ان قراءة مقتضبة في شخصية الانسان العراقي من كل الاطياف والالوان والمشارب ستشير لنا الى حقيقة تاريخية هي :
أن لانسان العراقي لايمكن ان يقبل بالاحتلال والخضوع لقوة اجنبية ,العراقي تسحيل قيادته من قبل قوة اجنبية محتلة ..وهو بالكاد يستكين ويسير خلف القادة من ظهرانيه ..فكيف بالاجنبي ..
مرت على العراق حقب سوداء كثيرة لم يكن اولها ولا اخرها الحكم العثماني فيه .. وعندما بدأت الدولة العثمانية بالوقوف على شفيرالنهاية اخذت الولايات الثلاث – بغداد والموصل والبصرة- والتي تشكل العراق بثلاثيته الجغرافية والتي كانت ترزح تحت الأحتلال العثماني وعاشت كابوس الأحتلال البغيظ وما سببه من بؤس وظلم وجهل وفقر، أخذت بالتحرك باتجاة التحرر وقامت جمعيات وطنية للمطالبة بالأستقلال وكانت عشائر الفرات الأوسط تقوم بالتمرد والعصيان الى حين دخول القوات البريطانية الى مدينة البصرة عام 1914 حيث شعر العراقيين حينها بأن البريطانيين سيحلون محل العثمانيين وأن البريطانيين قد يكونون أسوأ من العثمانيين فأندفعت الجماهير المسلحة في بغداد والكاظمية والنجف وكربلاء وذيقار والسماوة والعمارة لمقاومة المحتل الجديد واشتركت في معركة الشعيبة .
وفي عام 1918 بدأت بوادر الثورة الشاملة تظهر في مناطق متعددة من العراق وخصوصا منطقة الفرات الأوسط والمدن المقدسة وبغداد بعد ان أخذ الوعي الوطني ينتشر ويتبلور بعد أن قامت القوات البريطانية بقمع ثورة النجف وأعدام الكثيرين ونفي اخرين وسيطرتها التعسفية على كل مرافق الحياة في العراق .
اندلعت ثورة العشرين .. لتكون المؤشر الاكبر على شخصية العراقي الرافض لكل اشكال الظلم والهوان .. فهكذا جبله الخالق وهكذا هو وهكذا سيكون الى النهاية ..
في عام 1968 جاءت شرذمة من حزب ,طرد من السلطة في تشرين 1963 وسيطر على الحكم في العراق بعد ان قام بتصفية كل القوى الوطنية
.
مرت علينا سنوات الضيم التي اصبح فيها العراقي يحلم بالخلاص باية صورة .. وسرعان ما بدأ البعثيين بتأسيس جهاز حنين وترسيخ اركان دولة المخابرات .. او كما دعاها الكاتب سمير الخليل في كتابه (جمهورية الخوف) ببلد الشرطة السرية ..
صار جهاز الامن العام والمخابرات العراقية هما يدي وعيني النظام واساس سيطرته على مجريات الامور .. كان مجرد التنفس او الكلام في الامور المحظورة لدى الحزب الدكتاتوري يؤدي بعوائل كاملة نحو السجن والتشريد والقتل .. ولا نبالغ اذا قلنا ان احواض تيزاب ذلك النظام ابتلعت الالاف من أبناء هذا الوطن …
ومع كل هذه السيطرة الدكتاتورية الدموية المميتة .. لم يستطع النظام ان يكبح جماح العراقي ولا استطاع ان يمنع الناس من المعارضة والعمل على اسقاطه
فمن محاولات قلب النظام داخل المؤسسة العسكرية انذاك والتي كانت تكتشف ويعدم على اثرها الاف الضباط والمقربين منهم .. الى الانتفاضة الشعبانية وما تشظى عنها ليستمر العراقي شوكة في عين صدام عبر الاهوار والجبال وغيرها من المواقع العراقية المعارضة
الا ان سيطرة النظام عبر آلته العسكرية المتقدمة والتي لم يكن يتردد فيها من استخدام المدفع والصواريخ والطائرات والدبابات امام صوت بشري معارض ..هذا التفوق العسكري وسكوت العالم عن جرائمة وعدم دعمه لجهود العراقيين حال دون نجاح العراقيين في التخلص من الطاغية وحزبه المجرم
مع ذلك لم تتوقف محاولات العراقيين في التخلص من نظام صدام ولا هدأت النفوس ولا فترت .. الا ان مصالح الغرب في العراق واهمية موارد العراق وموقعه لوجستيا في المنطقة وطبيعته من كل النواحي بالنسبة لهم وانتهاء صلاحية حزب البعث ,جاءت بقوات التحالف للقيام بعملية اسقاط الطاغية .. وهذا ما حصل .. وقبلناه مجبرين وعن مضض .. ليس لاننا كنا نريد للطاغية ان يستمر في الحكم فحسب.. وأنما لاننا كمعارضة كنا نريد ان نسقطه بايدينا وبدون تدخل خارجي .
كانت الدولة الجديدة لا بد لها من التعامل مع حالة وجود الاجنبي ومحاولة الخروج منه بأفضل النتائج الممكنة لصالح العراق وشعب العراق .
كان كل هدفنا عند توقيع اتفاقية الانسحاب مع الجانب الامريكي الاستقلال الكلي والسيادة الوطنية غير المنقوصة.. لذلك وضعنا سقف زمني محدد لوجودهم ، على الرغم من سقفهم العالي الذي وضعوه ,لكن صلابة المفاوض العراقي وارادته الوطنية , اوصلت العراق الى ماهو عليه اليوم , حيث انسحب اخر جندي امريكي من العراق اوعندما عرضوا علينا البقاء والاستمرار ولو لعدد محدد من مدربيهم رفضنا واشترطنا ان يخضعوا الى القانون العراقي كليا على خلاف كل القرارات التي كان الحاكم الامريكي الاول بول بريمر قد وضعها لتامين حصانة كاملة لكل القوات الامريكية العاملة في العراق ..
لم نجيز يوما التفريط بسيادة العراق الكاملة .. بل كثير ما كان الجانب الامريكي يفاجأ برفض او سؤال او تعارض .. لم نقل نعم الا عن اقتناع بان النعم ستكون خالصة للعراق .. ولم نقل لا الا عن نظرة متروية شاملة .. لصالح العراق ….
المفاوض العراقي
كنا اما خيارين .. حلوهما مر .. استمرار القوات الامريكية لفترة لتدريب قواتنا .. او عدم توقيع الاتفاقية الامنية والطلب منهم مغادرة العراق قبل 3 اعوام وعندها لم نستكمل بناء المؤسسات الحكومية، وعدم استتباب الأمن وتوفير شروط هذا الاستتباب وطنيا، كل ذلك يجعل ان يكون اطار وموضوع الاتفاقية بما خرجت به.
لقد كان للارادة العراقية دور فاعل في انسحاب القوات الامريكية وهو انجاز عراقي مشرف ومفصل تأريخي مهم ويبقى السؤال : هل الوضع العراقي اليوم مطمئن وفق المخاطر والتهديدات التي تواجهنا في العراق؟
طبيعة التهديدات والمواجهة الفعالة
رحلت القوات الامريكية وتركت خلفها عدد من القضايا التي يجب ان يتم حلها عراقيا وباسرع وقت ممكن ..
احدى تلك القضايا تتجلى في مسألة عدم الاستقرار السياسي والذي انعكس بصورة مباشرة على حياة المواطن العراقي ..فمنذ سقوط النظام ، لم تطرح استراتيجية حقيقية تلتزم بها كافة الاطراف، ترافقها النوايا حسنة المتبادلة والمشتركة من قبل الجميع .. لذلك نجد ان مشروعنا السياسي في احيان كثيرة يصير في مهب الريح لانه لايملك الركائز والمقومات الوطنية .. وهذا امر في غاية الخطورة ..
الحل موجود ومتوفر لدى الكتل السياسية العراقية التي تقود العملية السياسية في العراق ..فعلى تلك الكتل ان تضع العراق فوق كل الولاءات الاخرى ..وان لا تستقوي او تتعامل مع اي اجنبي على حساب العراق – فكل الاجانب لديهم اجنداتهم الخاصة والتي تبقى خاصة وان التقت مع اجندتنا الوطنية مرحليا – لأي سبب كان وان يطبعّوا انفسهم على الولاء للعراق فقط ,لا لقومية معينة ولا لطائفة ولا لحزب .. فالعراق يجب ان يكون هنا اولا ..
وعلى الكتل السياسية ان تضع حدا للمحاصصة وترجمها بحجارة الولاء العراقي النقي الخالي من الشوائب . وأن تحارب الفساد بصدق واخلاص وجدية, وليس عبر التصريحات الزائفة او الوعود الجوفاء ..
لقد بات الوضع المرتبك سياسيا وعمليا يؤثر على الخدمات المقدمة للمواطن الذي يحلم بالامن والامان وبكهرباء مستقرة وببطاقة تموينة تضم كل مفردات الحصة التمونية وعلى سائر مفاصل الخدمات الضرورية المرتبطة بوجود بنى تحتية يمكن الاعتماد عليها في ايصال الخدمات اللازمة والضرورية للمواطن.
لقد بات لزاما علينا تأهيل المنظومة الامنية واختيار قياداتها وعناصرها على اسس عراقية وعلمية صرفة .. لا علاقة لها بالانتماء الطائفي ولا العرقي .. وان يكون ولاء رجل الامن للعراق وليس لحزبه او ولي نعمته او طائفته
ثم نحن لا نريد لمشروعنا السياسي ان يختزل بصراعات شخصية وننسى المواطن العراقي المحروم .. فما قيمة المنصب عندما يصبح عبئا مضافا على كاهل العراقي ؟ وما معنى ان نحكم عندما يكون المواطن مسحوق في بلد الخيرات والانهار والوفرة؟
ليس امامنا من حل لكل مشكلات العراق الاساسية غير الدخول من باب الدستور والاحتكام اليه واحترامه وتطبيق بنوده ومفرداته .. وكذلك اصلاحات المؤسسات
وبصراحة تامة ان مشاكلنا المزمنة والحالية والمستقبلية لاتحل بمؤتمرات فقط وانما بتطبيق بنود الدستور .
علينا ان نعمل بعقلية الدولة ومنهجها ولاندمن على التوافق والمحاصصة على حساب المصلحة العامة .. فالتوافق صيغة القبول بادنى الممكن لتسيير الامور .. بينما الدستور يفسح المجال للاعم والاشمل لمصلحة العراق واهله.
ان انسحاب القوات الامريكية هو عبارة عن فرصتنا الوحيدة للانطلاق نحو بناء عراق تتوزع فيه الادوار بتحمل المسوؤليات وليس عراق تتصارع فيه الارادات للاستحواذ على المناصب والمغانم والمنافع.
حذاري ياساسة العراق من حماية الفساد والمفسدين .. فالفساد في كل اعتباراتي يمثل المشكلة الاكبر التي تعصف بالعراق .. بل واذهب ابعد من ذلك لاقول بان حتى المشكلة السياسية سببها الفساد والتخاصم على المغانم.
اقولها وبمرارة ان الكثير من الكتل منحت الثقة للفساد وحمته بغطاء سياسي لكنني متيقن ان هذه الثقة وهذا الغطاء سيغرق بأهله في حالة اصرارهم عليها ..
لقد دقت ساعة العمل فعلا .. وحان حين الفلاح في العمل .. فهل نحن بقدر المسؤولية؟
* نائب
[email protected]