بين إطفاء شموع وإيقاد أخريات، دأب العراقيون على قضاء أيامهم وأعوامهم عاما تلو عام، وكلها قطعا من أعمارهم التي مهما طالت تبقى منغصة بأشياء كثيرة، أولها الراحة والأمان في بلدهم.. ثانيها العيش الهانئ والرغيد.. ثالثها الاطمئنان للمستقبل.. ورابعها السير في ركب أمم العالم في التحضر والإعمار.. وخامسها وعاشرها… حتى انقطع الأمل في نفوس الراحلين من العراقيين، وهاهو يتقطع من الباقين على قيد الحياة رويدا رويدا، إذا ما استثنينا أياما معدودات يثب فيها الأمل على حين غفلة، إلا أنه سرعان مايعود أدراجه مكللا بخيبات أمل تثقل عليه ماتبقى من عمره.
وفي استطلاع سريع لما مر به الجيلان او الثلاثة أجيال الأخيرة، والذين منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر مثلي ومثل قارئ سطوري هذه، نلمس أننا مررنا بسنوات عصيبة ليس على مستوى المعيشة فقط..! بل طال الغبن وغمط الحقوق كل مرافئ حياتنا، وذقنا خلالها مرارة الحروب والحصار والقمع والبطش والكبت، وما من عائلة إلا ورُزِئت بابن او أب او أم او أخ، او قريب على أبعد تقدير، فضلا عن العوز والفاقة وضيق ذات اليد، التي كانت الشبح الذي تصطبح به الأسرة، وتمسي بأشد منه رعبا وقسوة وهو فقدان الأمل بمستقبل آمن. وهذه كلها مجتمعة كانت سببا في كثير من المشاكل العائلية، حيث تشتتت من جراء الفقر عوائل كثيرة، فكان الهجر والسفر والرحيل والغربة، ملاذا للشباب الذين يبحثون عن مصدر رزق، وآخرين عن عيشة بعيدة عن سياط الحكام وملاحقات أزلامهم، حتى اكتظت دول مشارق الأرض ومغاربها بالعراقيين المستغربين.
أعود الى مابدأت به مقالي بالإيقاد والإطفاء.. فقبل أيام قلائل ودع العراقيون عاما آخر من أعوامهم العجاف، والتي اعتادوا أن يكون حالها من سيئ الى أسوأ، لكن، وكما نقول؛ (الله مايكطع) إذ تتخللها فسحات يتنفسون أثناءها صعداء هي الأخرى غير مكتملة، يعللون من خلالها أنفسهم برقعات أمل هو الآخر منقوص، فيزداد ضيقهم وتنغلق أمامهم الفسحات من جديد، فيخالفون بحالهم هذا ما أنشده الطغرائي يوم قال:
أعلل النفس بالآمال أرقبها
ماأضيق العيش لولا فسحة الأمل
واعتادوا في عراقهم الجديد على التنقل بين السيئ والأسوأ، بعد أن يئسوا ونفضوا أيديهم من الجيد والأجود، وقطعا ماحالهم هذا إلا صناعة ساستهم وأولي أمرهم والقائمين على رعايتهم، وكأنهم قرأوا حديث نبينا (ص) مقلوبا، فكلهم رعاة وكلهم غير مسؤولين عن رعيتهم، فهم يتسابقون في ماراثون الهدم، والعصي الموضوعة في دواليب عجلة التقدم، أكثر بكثير من وسائل البناء وأدوات الإعمار، فظل البنيان كما قال شاعر:
متى يبلغ البنيان يوما تمامه
إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم؟
والحق يقال ان قوى الشر من الداخل كانت أكثر من تلك القادمة من وراء الحدود، فأعداء العملية السياسية الأشقاء مافتئوا يشعلون نيران الفتنة في أي موضع تطاله أيديهم، وكان لمعاول الهدم قول وفعل أكثر من معول البناء، فضاع الأخير في مهب ريح الأولى. وبذلك لم تعد يد واحدة تكفي للبناء، فكان الخراب هو السمة الواضحة والصورة التي تعكس الحال على حقيقته، وكما يقول الشاعر:
ولو ألف بانٍ خلفه هادم كفى