20 ديسمبر، 2024 10:04 ص

قراءة في المجموعة الشعرية ( مواقف الالف ) للشاعر اديب كمال الدين

قراءة في المجموعة الشعرية ( مواقف الالف ) للشاعر اديب كمال الدين

سنارة الروح والصيد الذهني
مدخل
ليس من باب الهروب مما يقع على الارض من انحراف , ولا هي غيبوبة مؤقتة غير انها عملية  تنقيب  واكتشاف لرؤى للقبض على زمن منفلت من عقال الحقيقة الكبرى , هي لحظة من التجلي حيث ينعقد الزمن على نفسه ليستكمل دورته وينساب انسيابا رقراقا من دون أن يعتريه تبدد آني. يعتمد اديب كمال الدين في هذه المجموعة لغة  تستند على علاقات جديدة ومتغيرة تمنحنا فرصة التأمل فهي اشبه بالمتوالية التي تشكل بنية اسلوبية كلية تقوم بعملية تواشج  وتواصل بين الماضي والحاضر عبر آصرة روحية .
تأصيل نظري
لماذا الالف من دون غيره من الحروف متربعا على ثريا المجموعة ؟, وهل يختلف الالف عن غيره من الحروف ؟. لعل الاجابة على هذه الاسئلة بنحو جلي تقع في دائرة التفسير الصوفي اكثر مما تقع في غيرها , لهذا سنعتمد على هذه التفسيرات الصوفية وصولا لاكتناه حقيقة الامر .
1- سمي الالف الفا لانه يألف الحلروف كلها
2- هو اكتساب الفضائل ومحو الرذائل
3- هو ذات واحدة لا يصح فيها اتصال شيء من الحروف اذا وقعت اولا في الخط
4- الالف هي الصراط المستقيم ابن عربي
5- لا يظهر شيء من الحرف الا بالالف صدر الدين الفتوى
6- الالف عبارة عن اختراع الاول , والعرش العظيم  , والعقل النوراني  والجبروت الاعلى
7- هو سر الحقيقة وحضرة القدس وسدرة المنتهى
8- الالف ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق لكن العامة سمته حرفا ابن عربي
9- هو اول حرف خاطب به الله تعالى عباده في اول الوجود بقوله : ألست بربكم
10- الالف سار بنفسه في جميع الحروف عبد الكريم الجيلي
11- لولا الالف ما وقع التأليف , فكل من الالفة والتأليف مشتق من الالف
هذه بضعة من الاقوال في الالف , واذ نخرج من عباءة الالف لندخل في عالم المجموعة فأننا نستشف مواقف صوفية واضحة ينصهر فيها الروحي بالذهني وصولا لاكتناه الحقيقة العظمى .
سنعتمد في قراءتنا لهذه المجموعة على بعض المتقابلات لنحقق بواسطتها اقترابا قد يساعدنا على مسك المنظومات الرئيسة في هذا العمل العمل المتداخل ما بين  الوله الروحي وجدل الحاضر

1 –  الاضداد المتقابلة
أ – الحضور والغياب
ب- الاتصال والانفصال
ج- عالم الغيب وعالم الشهادة
د- المغطى والمكشوف

 2- الفضاءات
أ – فضاء الوجود
ب – فضاء المنفى
ج – فضاء التجلي
د – الفضاء الزمني

1- الاضداد المتقابلة

أ – الحضور والغياب

يشكل الحضور والغياب في التجربة الصوفية بعدا مهما , اذ انه يحلق في فضاءات بعيدة فالحضور عندهم يقابل الغيبة التي  هي  ( غيبة القلب عن علم ما يجري من احوال الخلق لشغل الحس بما ورد عليه )1 . ولعل بنية التلازم ما بين هذين المفصلين ضرورية في الشعر , اذ تكسبانه دلالات وازاحات كبيرة . فالحضور بعد عياني ملموس يتحقق بواسطته ملء المكان واشغال الزمن بينما يشكل الغياب بعدا رمزيا ذا دلالات مرمزة وتخييلية يمكن بواسطتها ترقيع الكوات الروحية  التي يسببها ذلك الغياب وان اتخذ في البعد الصوفي وسيلة للاتحاد بما هو غير موجود عيانيا , او طريقا اليه .
اذن الغياب والحضور لا يقف عند امة دون اخرى اذ ان النقد الحديث قد تنبه لهذا المفصل وعضده باراء كثيرة كقول تودروف على سبيل المثال لا الحصر : ان علاقات الغياب علاقات المعنى والترميز وعلاقات الحضور هي العلاقات الشكلية او البناء .
ان الحضور  – هنا – في المجموعة  , حضور اتصال مع الملأ الاعلى بنحو مندمج مع الغياب الا ان كثافته الروحية جلية في الحضور , فتحقق الحضور متجسد في المخاطبة والاضغاء والتمثل المجسد عبر مواقف , بمعنى ان ذلك الحضور المجسد على هيأة موقف هو اقصى الغايات التي يروم فيها الشاعر المسك بمقتربات الوصول وان كان روحيا , فهو متحقق او سيتحقق بواسطة انعتاق الروح من عقال ما يكبلها وادراك ما لم يدرك مسبقا من كنه ذلك الانعتاق وصولا الى عين اليقين

فالليل طويل والراقصون كثر
وهم اهل الدنيا وانت من اهلي

ان الليل هنا هو الغطاء الثقيل الي يحجب الرؤية  ويقف عائقا امام تجلي الحقيقة , هو الحياة بكل ما تحمل من ظلمة التصرف الخاطىء  , انه  المغريات التي تجعل من الانسان لعبة بين يدي الاخرين ممن انشغلوا بقشور الدنيا . لاحظ عملي الفصل الحاصلة بين اهل الدنيا والواقف في الموقف , انه يلبس حلة الخلود المتحققة من ذلك الحضور , فحضوره بين يدي المطلق هو الذي يحقق له عملية التوليد , توليد وجود جديد بع عقم طويل يتمثل في ظاهر الغياب والبعد عن الذات العليا . انها بشارة الخير الاتي المتحقق بشطب عامل الجهل بتلك الذات وما يتحقق من اسيلاد روحي مؤطر بالطمأنينة والهدوء حين الاتصال بها .

ثم انتبه الى دمعي وقال :
ستصعد يا عبدي درجا
لكل درجة بالف
وكل مائة الف بكف
وستختار ايها اقرب
لكن الوقت ليس وقت تأمل
فأقرا واصعد
وفي كل صعود
قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء
وتنزع الملك ممن تشاء
 هوالى الاعلى ليس بما يشير الى المكان لكن بما يشير الى المنزلة الروحية , فعملية الصعود ليس مجهودا فرديا بيد انه تتحقق بفعل قوة خارجية , بتعجيل صفري يساعد صاحبه للارتقاء في سلم الوجود الغيبي . انه الصعود الذي يجوهر الانسان ويطلق اسار روحه من اصفاد الخطيئة . ان حزن الشاعر الانسان موجود تمثله الدمعة بيد انه يتجاوزها بالصعود الواثق المعزز بالايمان .

2- الاتصال والانفصال

تتعزز ثيمة الاتصال والانفصال في هذه المجموعة عبر مجموعة من الانثيلات الروحية , اذ ان استجلاء الماضي بكل محمولاته جزء من عملية تصور تطال الواقع وتدفع بصاحبها الى تصحيح الموقف المستقبلي في ضوء ما يحصل في الماضي . اذن بنية استدعاء ما مضى وكشف ما سيكون هما لب عمليتي الانفصال والاتصال , فالماضي هو عملية انفصال عن المطلق في زمن محدد بكل محمولاته النفسية ,   والاتصال هو هو الوقوف والاستماع ثم الامتثال لرسالة المرسل بواسطو مقول القول وان لم تتوضح صورته بنحو جلي في النصوص كون عملية الانعتاق لا تتحقق الا بهذين العاملين ( الانعتاق الكامل من كل ما يفصل الصوفي والمطلق الذي يبحث عنه ويتجه اليه ) ادونيس الصوفية والسوريالية ص 108 . لاحظ كيف ان المعاني- هنا – تدخل في اطار الصورة ولا تفارقها . فتداخل الانفصال والاتصال يفرض علينا عملية فصل صعبةبواسطة ايجاز الشامل واشمال الموجز ,  وما يظهر على السطح لا يتبدى في العمق , وما يصعد من العمق لا تراه عين الناظر البسيط , انه سر التجاوز على القوانين المعروفة والا كيف يغرق البحر في انسان الا بخارق للنواميس المتعارف عليها . هذه الصورة ( لا يمكن ان يكون لها وجود غير المعرفة التي نؤلفها , أي المعرفة التي نحقق في الصورة , التكامل الالهي ) 2

ج – عالم الغيب والشهادة

لعل من وسائل الشعر الرئيسة ( الكشف عن عالم يظل بحاجة الى الكشف) بحسب رينيه شار . اذن في عالم الغيب ثمة مرموزات ليست حسية , بمعنى ان عملية الاندماج مع ما هو غيبي تتجلى في الصلة بين الذات المطلقو والاخر , والامر – هنا – يتجاوز ما هو عقلي سطحي ليكشف عن طريق الحدس اشياء اكبر وامور اكثر باطنية . اذن العملية آنفا تخرج من عباءة الاشعور ثم تلونه بما هو شعوري , أي وضعه في اطاره الخارجي الرمزي الذي يستحقه وبهذا يحتل الرمز مكانا بديلا عن الاصل الذي يرمز اليه بعد ان تتحق الصلة الروحية الكاملة على هيأة اندماج لا يمكن فك تشابكه

 

لن تغرق بعد الان
فافرح لاني جعلت الماء
يتبع خطواتك انت
ويمشي باشارة قلبك انت
قلبك الذي هو قلب الماء

 

ان اخط الممتد بين القلب وبين الماء هو خط الحياة الابدية التي لا يتوقف فيها القلب عن نبضه  . ان الماء هو البؤرة الطقوسية الرئيسة في الحياتين وهو المعادل الموضوعي للذات العليا في وهب الحياة وادامتها لقد خلقنا كل شيء من الماء . ان هذه السطور تعيد ترتيب الاشياء باتجاه هيمنة العناصر على الرئيسة على المركبات الناتجة منها . ان الماء هو المخلص اذ يتحقق التطهير بواسطته لذلك كانت المقابلة منطقيو وذكية والاحلال اذكى اذ قلبك هو قلب الماء .

المغطى والمكشوف

يحاول الشاعر في هذه المجموعة ان يكون الوسيط في نقل مقول القول بيد انه يدفع القارىء لاستكناه مدلولاتها عبر العلاقة بينها وبين منابتها الاولى بواسطة الاستجلاء الروحي المعرفي . هذه العملية الايحائية مرماها اقامة علاقة بين ما يرد في النصوص وما هو موجود في نصوص قدسية + رؤى , بمعنى انه لا يمكن ان نتلقى ما يرد على لسان الشاعر من دون الرجوع والركون الى المرجعية او النبع الاول الذي استقيت منه . فعمليات التمديد extensions  التي يوردها الشاعر على لسان الذات العليا وان اختلفت عن المصدر بنحو او بآخر الا انها تحاول كشف المغطى وتغطية المكشوف بواسطة عمليات الايحاء  او الايماء التي لها مقاصد مختلفة , وهذا ما يجعلنا نكتشف عملية التكثيف والتركيز في الجمل الشعرية حتى لتبدو لنا سهلة ومعروفة. ان عملي الاسقاط التي يمارسها الشاعر بابداع متميز ما هي الا التعبير الاقرب لتصوراته الحياتية بعد عناق طويل مع المكون الاول , فالمواقف الواردة في المجموعة لا تقف عند حدود المعطيات الموجودة فيما هو مقدس بل انه يضفي عليها مترشحات اليومي وافرازاته , لهذا تبدو التفريعاتمتداخلة ومتجسدة على هياة افتراضات مبطنة. لقد تمكن الشاعر من ان يجعل القصائد وحدة بنيوية متفاعلة في احسن صورها

اوقفني في موقف الكلام
وقال : انك تتكلم بكلام غريب
فلا تفهم ولا يستجاب لك
كلامك الغريب لا يفهمه احد سواي

ان دلالة النص الاصلي واضحة – هنا – لان المسالة الاساس التي تنبي عليها الغلائقية الروحية تكمن في الكلام المرسل الذي يعد الاثر غير المرئي في الوصول الى الحقيقة .

2-الفضاءات
أ‌- فضاء الوجود

يحاول الشاعر اديب كمال الدين في مجموعاته الشعرية ان يكون نزوعها نزوعا انسانيا لتحقيق افق ارحب للشعر ممزوج بادراك استيطيقي غير فيزياوي , بمعنى انه يحاول كسر الطوق المادي لتجلياته الروحية , انه يحلق عاليا بجسده وروحه بحثا عن اللانهائي بواسطة استكشاف غير المستكشف ف ( الشيء الموعود الذي لا يناله المرء هو اليقين او المعرفة الحقيقة التي تقع خارج نطاق المعتاد ) وليم راي المعنى الادبي ص 178 . اذن فضاء الوجود فضاء زمكتني تتشكل فيه ماهية الكلمات لان الوجود اظهر من كل ظاهر , واخفى من كل خفي ابو البركات البغدادي . انه وجود الذات التي تقوم بعملية استشعار الوجود بواسطة فعالياتها ووجودها وما يصدر عن ذلك الوجود

 

اوقفني في موقف الدائرة
وقال : هذا كتابك يا عبدي
كتاب السين عن الدائرة .
دائرة محكمة .
دائرة تبدأ من عرشي
ثم تمضي الى شمسي ونجومي
ثم الى قمري وارضي

ان الدائرة – هنا – ذات بعد تكافلي لأنها بالنتيجة ستؤدي الى الاكتمال والكمال وتتحول الى صورة كتاب  يشبه الدائرة من حيث الاحكام ز لاحظ ان نمو الدائرة نمو يتسع في نسغ نازل لتكتمل ابعاده في الذهن  , فيبدأ بالعلوي المتخيل وينتهي بالارضي المحسوس والمعلوم
فضاء المنفى
قد يكون المنفى هو الحياة ’ انه من طينتها , لا نعيش فيه بل وراءه , وهو في التجربة العملية  لهذه المجموعة  يغوص في فائض الرؤيا , بمعنى فحص العالم من حولنا بنظرة واعية تستجلي المابعدية. ان غاية اللغة هنا  الادراك غير الرتبط بانفعالية الرؤية بل بانجذابها  نحو شغفها الحقيقي وفحص العالم بادوات جديدة . انها نقلة نوعية باتجاه صيرورة اخرى وفحص اخر لما حولنا بواسطة مجموعة من الموحيات الروحية المستندة الى افق الحقيقة الكبرى

وقال : الغربة تبدأ من الروح
فحذار من غربة الروح يا عبدي
ثم تنتقل الى القلب
فحذار من غربة القلب
ثم اللسان
ثم الى الاصابع
ثم الى الجسد

ان التوكيد على الغربة الروحية تكشف لنا ان فضاء المنفى يبدأ من الداخل ثم تمتد افقيا وعموديا . هذه المفردات الداخلية ينبغي ان تكسر طوقها الذي هو منفاها , تفر من نير قيودها باتجاه الافق الارحب ثم تعرج الى سمائها الؤضاءة للالتجام بالمجد الاعلى

ج – فضاء التجلي

التجلي – هنا – هو الواسطة بين الله وعبده اذ ان المتجلي ينشرح صدره بشيء مما انعم الله به عليه . اذن التجلي لا يعني الظهور بيد انه الاعتراف الاسمى بالله وكيفية انبعاث سماته بواسطة وريثه على الارض . انه شعور يزيد من محبة الله والقرب منه والانكشاف له واليه وكلما قوي هذا الشعور رقت النفس الى مراق عظيمة بنفح الهي وهاج

الا يكفيك ان يكون قلبك
هو قلب السؤال :
بابه الحمد
وعلامته ان لا شريك  لي
ونبضه دعاء وجواب

ان الهدف الاساس من الربط بين القلب  وبين السؤال يكمن في استنبات رؤية جديدة خاصة بالادراك وكنهه  لان السؤال هو لب الوجود ولب الايمان في الوقت نفسه . هذا التواشج اعطى صورة جديدة للتصديق  تبدأ من الداخل القلب ولا تنتهي بالخارج السؤال الذي يحقق مبدأ القبول الموصل الى التحقق القطعي .

د – الفضاء الزمني
حين يصبح الزمن صفريا , ويمتزج الكلي بالجزئي يتحول الرائي الى انسان غير اعتيادي , لهذا قد تنفلب المعادلات امامنا بحكم تبادل الادوار , اذ تتخذ اللغة لباسا غير الذي الفناه  , فالاشياء تاخذ افقا  غير الافق المتوقع من خلال اللغة الايحائية ( بمجرد ما يتحول الواقع الى كلام , يضع مصيره مصيره الجمالي بين يدي اللغة ) 3
اذن الزمن يمثل مفصل تغير لكنه مقدس , فالذات الشاعرة الرائية هي التي تطل عبر الزمن الحالي الى زمن المستقبل وتستشرفه روحيا منبثقا من ذات تتوق الى المطلق بحثا عن يقين آت . ان الزمن – هنا –  جوهري لانه غير زائل في المستقبل

اوقفني في موقف الاين
وقال : الى اين ستاخذك الاين :
الى قبر تسعى اليه
ام الى قبر يسعى بك ؟
اما من اين ابصرت بها
وابصرت بك
لتخفف عنك غلواء الظلمة

ان مضاعفة الاستفهام دليل على التأسي على ما وصل اليه الانسان وهو يدور في مدارات لا نهاية لها وهي من ثم تشير الى خيبة ذلك الانسان في مسعاه نصيل كل شيء وهذ ما يبين واضحا في التساؤل المحمول  في الجملة الثانية الذ يعد رد فعل واضح على الضياع الذي تضرب سواحله بني الانسان  في زمن لا يعرف كنهه ولا مداه .

الاحالات
1- شريف الجرجاني التعريفات مكتبة لبنان ص288
2- الصوفية والسوريالية ادونيس ص 108
3- جان كوهن بنية اللغة الشعرية ترجمة محمد الولي دار توبقال 1986 ص 37

أحدث المقالات

أحدث المقالات