في خمسينيات وستينيات القرن الماضي ، موكب الخضارة في مدينة الناصرية كان يقرأ له في عشرة عاشوراء الاولى قارئ حسيني نعرفه باللقب فقط ( البحراني ) .
كان يتردي عقالا اسودا وخترة بيضاء ، ولا ندري إن كان من اهل البحرين أو من سكنة مدينة أخرى ، ولكني الصقت وجه الرجل بأمارة البحرين حينها ، ومنذ طفولتي وانا اسمعه واتخيل في عينيه شكل البلد الذي عرفت بعد حين أن البحرين هي في الاصل دلمون السومرية التي تخيلها اجدادنا الجنة الاولى وتحدث عنها خيال الاساطير بدهشة ان يكون هذا المكان ، الاجمل في العالم وان الالهة والبشر الانقياء هم من يسكنوه فقط .
كان ابي يأخذني الى المجلس الذي كان البحريني يقرأ فيه ونجلس قريبا منه . فأسمع منه شذى صوت الحسين في محنته مع جيش أبن سعد ، وكنت في كل مرة اتمنى ان يتحدث في محاضرته عن البلد الذي ينتمي اليه اسمه ، وخصوصا بعد ان قرأت عن المنامة شيئا في استطلاع مصور لمجلة العربي الكويتية ، واحد المعلمين قال عنها :انها مدينة تقع على البحر ، وفيها نخل ، واغلب سكانها بحارة ونوخذة ويستخرجون اللؤلؤ من البحر ويصيدون السمك ولكن من الصعوبة فيها ان تحصل على ماء عذب .
وقتها ادركت أن دلمون انما هي وهم الخيال ، فالجنة ماؤها السلسبيل وانهارها تنبع حتى من تحت اجفان الملائكة ، فأوقفت التفكير برغبتي لزيارة المنامة حين اكبر . حتى عندما اضيئت شوارعها بالنيونات الملونة يوم اعلان استقلالها عن بريطانيا واكتشاف النفط فيها.مات البحراني القارئ الحسيني رحمه الله وبقي السر معه بالنسبة لجلاس مجلسه الحسيني أن كان يعيش في البحرين أو انه لقب توارثه عن اجداده ، ولكني ابقيت البحرين في ذاكرتي كمكان يعيش فيه الغواصون وتضيء في ليله الخليجي محارات اللؤلؤ والمرجان ، وبعض الاساطير المحلية المتداولة والتي تنشر في مخيلة الصبيان الذعر من انه في البحرين هناك مراسيم لزواج الذكور من الذكور ، وفي تلك المراسيم تضرب ايقاعات طبول مجنونة لرجال زنوج اغلبهم من البحارة ومن اصول افريقية ليعلوا ايقاع مدوي تحت شجن اغنية بحرانية شهيرة تقول مقدمتها ( مرَ ضبيٌ سباني ) .
لم تكن البحرين جارة اليفة ومتداخل مع المجتمع الجنوبي العراقي كما دولة الكويت ، وربما علاقات اهلها مع مدن مقدسة مثل النجف وكربلاء هي من يطغي ، ولم اسمع في يوما ما ان عائلة من اهل الناصرية سكنت في المنامة او المحرق ، لكن هناك العشرات من عوائل المدينة من سكنت الكويت ، بسبب ان بيننا وبين الكويت برٌ وعلاقات تاريخية وجغرافية عريقة ، وبيننا وبين البحرين بحر ، لكني كنت ارى بحاراتها مع مراكبهم وهم يغطون نصف اجسادهم بوشاح مثل الازار الصوفي وصدورهم سوداء عارية .يقولون ان اكثر من ثمانين بحراني هم من الطائفة الشيعية . ولا اعرف سبب كثرتهم تلك في البحرين دون امارات الخليج الاخرى ، ربما بسبب قربها من ايران التي بقيت تطالب بها وتضمها اليها كولاية ايرانية .ولكنها عربية ، وحين سألت مرة في صباي عن سبب الكثرة تلك كان جواب المعلم وحسب ما يعتقد أن شيعة جنوب العراق كان يهربون من بطش ولاة بني امية ووبني العباس واقرب بر اليهم ما بعد بحر البصرة هو جزيرة البحرين .ذات يوم دفعني القدر لاكون في المنامة وفي عصر العولمة هذا ، استعدت في شوارعها الانيقة دموع ابي وهو يستمع الى القارئ الحسيني المسمى البحراني ، وتعاملت مع نظرات الهنود الكُثر في اسواقها بشيء من الاصرار انها بلد اتى اليها اجدادي هاربين ليسكنوها أما انتم فلكم دلهي وكلكتا .فجأة سمعت هرجا ومرجا من جمع من الشباب يقولون ان صديقا لهم في الحبس .
أتى جنود …ليقرقوا التاس بالهروات …تعصب احدهم ورمى الشرطة بحجارة ..رموه هم بقنبلة دخان …
ابتعدت وسألت احدهم :هل هذا يحدث كل يوم …؟
نظر اليه وبفرابة : انت من وين …؟
: قلت من العراق ؟
ضحك وقال :يبدوا انك جئت لتتطوع في الشرطة .؟
قلت كلا : انا اديب …
قال :غادر المكان ستحل هنا فوضى اكثر .
غادرت وفي اذني ذكريات نعاء الشيخ البحراني في عاشوراء ايام الناصرية .
ومن بين قنابل الدخان قي سوق منامة رأيت حمامة بيضاء تطير….!
من: naim naime <[email protected]>