتون في مواقعهم في اختيار القائد صدام حسين الذي اختاروه عبر مسيرة نضال طويلة تحقق لهم من خلالها الوجود الحي المؤثر للعراق وهو يخوض معاركه ضد الظلالة والعدوان..نعم نعم نعم نطلقها اليوم من حناجرنا للقائد صدام حسين)”

وفي مكان اخر في نفس مقالته يقول الكاتب:
“…وبعد ان دققت ذلك من اقرب المقربين له بالوظيفة وجدت بان صدام حسين لم يفصله حتى ولو ساعة واحدة، بل كانت غرفته بالقرب منه، ولمقربته من سلطة القرار فقد اغدقت عليه المكارم السخية الواحدة تلو الاخرى فقد كرمه بمبلغ من المال وتسليمه سيارة نوع سيدرك قبل ايام قلائل من احتلال العراق، وليس هذا التكريم الاول بل تم تكريمه بنوط الشجاعة وشارة ام المعرك عندما كلن عضوا في الهيئة العليا للاستفتاء واخراج مسرحية 100%”  

وهل يساور اي انسان، ادنى شك بان مثل هذه الشخصية لا يمكن ان تصلح لاي منصب او مسؤولية في الدولة..؟ اذن لماذا اختير من بين المئات من القضاة لرئاسة اهم سلطة في الدولة..؟

اعتقد ان الجواب واضح وبسيط، ان من يتمتع بمثل هذه المواصفات والمآخذ، لابد ان يكون الشخصية المثالية لتنفيذ مخططات الاحتلال وحكوماته المتعاقبة للوصول الى تقسيم وتدمير العراق، وهو اضعف من شعرة الرأس للوقوف امام تلك المخططات ، لذا وجد الاحتلال و حكوماته ضالتهم به وملائمته ليكون على اعلى هرم القضاء العراقي.

لقد رافق تعيين المذكور على رأس السلطة القضائية والمحاكم العليا في البلاد، صدور امر بريمر المرقم 15 في 13/06/203 الذي شكل بموجبه لجنة المراجعة القضائية من ثلاثة اعضاء امريكان وثلاثة اعضاء عراقيين. واصدرت هذه اللجنة قراراتها بعزل اكثر من 150 قاضيا عراقيا، باسلوب يفتقر لابسط المعايير القانونية والاخلاقية، عن اتهامات لم تصدر المحاكم بحقهم اي قرارت بالادانة. ويبدو بان الغرض كان واضحا وهو التخلص من هذه المجموعة ليكون الطريق سالكا امام الاحتلال واتباعه في تنفيذ المآرب المرسومة. ولو كانت النوايا سليمة لمثل هذه القرارات، لكان السيد مدحت المحمود اول من يستحق العزل نهائيا من القضاء تبعا لسيرته الذاتية.

لجأ النظام الدكتاتوري السابق الى تهميش القضاء باصدار التشريعات في تشكيل المحاكم الخاصة والاستثنائية وسلب اختصاصات المحاكم العادية، كمحكمة الثورة ومحاكم الحزب والمحاكم الاستثنائية الاخرى، بينما نجد في ظل الاحتلال وحكوماته المتعاقبة لم يكتفى بتشكيل المحاكم الخاصة وانما تحول جميع التنظيم القضائي العراقي الى قضاء استثنائي يلبي حاجات وطموحات الاحتلال وحكوماته المتعاقبة وعلى وجه الخصوص القضاء الجنائي في ظل حكومة المالكي الطائفية.

ولابد من الاشارة هنا الى بعض المظاهر التي تؤكد عدم استقلالية القضاء العراقي وتبعيته للسلطة التنفيذية في تحقيق مآربها الطائفية:
1- قرار بريمر المرقم 17 لسنة 2004، منح الحصانة المطلقة لقوات الاحتلال والعاملين معهم من الشركات الامنية والمقاولين من التعقيبات القانونية امام المحاكم العراقية، مما سمح لهم بارتكاب افضع الجرائم الدولية بحق البلاد والعباد ، بدون ان يحرك القضاء العراقي برئاسة السيد المحمود ساكنا للدفاع عن الدم العراقي وتخريب الوطن، هذا اذا لم يشترك مسبقا في اصدار مثل هذا القرار كما تشير الى ذلك بعض التقارير، ويبدو تلك اول هدية للاحتلال لقاء تعيينه بهذا المنصب.
2- تفسير المحكمة الاتحادية التي يرأسها السيد المحمود للكتلة الفائزة الاكبر التي اسقطت حق القائمة العراقية الفائزة في تشكيل الحكومة، واعطاء الحق لهيئة المسائلة والعدالة غير الدستورية بالاجتثاث بالرغم من ان المحكمة الاتحادية غير مختصة دستوريا في هذا التفسير، وكان هذا التفسير انحيازا طائفيا سياسيا يشكل سابقة خطيرة جدا في تعزيز الانقسامات الطائفية والعرقية.
3- اصدار المحكمة الاتحادية قرارا بربط الهيئات المستقلة كالبنك المركزي وديوان الرقابة المالية وغيرها بمجلس الوزراء (المالكي) سعيا وراء تكريس الانفراد بالسلطة.
4- تستر القضاء والادعاء العام وعدم تحريك الدعاوى ضد الممارسات اللاقانونية واللاانسانية واللااخلاقية بما يقوم به مكتب رئيس الوزراء والمليشيات المرتبطة به من جرائم بحق حقوق الانسان في المعتقلات والسجون وانتزاع الاعترافات عن طريق التعذيب الوحشي والاعتقالات العشوائية وانتهاك حرمة المنازل واغتصاب النساء والرجال والتشهير واهانة المتهمين وعرضهم على شاشات الفضائيات الحكومية والتهجير القسري لملايين المواطنيين والفساد المالي والاداري الذي يزكم الانوف وغيرها من الجرائم خلافا للقوانيين المعمول بها والاتفاقيات الدولية.
5- اصدار قرارات قضائية باسقاط الحصانة البرلمانية عن بعض النواب من طائفة معينة عن تهم مفبركة اثبتت الهيئات الدولية برائتهم منها وبطلانها، كما اصدرت مؤخرا امرا بالقبض عل نائب رئيس الجمهورية عن تهم تحوم حولها الشك الكبير بانها مفبركة لتعزيز الفرقة والاقتتال بين مكونات الشعب العراقي.
6- لم يحرك القضاء العراقي ساكنا ازاء الجرائم الوحشية التي ترتكبها المليشيات المرتبطة بمنظمات ارهابية كمنظمة بدر وعصائب اهل الحق وجيش المهدي وغيرهم رغم  اشتراك البعض منهم بالعملية السياسية كاعضاء في البرلمان او في الحكومة.

واخيرا اود ان أأكد ما قالته صحيفة “نيويورك تايمس” بعددها الصادر يوم 15/7/2011 ، بان القضاء العراقي يمر باسوا مراحله التأريخية منذ نشوء الدولة العراقية ولحد الان.

واذا ما اردنا تجاوز هذه المرحلة السيئة، لانقاذ العراق، لابد من التخلص من العملية السياسية الهدامة بالوقت الحاضر، واللجوء الى اعداد دستور يضمن اقامة نظام ديمقراطي ليبرالي بآليات جديدة يعتمد المواطنة كاساس وليست المحاصصة الطائفية والاثنية التي كرست شتى انواع الانتهاكات لحقوق الانسان وخرق القوانين والاتفاقيات الدولية.    
[email protected]
قاضي عراقي سابقا
رئيس جمعية الحقوقيين العراقيين-بريطانيا

أحدث المقالات