همساتُ فكر(114)
صنّف البلاغيون نوعين من التعابير اللغوية و في كلّ لغات العالم خصوصا اللغات الحية, و هما:
التعبير الحقيقي؛ بإستخدام الكلمات و الألفاظ للتعبير عن دلالتها الوضعية العينية.
التعبير المجازي؛ يتجاوز الدلالة الوضعية العينية، إلى فضاآت أخرى مجازية وصفية أشمل و أبعد و أقوى.
و (آلحقيقة) في اللغة، مشتقة من حققت الشيء أحقه، إذا أثبته، فهي فعيل بمعنى مفعول، أو هي مشتقة من حقّ الشيء يحق، إذا ثبت، فهي فعيل بمعنى فاعل، وعلى الاشتقاقين هي المثبتة، أو الثابتة في موضعها، الأصلي(1). و في الاصطلاح, (الحقيقة)؛ هي لفظ يبقى على موضعه, و قيل ما اصطلح الناس على التخاطب به(2).
أمّا المجاز لغة: فهو من جزت الطريق، و جاز الموضع جوازاً أو مجازاً، و جاز به و جاوزه جوازاً، سار فيه و سلكه، و جاوزت الموضع، بمعنى جزته، و سرت فيه و قطعته, بإتفاق معظم المعاجم اللغوية.و المجاز و المجازة الموضع(3).
و في الاصطلاح, (المجاز)؛ ما أفاد معنى غير مصطلح عليه، في الوضع الذي وقع فيه التخاطب، لعلاقة بين الأول و الثاني(4).
و يكشف (عبد القاهر الجرجاني) عن العلاقة بين اللغة و الاصطلاح، في اشتقاق لفظ المجاز فيقول:
(جاز الشيء يجوزه إذا تعداه، و إذا عدل باللفظ عما يوجبه أصل اللغة، وصف بأنّهُ مجاز، على معنى أنّهم جازوا به موضعه الأصليّ، أو جاز هو مكانه الذي وضع فيه أولا)(5).
فكل لفظ دلّ على معناه الذي وضع له في الأصل، فهو المراد بالحقيقة، و كلّ لفظ دلّ على غير معناه الأصلي فهو المراد بالمجاز. و الحقيقة لها موضعها الذي تستعمل فيه، و المجاز له موضعه الذي يستعمل فيه، و كلاهما في موضعه بليغ، و كلاهما في غير موضعه خارج عن البلاغة, و لكن أرباب البلاغة مجمعون على أنّ (المجاز أبلغ و أقوى من الحقيقة في تأدية المعنى)، فعندما نقول:
(لقيت الأسد، و جائني البحر) فقد جعلت الرَّجلَ أسداً و بحراً، بما يحمله من دلالته على الشجاعة و الجّود، لأنّ الشجاعة ملازمة للأسد، و الجّود تابع للبحر، و الدّلالة بلازم الشيء و تابعه، أكْشَفْ لحاله و أبْيَن لظهورهِ، و أقوى تمكّناً في النّفس من غير ما ليس بهذه الصفة)(6).
إن اللغة و ما تتميّز به من جماليات يُمكن توضيفها من خلال (المجاز) لتُعبِّر عن إمكانيّة التواصل بقوة بين البشر بكلّ ما يحملون من أعباء و أفراح و أحزان, و محاولة تطبيق (المجاز) كرؤية لتلك الأمور، أنه يضيق المسافة الإدراكية التي تفصل بين الخالق و المخلوق؛ بين الإنسان و أخيه الإنسان؛ و أن اللغة بوسعها من خلال تلك الفكرة أن تشير إلى الوجود الإلهي المتجاوز و الوجود الإنساني المركب الذي يُردْ إلى عالم المادة, و أن عدم أو ضعف فكرة المجاز في اللغة يمكن أن تشير إلى عدم وجود تلك العلاقة أو وجودها بطريقة إلتحام كامل كوحدة الوجود و الحلولية، و هذه الفكرة يمكن أن تكون مفتاح لتفسير و تحليل بعض السياسات لبعض الحقب التاريخية و المنظمات الدولية كما في الصهيونية و النازية و الوهابية.
و عن الصّورة المجازية الإدراكية، يلجأ الإنسان إلى إستخدام المجاز لزيادة التعبير بلاغةً و قوة و تأثيراً، فقد يكون مجرد زخارف في بعض الأحيان و لكنه في أكثر الأحيان جُزءاً أساسياٌ من التفكير الإنساني، يقوم المجاز بعملية زيادة في نطاق اللغة الإنسانية و يجعلها أكثر مقدرة على التعبير عن الإنساني المركب و اللامحدود عن طريق ربط المجهول بالمعلوم و الإنساني بالطبيعي و المعنوي بالمادي و اللامحدود بالمحدود، أي أن الحركة العامة للمجاز هي ربط علم الشهادة المحسوس بعالم الغيب الغير محسوس حتى يصبح غير المعروف و غير المحسوس أكثر قرُباً منّا نحنُ البشر الذي يعيش في عالم المادة و داخل حدوده، و إن كنا دون الطموح إلى الوصول إلى الحقيقة النهائية و دون السقوط في العدمية المطلقة، فيصبح المجاز اللغوي أداة الإنسان .. للتعبير عن أفكار و رؤى يُمكِن التعبير عنها لغويا بهذه الطريقة.
تُكوّن الصورة المجازية في كلّ أشكال المجاز، حيث أنها تقوم كوسيلة إدراكية لا يمكن للمرء أن يدرك واقعه دونها، و يمكن أيضاً إستخدامها كوسيلة لتمرير التحيزات و فرضِها بشكل خفيّ، فالمجاز يقوم بترتيب تفاصيل الواقع بنقل رؤية معينة.
الحضارة الغربيّة من خلال الرؤية المجازية تختلف عن الرؤية الشرقية, حيث تتكون من صورتان مجازيتان أساسيتان هما:الصورة الألية؛
و الصورة العضوية؛
فالصّورة الألية تذهب إلى أنّ العالم في حركة دائمة, أيّ العالم هنا يشبه الألة، و الصّورة العضوية, هي أنّ العالم يشبه الكائن الحيّ، و الذي يكون في حالة حركة دائمة، يعوِّل النموذج الألي على الفكر اليوناني القديم و الذي إكتسب مركزيّة مع الثورة التجاريّة، و أيضاً في عصر النهضة و العصور المختلفة اللاحقة، أمّا الصّورة المجازيّة العضوية، فقد شغل مكاناً و حيزاً أكثر مركزية في عصر أفلاطون و أرسطو و لونجينوس، و لكنه إكتسب مركزيته في القرن التاسع عشر بشكل أكبر، و قد تُعبِّر أيضا تلك المجازيّة العضويّة عن إزدياد الحلوليّة الكمونيّة و العلمنة.
وصف الحضارة الغربية الحديثة بناء على الرؤية المجازية, هي خليط من (العضوية) و (الألية) أو تاريخ بينهما، و يتمّ التشبيه في ذلك المعنى بأسطورة (بروميثيوس) و التي يراها الكثيرين الصورة المجازية العلمانية الأساسية، فهو يعبر عن رمز الإنسان الذي يتمرّد على القوى الغيبية و الذي يفرض هيمنته عليها و يطور العلم ليهزم الطبيعة، و يصبح بذلك هو ذاته إلهاً مكتفياً بذاته.
و أرى أنّه مع تصاعد معدلات الحلول و الكمون تمّ توليد صورة مجازيّة عضويّة تتكون من صورتين مجازيتين عضويتين معبران عن رؤية الإنسان الغربي, هما:الجسد؛الجنس؛فيرى أن الجنس كصورة مجازية قد حقّق شيوعاً غير عادي في الأونة الأخيرة في العالم الغربي، فيرى أنّ الحلوليّة تترجم نفسها إلى النزعة الجنينية و هي محاولة الإنسحاب من العالم المركب و إدراكه من خلال صور مجازية و مقولات مادية بسيطة إختزالية تفيد معنى الإلتصاق و ذوبان الذات و إختفاء الهوية و الحدود، ثم تستمر عملية إختزالية الجسد بشكل متتابع, تكون الأرض هي أهم عناصر هذا الإختزال متمثلة في القوميات العلمانية التي تنتج بدورها تفسيرات و تطبيقات تتمثل في عدّة أشياء مثل نظرية (داروين) و (النازية) و (الصهيونية) و (الوهابية).
ثم تستمر عملية الإختزال من الجسد إلى النشاط الجنسي ثم إلى أعضاء التذكير و التأنيث، فقد مُنح الجسد و الجنس تدريجياً أسبقية معرفيّة و أخلاقيّة على كلّ شيء، فأصبحا المرجعية الكامنة في المادة فحلّا محل الإله في المنظومات التوحيدية الرّوحيّة، ثم يتم تجديد فكرة مركزية الجسد في فلسفة كثير من الفلاسفة المحدثين مثل (برجسون) و (روسو) و (نيتشة) و أيضاً في فكر (فرويد) و (ماركس)، و في تطوير ذلك الإتجاه أيضاً يُمكن التعبير عن ذلك في أن الجنس أُعطي أسبقية معرفية على كل شيء في الفلسفة الغربية!
و أنّ الجنس قد بدأ أيضاً يحلّ محلّ اللغة، و أنّ تلك الفلسفة المادية تتبناها الفلسفة الغربية و التي ليس لها أصل ربانيّ؛ أصبحت هي المرجعية المادية الكامنة و التي لا تعرف أيّ تجاوز و التي نجحت في تحقيق ثنائية الذات و الموضوع و كلّ الثنائيات لتصل بالإنسان إلى العلم الجنيني الواحدي.
مفكّر كونيّ
للتّواصل؛ عبر(المنتدى الفكري)؛
https://www.facebook.com/AlmontadaAlfikryــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الإيضاح في علوم البلاغة، القزويني، ص:395.
(2) التعريفات: الشريف الجرجاني، ص: 90.
(3) لسان العرب لابن منظور، مادة جوز.
(4) الطراز: ليحيى العلوي – ص 1/64.
(5) أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني:ص:342.
(6) الطراز: ليحيى العلوي, ص:1/209).