18 ديسمبر، 2024 9:58 م

يصدف، كثيراً، أن نلتقي أحد أصدقاء الطفولة، أو زميلاً من أيام الدراسة، أو شريك قصعة وخندق تقاسمنا معه “صمونة” الجيش اليابسة في أثناء حروب، ذهبنا إليها تفضيلاً للموت برصاص الآخرين على الفناء برصاص “الرفاق”. وبرغم ظلام وقسوة تلك الأعوام التي طبعت على أجسادنا وأرواحنا ندوباً عميقة وجراحاً غائرة لا تندمل، فإننا نستذكرها بحنين وشوق، متمنين بلهفة لو إنها تعود. فتلك كانت أيام.. خير!!
نروي بدقّة عجيبة تفاصيل محطات البؤس والشقاء والفقر والألم، فتتحول أقسى المواقف وأصعبها ـ بسحر الاستذكارـ  إلى سعادة لا توصف وأمل مستحيل لنحياها مرّة في إثر مرّة، من دون أن ننسى الدعاء لها بالرحمة، حتى ليخيل اليّ ـ أحيانا ـ أن أغلبنا لا يحيا حاضره بل يعيش على مخزونه المترع من الماضي. الأحياء من حولنا لا يثيرون اهتمامنا وحبنا ورعايتنا إلاّ حين يرحلون عنا فنبكيهم دماً ويقتلنا الشوق اليهم!!
لعل ذلك ما يفسّر سلبيّتنا ولا مبالاتنا بما يجري حولنا. نقف ساعات طويلة في زحامات الشوارع من دون غضب وتبرّم على ساعات العمر التي تذهب سدىً.. نترك الآخرين يشكّلون حاضرنا ومستقبل الوطن من دون أن نبادر ـ مرّة ـ بإزاحة حجر يعترض الدرب إلى الغد.. ندفن أعزتنا ونقيم مجالس العزاء بعد كلّ موت يزرعه القتلة في طرقاتنا، ونوثّق بأجهزة التسجيل “الختمة” كي نبكي، كلّ يوم، فقيداً ما شبعنا من رؤيته.. نتسابق الى “فواتح” الأقربين والأبعدين، ونتلكأ عن حضور الأعراس، فالفواتح فرصةٌ للعيش في ماض تولّى، وشَينٌ نعرفه خير من زين نجهله، والأعراس حياة تومئ بمستقبل نخافه ونخشاه!!
منذ أن تشكّلت الدولة العراقية الحديثة ونحن نلعن كلّ سلطة تحكمنا من دون أن نلتمس في أنفسنا امكانية التغيير.. في المَلكيّة جرفنا الحنين لأيام (العصملي)، وفي الجمهورية بكيناً على الملك المغدور، وتحسّرنا على طيبة وتسامح (أبو اذان) في انقلاب شباط، وأقام بعضنا مزاراً لطاغية العراق الأكبر بعد التغيير، وشكا آخرون رحيل الاحتلال.. في جلّ محطات تاريخنا لم نبتكر لحاضرنا ومستقبلنا حتى عَلَمَاً ونشيداً وطنياً يمكننا أن نفخر بهما كما فعلتْ أمم وشعوب أخرى.. ما زلنا منذ 2003 ننتظر من يبتدع لنا عَلَماً ونشيداً يفرضهما علينا لأن مشرّعينا لم يتفقوا إلاّ على ترحيل البتِّ فيهما كما رَحّلوا كلّ مشروع قانون تمسُّ الحاجةُ إليه. قد نضطر لنفعل ما قام به الفنان التشكيلي حافظ الدروبي حين لم يجد نشيداً وطنياً يقرأه وفد الكشافة أمام هتلر في ثلاثينيات القرن الماضي فقرأ بصوت عال أمام المنصة:
بلي يا بلبلول.. ما شفت عصفور، وجموع الكشافة والحاضرين يرددون معه بحماسة… بلي، بلي. ويبدو أن هذا (النشيد) هو خير مخرج لمشكلتنا المستعصية فيمكن أن تتفق عليه جموع العراقيين، لأنه ينتمي إلى أيام الخير أولاً ونحفظه جميعاً عن ظهر قلب ثانياً ولا يمكن لأحد أن يعترض عليه طائفياً وعرقياً ثالثاً!!

[email protected]