كنت جالسا القرفصاء في غرفتي وحيدا قبل دقائق معدودة من بداية العام الميلادي الجديد 2017 حيث لا ماء صالح للشرب ولاكهرباء – وطنية – متأملا بأحداث العام الماضي 2016 الجسام والتي تشبه الى حد التطابق ما سبقها مذ غزو العراق بذرائع وهمية عام 2003 أعقبت حصارا غاشما قتل من جرائه مليون وربع المليون ضحية بريئة ، والى يومنا هذا الذي بدأ صباحه الأخير بتفجير وسط العاصمة لينتهي بتفجيرات مسائية مماثلة في الشعلة وبغداد الجديدة ، أسفرت عن استشهاد وإصابة عشرات الأبرياء وكأن العام الماضي يأبى أن يفارقنا قبل تقديم قرابين عراقية على مذبح “الدم ..قراطية ” كفارة لخطايا السياسيين المتنعمين بخيرات الملايين ، متسائلا عن الدور الذي تلعبه مئات الحواجز والسيطرات لكشف المفخخات في الشوارع والطرقات والأسواق والمولات ؟
أين عشرات الكاميرات وعجلات السونار وأجهزة كشف المتفجرات ” إيه دي إي” المحمولة يدويا ،ووحدة الكلاب البوليسية المتخصصة k9 من متابعة العبوات الناسفات واللاصقات أسفل العجلات وداخل الكوسترات والكيات فضلا عن فضح السرقات والاختلاسات والحرائق في أروقة الدوائر والمؤسسات ، فها نحن نقدم كالخراف مع المقبلات يوميا أشلاء ممزقة على السفرة بعد شوينا وتتبلينا داخل المطبخ السياسي الذي يقوده أناس لا يفقهون شيئا من فنونه قط ؟ وأقول لهؤلاء جميعا ” إذا هبت رياح التغيير والأنقاذ فعلى الحشائش والأشواك الضارة أن تنحني ” كما تقول الحكمة الأنجليزية . وبناء على ما تقدم فأن العراق اليوم بحاجة ماسة الى مشروع وطني عراقي حقيقي يتولى انتشال بلاد وادي الرافدين من المستنقع الآسن الذي اغرقت فيه قسرا وانقاذها مما هي عليه وذلك من خلال برنامج رصين ، شامل يعمل على نبذ المحاصصة ، عبور الطائفية ، تحقيق الأمن والأمان وعلى الصعد كافة ، حصر السلاح بيد الدولة ، إعادة هيبة السلطة ، اختيار الكفاءات بعيدا عن الأجندات والخلفيات والانتماءات الحزبية والمذهبية والأثنية الضيقة لتولي المناصب ، الحفاظ على ثروات العراق وحدته أرضا وشعبا ، إعادة النظر في فقرات الدستور الملغمة التي كتبت على عجالة في ظروف عصيبة وبغياب شرائح مهمة ذات ضياع ، وأسأل وحق لي ذلك أين وماذا تعني المصالحة الوطنية التي صدعوا رؤوسنا بها ، التسوية التاريخية ، مواثيق وعهود صون العرض والدم والأرض التي وقع عليها – الفرقاء – مرارا وتكرارا برعاية أممية أو اقليمية ؟ أين الأعراف العشائرية ، القوانين الوضعية ، الأحكام الشرعية ، المثل الأخلاقية ، المشاعر الإنسانية ؟
وان كنت أعجب فعجبي من أناس باتوا يديرون المطبخ السياسي العراقي وهم جاهلون كلية بمفاهيمه ومصطلحاته ومقاديره وبرغم أن معظمهم “بلوتوقراطيون” إلا أنهم لا يفقهون معنى المصطلح الذي يعني حكم الأثرياء، وأنه أحد أشكال الحكم الذي تتميز فيه الطبقة الحاكمة بالثراء الفاحش وفي ظله، تكون درجة التفاوت الاقتصادي عالية، فيما يكون مستوى الحراك الاجتماعي منخفضًا بسبب الاستبداد الطبقي ، كما جاء في الموسوعات السياسية .
كل “شيف” سياسي في العراق ما خلا النزر اليسير منهم إنما هو طارئ على المهنة تسنم منصبه مدفوعًا من كتلته السياسية، أو العرقية، أو المذهبية، أو العشائرية والقبلية، أو الدينية على وفق ما بات يعرف في العراق بـ”المحاصصة” التي يحاول أن يزوق بعضهم قبحها بعبارة “حكومة شراكة وطنية ” وما هي بشراكة ولا يحزنون، فاحترق الطبق تلو الآخر منذ 2003 وإلى أجل غير مسمى يصدق فيهم قول المصريين ” أكل بلاش نوم بلاش ولسان ميتوصاش” .
ولو سألت 90% من ساستنا عن مصطلح واحد من مصطلحات فن الممكن لأسقط في يده ولم ينبس ببنت شفه، فهم يطبقون على ناخبيهم وجماهيرهم من خلال ماتبقى من مفردات الحصة التموينية التي يلوون اذرعهم بها مع انها في طريقها الى الزوال برزها – المعفن – ماقاله الشوام تهكما ” يلي بدو ياكل خبز السلطان ، بدو يحارب بسيفو” .هؤلاء لا يفرقون بين الفيدرالية والكونفدرالية، ولا يميزون بين التيوقراطية(حكم رجال الدين) والبيروقراطية (حكم المكتب) والأوتوقراطية (حكم الفرد) والتكنوقراطية ( حكم النخبة الأكاديمية التقنية) والأرستقراطية (حكم الأغنياء والطبقة الخاصة) والديمقراطية (حكم الشعب) وهم لا يفقهون شيئًا عن البراغماتية (الذرائعية) ولا عن الليبرالية (التحررية) ولا عن الإمبريالية (الدولة التي تعيش على ريع لا تبذل فيه جهدًا ) فضلًا عن الشوفينية (العصبية القومية) والديماغوجية (النزول عند رغبات الرعاع) ولا الراديكالية (الأصولية) إضافة إلى الميكافيلية والمكارثية وهم يشوشون على الجماهير عبر خلطهم الممجوج بين تلك المفاهيم بطريقة تنم عن جهل مطبق بأبسط قواعد اللعبة السياسية، بل بمكونات ومقادير طبخاتها وتوابلها أيضًا.
ولعل هذا الخلط يبلغ ذروته من خلال تصريحات السياسيين المتلفزة بين الفيدرالية والكونفدرالية التي تطالب بها كتل عديدة في العراق تمهيدًا لتقسيمه مستقبلًا، كما أنهم لا يعلمون أن هناك اليوم أكثر من 30 دولة فيدرالية، وهي عبارة عن دولة واحدة، تضم كيانات دستورية متعددة، بخلاف العراق الموحد الذي يريدون تقسيمه إلى فيدراليات، ولعمري ذلكم الجهل بعينه.
كما أن بعضهم ينادي بالكونفدرالية وهو لا يعلم يقينـًا أنها تتكون باتحاد دولتين أو أكثر من الدول المستقلة، وليس الأقاليم لتحقيق أهداف مشتركة، وذلك بموجب معاهدة بينهم تتمتع خلالها الدول الأعضاء في الاتحاد الكونفدرالي باستقلالها التام.
أما عن الرأسمالية الطفيلية أو الـ”كومبرادور” فقد لعبت دورها الفاعل في الواقع العراقي والكومبرادور لمن لا يعرفها هي الرأسمالية غير المنتجة تمارس انشطتها المشبوهة في البلدان – النائمة- حصرًا، عبر السمسرة، والتوكيل، وبث قيم الاستهلاك الترفي، وتدمير الاقتصاد الوطني، وتجارة العملة، والتهريب وتحويل الدول النامية إلى مجرد مستورد تابع ذليل غير قادر على الإنتاج والاستقلال الاقتصادي وتعد أهم عائق في طريق الإنتاج المحلي وتشغيل العاطلين ونمو الاقتصاد الوطني يصدق فيها قول البغادة ” دخانكم عمانه ، وطبيخكم ما إجانه ” .
وعن توظيف الممكن لتحقيق المستحيل ستكون لنا وقفات مقبلة بمشيئة الله تعالى في طريق اصلاح الوضع القائم وترميمه ووقف نزيف الدم المهراق ليل نهار وانقاذ العراق قبل السقوط النهائي في الهاوية الأبدية . اودعناكم اغاتي