الكتاب في الاصل دراسة نقدية لسياسة امريكا الخارجية عبر نقد الايديولوجية التي صاغتها النخب الحاكمة وتطورات تلك الايديولوجية مع الزمن مستعرضة لهذا الغرض تطورات كل حالة عينية من حالات التدخل الامريكي المسلح والتخريب في بلدان العالم الثالث ضد ثورات التحرر الوطني والاتجاهات الاستقلالية فيها.
في السنوات الاخيرة.. ونتيجة ضعف الاقتصاد الامريكي، قويت منافسة البضائع اليابانية والاوربية للبضائع الامريكية بشكل كبير، بحيث ادت الى العجز التجاري الامريكي وازمة الدولار وظهر للسطح صراع عنيف حول الاسواق بين الدول الرأسمالية.
ولا شك ان امريكا ستستخدم في هذا الصراع وجودها العسكري واستثماراتها الخارجية لمحاولة فرض شروط ملائمة لها على حساب حليفاتها وابقاء اسواق العالم مفتوحة لبضائعها هي بشكل اكثر من غيرها.
الجانب الاهم بالنسبة لنا في كتاب ريتشارد بارنت، هو متابعة احداث التدخل العسكري والتخريب الامريكي ذاتها، والطريقة التي يصاغ بها الموقف الامريكي المحدد تجاه حالة محددة. كيف تطرح الاراء داخل الحكومة الامريكية، وماذا ينعكس منها في الصحافة.. والواقع ان الكتاب يقدم مادة دسمة لمعرفة آلية صياغة المواقف الامريكية.. فقد اشار الكاتب الى ان السياسات والمواقف الامريكية تبرز اولا بشكل عام داخل الحكومة ذاتها، اي داخل السلطة التنفيذية مباشرة وتؤثر عليها مباشرة، بالاضافة لتأثيراتها على الكونغرس واجهزة الاعلام والتي قد يستغرق تعبئتها وقتاً ما لتأييد الصيغ المطروحة. وتساهم الحكومة ذاتها بهذه التعبئة وتلعب فيها دوراً رئيسيا عبر اجتماعات المسؤولين بزعماء الكونغرس واصحاب الصحف ومحطات التلفزيون والاذاعة ومؤسسات الابحاث التي تحولها الحكومة وعبر الحملات الخطابية والمؤتمرات الصحفية..الخ لخلق الجو المناسب لدى الرأي العام.
وبالطبع –يقول المؤلف- تبرز هنا تناقضات المصالح الرأسمالية بشكل جماعات معارضة وجماعات ضغط في الكونغرس والصحافة، كما تبرز هنا وهناك وبدون تأثير كبير الاتجاهات الليبرالية والاحتكارية التخريبية والمصلحة الانانية.. وهكذا يمكن التعرف على الاتجاهات المستجدة في السياسة الامريكية من متابعة الخط العام للشخصيات المتنفذة ووسائل الاعلام الرئيسية والخلافات التي تظهر ومحاولة الاستنتاج من كل ذلك- هل ستتبلور السياسات سريعا ام ستتعثر؟ وهل يحتمل ان تقدم الحكومة الامريكية على تنفيذ سياستها برغم عدم استعداد الرأي العام لها واخذ الموقف الدولي بعين الاعتبار؟!!
لقد تطورت داخل الحكومة الامريكية.. بعد ادخالها منذ ولاية كندي خصوصاً –العقول الالكترونية ومشاركة مؤسسات البحوث والدراسات واساليب وضع عدة خيارات او عدة صيغ للسياسة الامريكية تجاه وضع معين كمنطقة الخليج العربي مثلاً.. صيغ متكاملة بشروطها الدولية وتقديرات عواقبها المختلفة، بحيث يمكن للرئيس الامريكي تبني احداها او استبدال واحدة باخرى حسب تغيير الظروف بسرعة.
ان هذه الصيغ – يشير المؤلف- تقع كلها داخل اطار الاستراتيجية الامبريالية الامريكية لقمع الثورات ومكافحة حركات التحرر، وتتبعها بالنسبة للحكومات الوطنية هام جدا لانها –اي الصيغ الامريكية- قد تقرر الفرق مثلاً بين تمسك امريكا بنظام رجعي في بلد وبين اسناد انقلاب برجوازي في طريق النضوج هنا لقطع الطريق على التقدم اللاحق للثورة عبر تحديث “تطوير البناء الهيكلي، تقوية اجهزة القمع، دعم القوى البرجوازية الناشئة، للبلد بالمساعدات الامريكية. وكل من هذين الاتجاهين –كمثال- له نتائج اجتماعية وسياسية في ذلك البلد، يمكن –اذا كانت الحركة الثورية واعية لها- توجيهها لافساد الخطة الامريكية، وهذه الخيارات يجري وضعها في كل من وزارتي الدفاع والخارجية وفي البيت الابيض من قبل لجان عمل يترأسها مستشاروا الرئيس الامريكي او مساعد وزير الخارجية.
اذن، فمن الخطأ تصور ان لدى الامبريالية الامريكية مشروعاً واحداً وجيداً لمواجهة الحكومات الوطنية بل هناك اهداف ثابتة ومعها عدة مشاريع قد تكون متباينة ومطاطية الى اقصى الحدود. وخطورة هذه السياسات تكمن في ان تجد الحكومات الوطنية نفسها محصورة داخل مجموعة من الخيارات التي تؤدي كلها لخدمة مصالح الامبريالية الامريكية اذا لم يرتفع وعيها ولم تلتزم ببرنامج ثابت خاص وقدرة على توقع الخطوات المقابلة ومنع السياسة الامريكية من تحويل الاوضاع لصالحها، اي منعها من استعادة المبادرة بسرعة بعد الصدمة الاولى، حين تؤخذ بغتة ثم تنتقل الى استعادة التوازن ثم الى الهجوم.
ان لجوء اغلب الادارات الامريكية في سياساتها الخارجية لتطوير هذه الخيارات، هو في الواقع تعبير عن ضعفها ووضعها الدفاعي الحالي في العالم، حيث لم تعد قادرة على توجيه الاحداث والسيطرة عليها كما تبغي. اذ برزت قوى اقليمية ومحلية ثورية او قومية استقلالية فرضت نفسها فرضا، بحيث اصبحت احتمالات تطور الاحداث كثيرة التعدد والتعقيد. لكن السياسة الامريكية –يقول المؤلف- نأمل ان تصبح بمقدورها بعد الرد على التحدي المؤقت واستعادة المبادرة – ان تنتقل الى تثبيت وضع شبه دائم والعودة الى توجيه الاحداث وفق تصورها للعالم.
ويرتبط بظاهرة الخيارات الامريكية –يؤكد المؤلف- امر اخر يبرز الان بوضوح هو تعقد العلاقات مع عملاء امريكا وحلفائها في كل انحاء العالم. اذ ان التوتر والخلافات بين طرفي العلاقة الامبريالية قد ازداد مع ازدياد استعداد امريكا للتخلي عن الالتزامات القديمة والتعامل مع القوى الجديدة للحفاظ على المصالح الامريكية وفق مبدأ “خط الدفاع الجديد” وهذا المبدأ –يوضح المؤلف- يجب ان لا يفهم على الاطلاق بكونه اعترافاً من قبل النخب الحاكمة في امريكا بمسيرة التاريخ وانتصار الشعوب واستعدادها للانسحاب والتخلي عن مركز البوليس الدولي والهيمنة على العالم المستقل، وانما هي بالنسبة لها فترة انتقالية الى عهد جديد يضمن اهم المواقع السابقة لامريكا عبر تشكيلات واتفاقات عالمية جديدة.
انها مرحلة انتقالية –يقول المؤلف- تحاول امريكا فيها كسب الوقت عبر هدنات مؤقتة مع كل القوى العالمية المعادية لسياستها وعبر تسويات مؤقتة للمشاكل الملتهبة في العالم الثالث، ريثما يستعيد الاقتصاد
الامريكي حيويته من جديد اولا وتعاود امريكا تنسيق جبهة الرأسمالية العالمية تحت قيادتها بشكل جديد ملائم للمرحلة ثانياً، ومن ثم العودة الى لعب دور هجومي اوسع على نطاق العالم.
الجانب الثاني الاكثر اهمية في كتاب بارنت، هو تناوله لفكرة “البوليس الدولي” في السياسة الخارجية الامريكية، فيقول المؤلف: بانتهاء الحرب العالمية الثانية بدأت امريكا بتوضيح المفهوم الرسمي للمسؤوليات البوليسية في عالم ما بعد الحرب. وقد اعتبرت الادارات الامريكية المتعاقبة ان دور امريكا في العالم يعتمد على قوتها وبالاساس قوتها العسكرية التي هي الضمان الاساسي للسلام حسب العقل الاداري الامريكي.
وقد اصبحت امريكا تعلن بصراحة متزايدة ان لها وحدها حق تقرير ما اذا كان الصراع المندلع في اي بقعة في العالم يشكل خطرا على امنها القومي او على الامن العالمي، وماذا يجب عمله ازاءه. وان مسؤولية فرض “السلام” لا يمكن ان تعهد الا الى تلك الدول التي تملك ما يكفي من الموارد والارادة لضمان ان لا يخرق المناهضون لسياساتها العدوانية قواعد القانون الدولي حسب مفهومها الامبريالي التوسعي. فقد اكد على ذلك تصريح جورج بول عندما كان مسؤولاً في وزارة الخارجية. “ان مسؤولية كهذه لا يمكن النهوض بها في عالم اليوم الا من قبل دولة كأمريكا متحكمة بموارد تلائم متطلبات القيادة في القرن العشرين”.
وبما ان المجتمع الدولي –يؤكد المؤلف- لم يمنح امريكا صلاحية حفظ الامن في العالم باي شكل كان بل ان ميثاق الامم المتحدة قد خول هذه الصلاحية بالاساس الى مجلس الامن الدولي فان القائمين على الامن القومي في امريكا –الكلام ما زال للمؤلف- يؤكدون بان الخلافات العميقة في الامم المتحدة تجمد وضع هذه المنظمة، وان ذلك يحتم على امريكا التصرف على انفراد.
ينطلق ميثاق الامم المتحدة من مبدأ ان الحفاظ على السلم وضمان الامن القومي مسألة يحددها القرار الجماعي فالمجتمع الدولي يفترض فيه ان يقرر الاجراءات الضرورية لمواجهة الاخطار على السلم. وقد وضع صانعو الميثاق بشيء من الواقعية، المسؤوليات الرئيسية العامة في ايدي الدول الكبرى التي منحت مقاعد دائمة في مجلس الامن، لكن رغم التزام امريكا الخطابي بالقرارات الجماعية، اصبحت تتخذ القرارات الهامة بشكل منفرد لكون العناصر الاجرامية الهدامة في السياسة العالمية “تطلق في الخطاب الايديولوجي الامريكي على الحكومات الوطنية” هي التي تمنع اقامة نظام جماعي كفوء.
بينما بالمقابل، ورغم كل الامال الخطابية التي يعرب عنها مسؤولو الادارات الامريكية امام الامم المتحدة عن الامن الجماعي والمسؤوليات المشتركة، فانهم عند عودتهم الى مكاتبهم لا يعتبرون ثمة بديلاً للعلاقات الدولية غير النموذج الامبراطوري الاستحواذي . وليس ذلك مستغرباً. فمدير الامن القومي يخدم المصالح القومية كما يراها العسكريون والشركات الكبرى والمزارعون والنقابات ممثلين برجال الكونغرس وضغوطاتهم والتي لا علاقة لها بمفاهيم مجردة كالمجتمع الدولي او اهدافا ايثارية كازالة التمايز بين الامم المتقدمة والامم المتخلفة. انه حر في ان يفكر في باقامة نظام امن عالمي شامل مادام لا يؤثر على صلاحيات هيئة الاركان المشتركة في تقرير توزيع القوات ونوعية الاسلحة المستخدمة وحتى تلك التي يتم استخدامها. وهو يتلقى التشجيع لوضع برامج
للعون الخارجي بشرط ان تفيد المؤسسات الامريكية منها بشكل كاف وبحيث يقتنع الكونغرس بان امريكا قد تلقت من ورائها ما يقابلها من النفوذ والامتيازات او الولاء السياسي.
لقد ادت سياسة الامن القومي الامريكية ــ الكلام للمؤلف ــ الى اضعاف جدي لامريكا من عدة جوانب.. فتحويل الاموال من الاقتصاد الداخلي الى العمليات التخريبية الخارجية قد جعل من المستحيل مواجهة ازمات الصحة والتغذية والاسكان والضمان الاجتماعي وتلوث البيئة.. وأدى الفشل في حل المشاكل الداخلية التي تمزق امريكا الى فقدان الامريكيين للطمأنينة بدون ان تجلب لهم السياسة الخارجية اية حماية اضافية.
* الكتاب
Richard j . Barnet- Intervention and Revolution, the United states in the Third world, World Publishing, New York, 1968.
[email protected]