لم يكن المستشرق الفرنسي جاك بيرك ( 1950 ــــ 1995 ) مستشرقاً من صنف آخر، الا انه عُرفَ كيف يتخلص من الاستشراق التقليدي بكل مشتقاته المثالية والتجريدية وميوله الملحاحة الى تسييد بعد الماضي الكلاسيكي ومغارات القارة القارة الدينية من خلال موسوعية نصية احادية تستقبل الثابت وتلغي المتحول.
ففي مجال التجديد الموضوعاتي والمناهجي في الدراسات الاستشراقية يمكن اعتبار بيرك رائداً ومؤسساً معاً تمكن من ان يحدث حسب تعليق المستشرق هاملتون جب تغييراً في المنحنى والاتجاه، اذ انه دفع بالاستشراق كعلم وخطاب ال استيعاب بُعد الميدانية وبطريقة اوسع واعمق مما فعله مجايليه، ثم الى تجريب مناهج العلوم الانسانية الأكثر اجرائية وتقدماً. وقد كان بيرك مهيأ اكثر من سواه للتكفل بهاتين المهمتين، نظراً من جهة لمزاولته مناصب ادارية وعلمية، ونظراً من جهة اخرى لحساسيته الكبرى، بمعنى التاريخ وانجذابه نحو التبدلات والتغييرات التي تفرض ابراز الاهتمام بالحاضر من اجل فهم الماضي واستشراف المستقبل.
لقد تهيأ له وهو يسير في اتجاهه المعاكس، ان يتفانى في معرفة الانسان بالمجهر المنوغرافي، اي حياً يرزق في بقعته المكانية وحيزه الزماني، فطالت عشرته مع قبائل (سكساوة) في الاطلس، ثم امتدت الى مدن وقرى من المغرب والمشرق، حتى انه عندما عُينَ استاذاً في الكوليج دو فرانس سنة 1956، لم يكن في جعبته العلمية في حالة طراوة واختمار الا هذه المعارف الميكروسوسيولوجية من مدونات وفق الانساب واللهجات، وهي معارف من قعر المطمورة لا يمكن توصيلها الى الآخرين، وقد ينكرها حتى اصحابها المعنيون.
ان بيرك الذي لا يرفض انتماءه الى دائرة المستشرقين، يحق اعتباره في طليعة الوجوه الأكثر حضوراً في ساحة العلاقات الفرنسية- العربية، والاوفر اسهاماً في ميدان تجديد الدراسات الاستشراقية والدفع بها الى الاحتكاك بالعلوم الانسانية والتفاعل معها.كما ان بيرك على صعيد آخر استمد اسباب تألقه من قدرته على تشريع الاستعمار ليس كخزي او كابوس ميتافيزيقي كما يرى بعض المفكرين العرب بل كظاهرة تاريخية لها منطقها المحايث وكلحظة زمنية تستلزم جدليتها قيام نقيضها في حركات تصفية الاستعمار وتحرير العالم.
وطيلة فترة بيرك الميدانية- الادارية والعلمية- بين اواخر الثلاثينات الى الستينات. كان مستشرقنا المجدد يستشعر ازمة الاستشراق التقليدي كخطاب وممارسة، فحاول الاجابة عليها عملياً بالدراسات المندرجة كلها في التاريخ الاجتماعي للعالم العربي. اما في مرحلة بيرك التالية التي يمكن اجمالاً نعتها بالتنظيرية او التركيبية، فقد صار يعرض تلك الازمة على صعيد الفكر بكثير من الجرأة المحاطة بلياقته اللفظية الخاصة، ويسأل كما يسأل الباحثون القوميون عن الاسباب التي من اجلها لم يحظ الاستشراق بأي حضور ملحوظ ولا بأي تأثير فعلي في مجال البحوث والنظريات الانثروبولوجية التي اعادت تمثيل الحضارة الانسانية الحديثة على ضوء معرفة المصادر والروافد حتى الضاربة منها في القدم والبدائية، اي بكلمات اخرى: لماذا لم تساهم معرفة الشعوب الشرقية من طرف المستشرفين في بلورة النظريات حول تطور صور الانسان وثقافاته، فكانت شبه غائبه من سباق تنافس العلوم وتكاملها؟ جواب بيرك على مثل هذا السؤال الذي يشعر بحدته ومشروعيته هو ان “سبب ذلك التفاوت الصارخ يعود بلا شك الى كون العرب في علاقاتهم بنا يتميزون بطابع مزدوج من الصدام والتقارب. ثم ان التوترات الناجمة عن كفاح طويل التي زادت في تأجيجها الامبريالية كانت في حالتهم جداً قوية في حين لم تكن كذلك منهجيات البحث بحيث يتسنى تبيان التشابهات والفوارق والازدواجيات ثم الخروج منها بتعليم”.
وتبعاً لهذا الثبت، يرى بيرك ان المستشرق او المستعرب على وجه التحديد قد “صار وحيداً، اي مفصولاً عن الباحثين الآخرين كما هو مفصول عن العرب انفسهم”.
الاستشراق اذن بين عجزين، عجز عن مواكبة العلوم الانسانية ذات القدرة الاكتشافية من لسانيات وتاريخ اجتماعي وعلم الانسان، وعجز عن الانتقال من النظر الى العرب كمواضيع او كائنات محددة انطولوجياً ببعدها الديني العقيدي الى النظر اليهم كذوات مشخصة تمارس ككل الذوات الانسانية الحية اراداتها وحقها في التقدم والتغيير.
ان انتقاد بيرك للاستشراق يستمد قوته وحتى مصداقيته من عنصرين اساسيين:
1- انصات بيرك وتفهمه لشعور التنكر والنفور عند العرب بأزاء ماضيهم القريب المتمثل في عهدهم الاستعماري وماقبله مباشرة والمشخص في صورة (الاب المهزوم والانا المهان)، وهذا الشعور قد انعكس سلباً على علوم تهتم بهذا العهد بالذات فـــ “حتى اليوم- كما يوضح بيرك- يشكو التاريخ والانثولوجيا والسوسيولوجيا في الشرق من فقدان الاعتبار. ويلزم البحث سبب هذا في النفور والحقد اللذين يشعر بهما الشرقيون بازاء مجتمعهم في العهد الاستعماري”.
2- تألق بيرك في تشريع الاستعمار ليس كخزي او كابوس ميتافيزيقي كما يرى بعض المفكرين العرب بل كظاهرة تاريخية لها منطقها المحايث وكلحظة زمنية تستلزم جدليتها قيام نقيضها في حركات تصفية للاستعمار وتحرر العالم.
فأذا كان العمل الاستعماري “يطبع كل مقولات الحياة المحلية باختلال عام، اذ يصبح الدين شعوذة والشريعة عادة والفن مجرد فولكلور وكل هذا بالقياس الى المقولات المطابقة في النظام المستورد”.
واذا كانت السلبيات الاستعمارية تبلغ مداها في فصم علاقات الطبيعة والثقافة داخل المجتمع المستعمر، فان الحياة لا تلبث ان تستعيد جذورها وحقوقها ضد كل تلك الاستلابات والتشويهات، وهذا بفضل ارادة المقاومة والرغبة في الانعتاق.وهكذا تكون القومية العربية مثلا فكرة وحركة لا تقومان في عقد الوفاء للهوية التاريخية المشتركة فحسب وانما ايضاً وبالتأكيد في سعي العرب الى التخلص من كل الهيمنات الامبريالية وتحقيق المواكبة والتكافوء مع الاخرين على صعيد اكتساب اسباب الفعالية والقوة.
بهذه العقلية المستخدمة المتولدة عن تصدع السيطرات الاستعمارية وتحقيق الاستقلالات والتي لا تختلف عن عقلية المحللين القوميين الا ببلاغتها ومرونتها بتلك العقلية.
اذن، يسعى بيرك الى محاولة اكتشاف “العرب بين الامس والغد” وعلى عتبة هذا السعي يتبدى بوضوح التثبت المطلق للباحث ويليه التعبير عن مشروعه الدراسي.
اما الشق الاول فيقوم حول انفصام الانسان العربي التقليدي المشخص في الفقيه والاديب المتشبث بالقديم او في البدوي والمزارع.ان هذا الانسان يوجد اليوم امام “فتنة جديدة” عليه لمواجهتها ان يتخلى عن مجمل المقولات الذهنية والرؤى الحياتية التي لها طاقة تعويقية في مجال تكيفه مع واقع العالم الحديث المطبوع بالبحث عن الفعالية الاقتصادية والتقنية والمستعيض على صعيد السياسة والمجتمع بعلاقات الشفافية والعقلنة والتعاقد عن علاقات القرابة والتبعيات والحمايات. انه في اضطرام وعيه بضرورة الاختيارات الجديدة التي تفصمه هنا وهناك عن كينونته الاصلية يعيش ، قلقاً متواتراً يفضي به اما الانزواء والرفض واما الى طلب النهضة والبعث والثورة…. وهذه المخارج الاخيرة لا زالت بعد تحقق الستقلالات السياسية تجرب نفسها وقدراتها الذاتية في معارك الحداثة الصناعية والفكرية، اي في معارك الحضارة من اجل الانتماء الفاعل الخلاق الى العالم المتطور…
ان مشروع بيرك عموماً يتجلى في محاولته اظهار انتقال العرب من دائرة القدسي الى الزمان التاريخي، اي الى العهد الصناعي وارادة التغيير، وهذا ليس بالضرورة على حساب المكون الديني بل على اساس رده الى حيزه المعقول مادام ان ازدياد ظواهر كالقوميات والطبقات والثقافات وغيرها لا تفرزها الا الصيرورة التي تفلت بالطبع من ثبوتية الموروث ودائرة التعالي “الشرق المثالي” اي التاريخي وليس الشرق الخالد – هيراقليس وليس ابراهيم-.
هنا تكمن خيارات بيرك ومنطلقات توجهه التنقيبي والفكري وان كان في مذكراته يرى من باب النقد الذاتي انه لم يذهب بها الى اقصى مداها كما لم يظهر ان شغله في الحقيقة كان هو معالجة جدلية علاقاتها بما يعارضها.
وفي اطار هذا المشروع ما يتطلبه من جهد تجديدي كان بيرك ان يعيد النظر في تأثره الاولي ب ماسنيون وان يخضعه بالتالي لنوع من التطهير من دون ان يقدح في عبقرية (الشيخ الجليل) الخاصة او ينكر فضله في مساعدته على الاحساس بطعم الشرق. لقد اصبح التجديد الثيماتي عند بيرك مرتبطاً اساساً بمراتبة الاحداث الحاسمة ورصد مضامينها التعبيرية والدلالية، كالانتفاضة الجزائرية ابتداءً من 1954، ومؤتمر باندونغ الافرو- اسيوي في 1955، واستقلال تونس والمغرب في 1956، وتأميم قناة السويس… كلها احداث دفعت ب بيرك الى اعادة اكتشاف العرب طي صيرورتهم، اي بعيداً ليس عن الاستشراق التقليدي فحسب بل ايضاً عن المقاربات الكولونيالية ذات المقاصد المبيتة والمناهج التقسيمية… وهذا التوجه عنده لم يضعف حتى في مرحلة عودة الاخير الى الاسلاميات التي لم تكن علاقاته بها من قبل الاعابرة وظرفية. ف بيرك في هذا العود الذي ليس غريباً على التقدم في السن، لا يتنكر لما ميزه مثلاً عن ما سنيون او كوربان، ان القضية التي تشغلني – كما يكتب- “ليست استرجاع الماضي اي تنصيبه في الصدارة” بل النظر في النصيب المحرك او المساهم او المعوض الذي اخذه وبالأخص سيأخذه الاسلام في مسيرة الحداثة الشرقية… وبعبارات اخر يتعلق الامر بالعلاقة بين الصيروة التاريخية والاصول”.
التحول في الموضوع كان يستلزم ايضاً الخوض في تجريب مناهجية مستمدة من علوم قلما يشركها الاستشراق في بحوثه وهي كما يعددها بيرك “الاقتصاد حيث يجد الاستقلال محك اختباره، التاريخ المعاصر الذي يحرر للمرة الاخيرة الشعوب العربية من كفنها الارجواني، الظاهراتية التي وحدها تقدر على القراءة في كثرة الاحداث والاشارات والاحوال كمؤشرات لتيارات الاعماق، وتطلب من كل ملاحظ ان يقيم البحث عن المنطقيات الجوفية على دقة الانطباع، علم الاجتماع وبالاخص الانثروبولوجيا اللذان يموضعان النقاش في ابعاده الشمولية ويعرضان تركيبات جديدة في ذاك المجال”.
وبيرك في استفادته من كل هذه العلوم واستثمار مناهجها يتجنب بذكاء وعن وعي ان يستبيح اقواله بركام الارقام والحسابات والتشخيصات التي لا تمنع مع ذيوعها واستبدادها الا ضمانات مهزوزة وراحة مخدوعة.
ولهذا كان عموماً لا يكن للبحث الا نكلوا – ساكسون الموسوم بعلموية كاريكاتورية كبير تقدير. وبدل كل ذاك كان بيرك الى جانب اعتماده على النصوص والوثائق المحلية يقيم استباراته على المشاهد والمسموع والمحكي وكذلك المحاور فيه والسؤال المباشر، وكلها مصادر تعطي التحليل قواعده الخصبة الثرية، اذ تقضي به الى الوقائع طي اطارها النفسي ودلالاتها كتجارب معاشة. اذا ما عرضنا كتابات بيرك على النقد، فأننا بكثير من الجهد وحتى من الصرامة المفتعلة، قد نذكر بما يعيب على اسلوبه من غموض ونزوع الى تبنى بلاغة متأنقة لتصريف مضامين تكون احياناً بسيطة او عادية، ومع ان بيرك رد على هذا النقد بنوع من الازدراء والشراسة فيبقى ان الكتابة البيركية عموماً يحق نعتها بالشفافية الصعبة او بالوضوح الممتنع الوعر على القراءة الاولى. ان بلاغتها تقوم داخل النص المكتوب بتدرج في الكثافة والسماكة، فتنتشر هنا وهناك حجباً تدفع بالمعنى الى درجات متفاوتة من التواري والترميز، ولعل هذه الجوانب في تلك الكتابة تفسر هي ايضاً كون اربعة مؤلفات فقط من اعماله الكثيرة نقلت الى العربية لم نر منها الا ثلاثة والرابع ظل في حالة اعتقال.
كل هذه الانتقادات الجريئة واخرى شبيهة لا تقلل في شيء من قوة اعمال بيرك ولا من كون هذا المستشرق المجدد يبقى من الوجوه الاكثر جذباً وتألقاً ومن المفكرين القلائل الذين يمكن للباحثين القوميين ان يخاطبوهم ويستحضروهم في اطار التبادل والتكامل المعروفين.
* مذكرات الضفتين
مذكرات الضفتين، كتاب يجمع فنيَّ السيرة الذاتية والسيرة الفكرية، فهو يلقي اضواء كاشفة على بيرك الانسان، وبيرك العالم المفكر. هذا الكتاب المذكرات المفعم بالصدق والحيوية يستحق منا اكثر من وقفه للاشارة اليه كمنجز او توبيوغرافي يغني او يصحح ما نعرفه عن شخصية الرجل وعلمه الوافر.
نقرأ في مذكراته في ضفتها الجنوبية وبالذات في منطقة فراندا الجزائرية، حيث قضى بيرك طفولته قبل ان ينتقل مع اسرته الى الجزائر العاصمة، وهو في طور المراهقة، فكانت له هناك اولى ذكرياته في مجال القراءة والتحصيل العلمي، واولى تنطعاته ضد نمط الحياة الاستعمارية مع انه ابن المراقب المدني (الحاكم) في الادارة الفرنسية.
وعندما نلقي نظرة فاحصة على سنوات التعليم البعيدة (1930- 1932) التي جعلته يتخلى عن الاداب القديمة ليخضع الى ما نسب في ذلك الوقت الى زخم الشباب، فان صعوبات التكيف القصوى (تصفعته) على حد تعبيره، وهذا تقريباً معاكس لما يمكن ان لازمه فيما بعد في سن النضوج.
فماذا كان يرى بيرك اذاً في المدينة؟
“كنت اجعل منها من دون شك موقعاً اسطورياً، كنا نأتي اليها لنجدد قوانا كل سنة وكنا فخورين باننا احتفظنا فيها بتلك الذكريات الحية… القريبات المتقدمات في السن، بيتان قديمان، ومناخ ما قبل الهجرة، وابناء عمومة يتكلمون طوعاً اللهجة المحلية، وبعض قطع الارض، وحتى الفأس التي يستخدمها الجوالون… كل الناس في الجزائر كانت تتفق على هذه الامانات المثيرة… والدتي كانت تعير اهتمامها اكثر من والدي لهذه الاشياء القديمة… وحتى الان كان يسود في الجزائر القانون الفرنسي والروح الفرنسية، في حين ان الاثنية المتوسطية المختلفة التي كنا نحس انها كانت تبرز الى الوجود، تسود في اوساط الفئات اللاتينية الجنوب فرنسية او الاسبانية او الايطالية او المالطية… وهذا المظهر كان يتأكد لدى الاكثرية التي يعود معظمها الى طبقة سكان المدن، ومن سحنهم المتكبرة والقاسية كان يخرج نوع من الرومانية الشرسة.
لقد مررت بسرعة في اروقة الحكومة العامة او اتكأت على شرفة تانتونفيل بذلك المقهى الذي كانت تجتمع فيه الطبقة الميسورة في فترة بعد الظهر، كانت تبدو على الكثيرين النظرة الوهاجة وكبرياء الحركة وبعض القساوة والرصانة التي كانت تنبيء بأول تحول.الصبيات، الفتيات الشرسات، النقيات القلب، كانوا يفيضون طاقة وجودية، كان ينقصم الوقت الذي يرهف الحس والاستفهام الذي ينضج، ولكن لم يكن ينقصهم الكرم. ثم لماذا اداروا ظهورهم لأقامة حقيقية؟ ولكي يتجذر المرء فان وعي الآخر هو ما ينقصم غالباً، فالجزائر وافريقيا الشمالية بشكل عام لم تؤد الى ولادة (الكريول) بالمعنى الاسباني- الامريكي لكلمة Criollos وفي ذلك الوقت الذي اتحدث عنه وبعد مئة سنة من التعايسش لم يكن هناك واحد من هذا الجنس، ومع ذلك كان يمكن التعرف في النظام الاخلاقي الى خلاسيين مجهولين ومتجاهلين، لأن التأثير على هذا الصعيد كان يلعب دوراً من الجهتين وفي الاتجاهين ولم يكن هناك تنبيه لهذا الامر قط مما كان يجعله تناقضاً اضافياً.
وهذا ما اكتبه الآن عندما اورد اسم ألبير كامو ومرسيل سيردان والجنرال جوان، وهو ما لم أكن استطيع فهمه في ذلك الحين. ولكن كنت اختبر حيال رفاق الدراسة الباريسيين اعتدالاً لم يكن مناطقياً فحسب. وللاسباب نفسها او لغيرها كان احد اصدقائي الافارقة (الاقدام السوداء) يختبرونه اكثر ايضاً.
كنا نعرف ذلك، وكنا نستخلص منه اعتداداً بالنفس، ولم يكن احد منا يظن ان بواكير ولادة هذا الشعب ستجهض شعبياً بسبب فشل التحالف مع محتلي الارض القدامى… ومن كان يستطيع التكهن في العام 1930، ان التاريخ سيفضي هذه النتائج السوداء او هذه الاصلاحات الاكثر عدالة وتقطع الامل بوهم الاختلاط؟ لا افريقيا الشمالية لن تصبح مكسيك اخرى…
الا انه اتيحت لي الفرصة لكي انغمس في التيار المزدوج الذي لم يلبث ان تحول تناقضاً رهيباً، ثم ان ذوباني في فكر المدينة سيسمح لي بان انمي الحس المتوسطي والنداء القومي اللذين لم تعرف خاصتي ان تصغي اليهما. وهكذا فان هجرتي من الارض فادتني نحو حقيقتها الاولية، الحقيقة الاوسع، مستقبلاً”.
وفي ضفته الشمالية من ذكرياته، نتابع رحلة بيرك عام 1930، الى باريس لمتابعة دروسه في السوربون، وصادفت تلك السنة احتفالات باريس بالذكرى المئوية لضم الجزائر وتنظيم ما كان يسمى بالمعرض الكولونيالي…
لم يكن بيرك مرتاحاً في السوربون حيث يسود نزوع الاعتزاز بالذات والاكتفاء العلمي والوطني، وهذا ما دفعه بعد سنتين الى التخلي عن مستقبله الجامعي وبالتالي عن امتحان التبريز، مما اثار خيبة والديه واساتذته في الجزائر. ثم بعد ذلك بقليل كانت الخدمة العسكرية في المغرب الى 1934، وهي السنة التي اجتاز فيها بيرك مباراة (المراقبة المدنية) فعين مراقباُ تابعاً للمكتب العربي في ثلاث قرى على التوالي ثم في فاس سنة 1937. وقد مكنه هذا العمل من الاحتكاك المعرفي بالارض وناسها ورجالاتها، فكان في كل شوط يقطعه يبتعد اكثر فأكثر عن منطق الادارة الكولونيالية ويفتح عينيه على اول المظاهرات وصلوات اللطيف التي اثارها في فاس نفي الزعيم علال الفاسي في نفس السنة.
لنعد الى اللحظة التي اقام فيها بيرك في باريس بعد ان بالكاد وصل اليها، وجد فيها قضية ورفاقاً غير ان ذلك بدا له خطراً على أمد معين. الخلل كما يصفه في “الذاكرة، كان يهدد بالاتساع بين حياة الشرق الاكثر ضجيجاً وسعي مدعو لأن لا يكتمل الا بموتي. لقد نقشت على اللحم ذكريات محرقة للغاية لكي اتكيف مع دراسة غيبية كان ينبغي لي القيام باتصال دائب وحوار لا ينقطع”.لقد اصبحت حياة الشرق اليومية بالنسبة له ضرورية “ولكنها بدأت شيئاً فشيئاً تغيب من حياتي وفي المقابل بدأت حركة ستحملني طوال جيل كامل من الشمال الى الجنوب ومن الفرات الى الاطلس في دورة لم يتباطأ فيها سوى الاعتكاف. كنت استفيد من كل هذه المناسبات للتخلص من منبر التدريس” .
كان جاك بيرك عهد ذاك رجلاً اخرق ومتمرد في نظر الرؤساء العسكريين والاداريين وشاباً يسارياً مسانداً للجبهة الشعبية الفرنسية وسيءالسمعة الجنسية في نظر الجالية الفرنسية. هذه هي الصورة التي كانت تشيعها الالسنة القبيحة عن بيرك للرد على سوء طويته الوطنية وتعاطفة الظاهر مع اهالي البلاد المستعمرة.
وفي 1939، وبعد زواج اول غير موفق اختار بيرك التجنيد والحرب العالمية الثانية في بدايتها، فامضى فيه زهاء سنة عاد بعدها الى مزاولة عمله السابق في المغرب الى ان ارتقى سنة 1943، منصباً في القسم السياسي للاقامة في عهد بويو وبونيفاس، وصار هذا المنصب يلزمه بالاستخبار عن الحركة الوطنية المتنامية وجس نبضها، وذلك عن طريق صداقاته في التعاضديات الحرفية، فكان كثيراً ما يخطيء في تقاريره وتوقعاته لا بسبب قصوره المعرفي بل بسبب نفوره المتأصل من كل عمل جاسوسي من شأنه ان يفقده حلمه في اشراك المغرب مرحلياً في مشروع التقديم الذي يفضي حتماً الى الاستقلال. الا ان الاحداث تسارعت بشكل لم يتنبأ به الفرنسيون ولا بيرك نفسه، بحيث تقدم الوطنيون المغاربة بوثيقة المطالبة بالاستقلال في يوم 11/ ك 2/ 1944، معتمدين خطة تدويل الصراع المغربي- الفرنسي، كما هو الشأن في الجزائر وتونس. فلم تنته الحرب العالمية الثانية حتى اخذت الحركة الوطنية تفرغ معاهدة الحماية لـ 1912، من محتواها، لا سيما وان هذه الاخيرة ظلت قاصرة في الاصلاحات الموعودة، كما انها، ما عدا في العالم القروي الذي بقي تحت سلطة الحكام الفرنسيين بواسطة القواد المحليين، كانت متقدمة في هيمنتها على الحواضر والمدن الكبرى، وانطلاقاً من ذلك المنعطف بدأ بيرك يشعر بلا جدوى كل محاولاته في التخفيف من شروط التواجه الدموي او في اصلاح مرفق الفلاحة تحت شعار (الجماعة فوق الجرار) فكان طلاقه من الاقامة العامة أمراً لا محيد عنه، اذ اخذ زملاؤه فيها ينعتونه بـ (عار المراقبة المدنية) ولم يزد اعتزاله الا حدة بعد مجزرة سطيف في 1945 حتى اتى صيف 1947 فعرض على بيرك ان يصطحب الحجاج المغاربة، فكانت هذه طريقة الادارة لاقالته وتنحيته…
خمس عشرة سنة اذن قضاها بيرك في الاحتكاك بالميدان وممارسة قضاياه بالمجهر والمعاش، مما هيأه الى اعداد اطروحته حول (سكساوة) بمناسبة ابعاده الى ناحية امنتانوت بالاطلس الكبير كمراقب مدني تابع للمنطقة العسكرية. وهنا اخذ يتعلم البربرية قصد معرفة البنى الاجتماعية للمنطقة المذكورة، وظل يكرس علاقات الفتور والبرودة مع الاقامة العامة، سواء في عهد جوان او جيوم، الى ان طلب تفرغاً قصد ملء منصب عرضته عليه اليونسكو في سرس الليان بمصر، فغادر المغرب في 1953، اياماً قليلة قبل نفي الملك الراحل محمد الخامس، وفي اقامته الجديدة كخبير لقسم البحوث الفنية والتجريبية التي امتدت الى 1955، لم يكن من حيث الوظيفة يشعر بالنفع والحماس الا انه تمكن من اغتنامها فرصة لتهييء كتابه حول (التاريخ الاجتماعي لقرية مصرية في القرن العشرين).كما تعرف على وجوه بارزة من المثقفين والسياسيين، وشهد احداثاً تنذر بالمخاض الثوري داخل المجتمع والجيش، ومنها على سبيل المثال تنحية الجنرال محمد نجيب ثم عودته في ظرف اسبوع الى منصبه بفضل تدخل ضباط تقدميين من بينهم جمال عبد الناصر وعلى رأسهم خالد محي الدين… وقد وضع بيرك خلال هذه الاقامة المصرية القصيرة اللبنات الاولى لعمله الضخم الذي سيظهر بعد عشر سنوات (مصر، الامبريالية والثورة) وبعد ان عاد الى باريس في نفس السنة 1955، للدفاع عن اطروحته حول سكساوة، رحل في السنة الموالية الى لبنان ليشرف في بكفيا على معهد العربية الحديثة، ويعمق معرفته المباشرة بالشرق العربي هنا عند المارونيين وهناك عند المسلمين.
واثناء هذه الاقامة اللبنانية اخبر بيرك بانتخابه في –كوليج دوفرانس- استاذاَ لـ- التاريخ الاجتماعي للاسلام المعاصر- ويحكى ان هذا التشريف قد اصابه في البدء بنوع من الهلع، وذلك لانه لم يكن في جعبته العلمية في حالة طراوة واختمار الا هذه المعارف الميكروسوسيولوجية من “مدونات وفقه الانساب ولهجات وهي معارف من قعر المطمورة لا يمكن توصيلها الى الآخرين وقد ينكرها حتى اصحابها المعنيون”. فكان على الاستاذ المزاول للعملية التدريسية في تلك المؤسسة العتيدة كما في المدرسة التطبيقية للدراسة العليا، ان يخوض في معمعة العلوم الانسانية والمذاهب الفلسفية التي كانت باريس اذ ذاك مركزاً مشعاً لها لسمينها، كما كان عليه ان يحدد مواقفه من قضايا الساعة، خصوصاً بعد استقلال المغرب وتونس، والتي كانت تتصدرها القضيتان الجزائرية والفلسطينية. فعن الاولى كان بيرك يدافع بمقالاته في كبريات الصحف وبمحاضراته عن ضرورة الاعتراف بالجزائر كوطن ذي سيادة وبحق هذه البلاد في ان تندمج مع ذاتها، بدل البحث عن دمجها في فرنسا، كما هو رأي الكثير من الاحزاب والتجمعات الفرنسية. وبيرك لا يدعي السبق الى اتخاذ ذلك الموقف بل يسجل فقط انه كان من رواده الى جانب شخصية حكومية او شخصيات صحفية وفكرية… اما القضية الفلسطينية التي سكت بيرك عنها طويلاً وان كان يفكر بكثير من الروية والشك المنهجي فانها لم تأخذ الصدارة في عمله وتحركاته الا على اثر هزيمة مصر في حزيران 1967 امام الجيش الاسرائيلي، هذه الهزيمة التي كان لها في احساسه فداحة هزيمة احمد عرابي عند التل الكبير على يد الانكليز في 1882. ويعلل بيرك وقوفه الى جانب القضية العربية- الفلسطينية بهذه الكلمات “اني لم ار اي تبرير معقول لعقاب العرب على الجرائم الهتلرية كما لم أرجحه لاقامة حركة توسعية في الازمنة الحاضرة على ذكريات توراتية”.
وفي نفس الفصل حول ضرورة الاختيار والتموقف لم يفت بيرك ان يسجل بنوع من المرارة كيف آلت علاقاته الى الفتور مع دولة مغاربية بسبب شجبه لسجن او اغتيال سياسيين معارضين… لكن عزاءه كما يعبر عنه في فضل آخر (تغيير الحياة) هو ان ذاكرته تحتفظ اكثر بمظاهر التكريم والتشريف التي لقيها هنا وهناك في العالم العربي كانتخابه عضواً مراسلاً في المجمع اللغوي المصري وكاستقابله بواسطة محمد حسنين هيكل من طرف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي حاوره واستمع حتى لبعض انتقاداته.
حياة بيرك كما يرويها صاحبها بكثير من الدقة والشاعرية الصادقة مليئة بالافاق المتقاطعة، آفاق حملته كزائر او كمحاضر الى السودان وسوريا والعراق ثم الى ايران حيث شعر في جولاته ان (العربية أكلته) على حساب الفارسية، وحيث ناقش مطولاً آية الله قشاني في قم، فكان اعجابه بما يسمعه ويراه يقوي احساسه الحرمان من التراث الايراني، وفي جامعة قم كرر لآخر مرة ما فعله في مسجد بضاحية كزمين العراقية بترغيب من علي الوردي، الدخول اليها متنكراً بلباس المسلم، فلتقبل دعوته القائلة أصدقائي المسلمين سامحوني” لا سيما وانه يحب اماكن الاسلام الحرام بقدر ما يكره التنكر بما فيه التنكر لاصالته هو وانتمائه الفرنسي.
محطات اخرى كثيرة في افاق بيرك، وفي كل محطة نفس الفضول العلمي والانساني ظل يحدو بيرك مع تفاوت طبعا في الاستئناس والتواطؤ.. وخلال السبعينات بالذات بدأ بيرك منذ بدايتها يبتعد عن الدراسة الميدانية لفائدة التكيف مع السفح الآخر المتمثل في العلوم المنتعشة اذ ذاك من لسانيات وسيميولوجيا ونقد ادبي جديد. ولعل الدافع الى هذا التحول هو ما يسميه بيرك بشكل مبالغ فيه بالاخفاقات المهنية التي لحقت بعض مؤلفاته… التي لم تلق ما تستحقه من انتباه وعناية في الاوساط الصحفية او في الدوائر العلمية ولا يظهر ان بيرك يلقي باللائمة على الاخرين او يكتفي بتذنيب اللوبيات المتصهينة بل يتعدى كل هذا لطرح ملاحظات على الذات، قائلاً:
“من الجائز اني اخطأت اساساً الطريق حين مزجت الايديولوجيا بما كان يلزم ان يبقى بحثاً موسوعياً. لقد كنت ازعج المتخصصين في الشرق من غير ان افرض نفسي على المنظرين”.
* التوثيق
1- Jacques Berque- Mémoires des deux rives, Seuil, Pari, 1989.
2- سالم حميش – مذكرات الضفتين او سيرة جاك بيرك الذاتية- الفكرية طعم الشرق على اللسان الدافئ، مجلة اليوم السابع (باريس)، الاثنين 22/ ك 2/ 1990.
3- سالم حميش – جاك بيرك، باحثاً ومفكراً، نظرة ثانية، بعيدا عن الاستشراق التقليدي، قريبا في الزمن المتحرك، مجلة اليوم السابع (باريس)، الاثنين 18/ حزيران / 1990.
4- مروان حداد، ذكريات الضفتين، مجلة الاسبوع العربي (باريس)، عدد 6/ اذار/ 1990.