كتاب تنهد به عقل عراقي مُشبع بالذكريات المأساوية القاسية فعلاً , أحداث و مواقف متغيرة جعلتني أعيش معه بتفاصيله , فبالوقت الذي ألّحُ فيه على العقل ان لا ينصهر مع العاطفة و مع مجريات و تفاصيل الكتاب المؤلمة , لا أنكر ولمرات عديدة أجدني وقد سرّح العقل خيوطه الواعية لتكون ساحة الاستيعاب فارغة للعاطفة , ولطالما وجدت نفسي أحرك يدي او أهز رأسي تفاعلاً مع الكتاب .
ذكريات الزمن القاسي , كتاب خرج من ذاكرة الاستاذ و الصديق محمد علي الشبيبي , حيث روى فيه تجربته الشخصية و معاناته بعد انضمامه للحزب الشيوعي العراقي , يبدأ الشبيبي تفاصيل كتابه من ذاكرته الغضة , حيث يذكر سفره مع عائلته أيام العطلة من كربلاء الى النجف , حيث يوجد بيت جده لأبيه العلامة و الخطيب الحسيني المعروف محمد الشبيبي .
يذكر و بدهشة و استمتاع عندما كان يذهب مع جده الى السوق , و عندما يجتمع الناس للسلام على جده او الحديث معه .يتذكر الاستاذ الشبيبي و بطريقة لا تميل الى التوثيق , إعدام عمه حسين الشبيب, الملقب صارم المنتمي للحزب الشيوعي و المعدوم مع مؤسس الحزب فهد .تتأثر عائلة الشبيبي بعد إعدام حسين , و هذا التأثير يأتي من محورين أساسيين , أستطيع ان استشفه من خلال قراءتي العقلية الخالية من العاطفة . المحور الاول الذي تأثرت به العائلة هو فقد فرد مهم تربطهم به أواصر و وشائج متينة جداً , فعلى الحسابات الطبيعية للإنتماء الاسري في المجتمع العراقي يكون الحزن فيه لوعة مختلفة كيف واذا كان المتوفى مأخوذاً بجريرة الانتماء الى حزب و محكوماً بالاعدام .المحور الثاني , طبيعة المجتمع العراقي و عدم تفاعله مع المختلف او غير المألوف , عادةً ما يأخذ ردة فعل قوية و سريعة الانتشار و داعية الى القطيعة و الابتعاد , حتى من دون معرفة الحقائق و الملابسات التي تحيط بالموضوع .أشعر ان ردة فعل الكربلائيين و النجفيين مع عائلة الشبيبي كان فيها غلظة مفرطة , و استبعاد و تجني دون الالتفات ان العائلة لم ترتكب جرماً , فيما اذا صح ان نقول ان ابنهم الذي ارتكب ذلك الجرم . لم تشفع للخطيب الثمانيني , محمد الشبيبي , كل محاضراته و دروسه بعد إعدام ابنه فقد أُشيع في حينها ان الشبيبي عندما يقول بمحاضراته الحسينية يا حسين , فهو لا يقصد الامام الحسين ع بل يقصد ولده حسين !هكذا بدأ التحايل و الاقصاء الاجتماعي لعائلة الشبيبي و خاصة ان معظم هذا التحايل أتى من المؤسسة الدينية المتمثلة بالحوزة .
يذكر في الصفحة 19 : ( منذ سنوات الأربعينات وخاصة بعد إعدام الشهيد حسين أصبحت العائلة وخاصة والده وشقيقه الأكبر –والدي- تحت المراقبة والاضطهاد السياسي والمحاربة حتى في الرزق والمعيشة. وللأسف ساهم في ذلك بعض من اعتلوا المرجعية الشيعية فسخروا المؤسسة الدينية لخدمة القوى الإقطاعية والرجعية الملكية الحاكمة في محاربة الوطنيين المخلصين عكس ما فعلته المراجع في ثورة العشرين وموقفها المشرف والمؤثر في الثورة. وتمادت احدى المراجع الشيعية بسبب حقدها وظلاميتها في محاربة الشيخ والد الشهيد حسين حتى بعد وفاته، حيث مارست من خلال موقعها كمرجعية في الضغط والتأثير على الناس البسطاء، ومنعهم من شراء بيت الشيخ عندما عرض للبيع بعد وفاته عام 1958 بحجة حرام السكن فيه لأن مالكه كان شيوعيا! مما أدى إلى هبوط سعر البيت وتراجع الراغبون في شرائه فتقدم هذا المرجع واشتراه لنجله.)
و لان الكاتب أشار و بلغة تلميح واضحة من هي المرجعية التي حرمت شراء البيت الى ان هبط سعره فاشتراه نفس المرجع ، يتصدى كاتب اخر لهذا الموضوع وهو محمد باقر الحسيني في مقاله المعنون (سيرة السيد /الجزء الثالث) الذي نشره في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 31/5/2007 العدد 1932 وتناول فيها سيرة السيد محسن الحكيم وجاء فيها ( وتصرف .. السيد محسن الحكيم مع بعض رجال الدين تصرفا مقززا، كإرسال الشقاوات لضرب بعضهم كما أسلفنا في المقال السابق، ولم يراع خدمة الشيخ محمد الشبيبي للمنبر الحسيني فترة زادت على الخمسين عام، وهو والد المناضل المرحوم حسين الشبيبي، فحرم شراء بيته الذي عرض للبيع نظرا للحاجة المادية القاهرة للعائلة بسبب سجن محمد علي ومحمد الشبيبي ناشرا الدعاية من إن هذا البيت نجس، وعندما ارتد الراغبون عن الشراء، اشتراه السيد لنفسه بسعر بخس لإسكان السيد باقر الحكيم، ولغرض تطهيره من النجاسة، طلب من بلدية النجف تزويده بسيارة الإطفاء لغسل الأرض بعد تهديم البيت)
أكاد أجزم ان تأثير الهجمة على بيت الشبيبي هي من جعلت الشاب محمد (صاحب الكتاب) يندك إندكاكاً غير مدروساً في الحزب الشيوعي . أعتقل صاحب المذكرات وهو في عمر السابعة عشر , زمن الحكم الملكي , ثم تتالت عليه الاعتقالات في زمن قاسم و عبدالسلام حيث نقرة السلمان , الى الحقبة البعثية .و لأن بيت الشبيبي من عائلة دينية أبت والدته ان يذهب هو و ابيه الى المحكمة الا بعد ان يمروا تحت القرآن الكريم إيماناً منها انهم سيكونون بالحماية و الحفظ و غالباً ما كانت تندب ( ابو الفضل العباس) لكي يخلص لها زوجها و ابنها . والدة الاستاذ محمد الشبيبي ، عانت من الويلات و الحرمان و العذاب و الخوف و ربما الجوع ، الامر الذي جعلني اكثر من مرة احقد على الشبيبي و مواقفه الصبيانية.
إنطباعاتي حول الكتاب : لا انكر ان الشبيبي وظف قضاياه توظيفاً مناسباً جداً و أعتقد ان ذاكرته كانت نشطة جداً , فهو قد تحدث بالاسماء و الارقام أكثر من مرة , لكنه و ليعذرني على صراحتي , كان متهوراً جداً , سحب بلاءات و عذابات الدنيا و أمطرها على أهله , لم يستطع ان يتأثر بوالده بشكل جدي واقعي إنما كان تأثيراً شكلياً, والده كان في الخمسينات من العمر و من خلال الترجمة له عرفت انه رجل في قمة الوعي و المسؤولية , حيث كان هدفه الحياة الواقعية و ليس المثالية التي أغرم بها ابنه .يذكر في الصفحة 200 , ماذا قال له والده ( عندما فصلت من التعليم سنة 1947 قررت ان أمارس اي عمل لإعالتكم لا ان افعل مثل البعض حيث سحب ابناءه من المدارس و شغلهم في بيع النفط بالشوارع , فرأس مالي هو انتم )
المأساة الكبيرة التي جرها المؤلف على نفسه و على أهله , ابعدته عن وطنه , و اعتقد انه ينتمي للغربة أكثر مما ينتمي للوطن الذي سجن و عذب من أجله .
كان بودي الكتابة أكثر عن قساوة الزمن مع الاستاذ محمد الشبيبي , بودي ان اسأله عن كيفية إنضمامه للحزب الشيوعي ؟ هل كانت شعارات الشيوعيين و مثاليتهم العالية حقيقية أم مجرد إستهلاك لغرض كسب العدد الاكبر من الناس ؟لأنه ذكر اكثر من مرة كيف انه وجد ان أقوال و شعارات الشيوعين تحطمت مع اول موقف حقيقي , كيف تخلى الطلاب عنه في الانتخابات , المحسوبية في البعثات الدراسية , خروجه من المعتقل خالي اليدين , محاولة تشويه سمعته من قبل احد الشيوعين المعتقلين معه .لا أشك ان الاستاذ الشبيبي الذي إجتاز السبعين قد مخضته الحياة أكثر من مرة و تعرف على معادن بشر مختلفة . أدرك تماماً ان الاطاحة بعقل الشباب أسهل و ربما لا مقارنة مع عقول الناضجين و الاكبر سناً .
إشارة لابد منها :يعتمد الدعاة دائماً ،إسلاميون وعلمانيون ,على الشباب الذين لم تجلدهم الحياة بعد و التي لم يخوضوا بها تجارب تمكنهم من إكتشاف و معرفة القدر الاكبر من كيفية التعامل مع القضايا المهمة . تعتمد هذه الدعوات على طيش هؤلاء الشباب و نزقهم و مواقفهم التي لا تعرف التأني , فتزج بهم و بقساوة في مشروع أسمه الموت من أجل القضية !بينما يتهرب اصحاب القضية و ربما يتفرجون على سذاجة و نزق الشباب المساكين و كيفية سلخ جلودهم في المعتقلات .كنت أحسب ان الظاهرة الدعوية مسجلة باسم الاسلاميين فقط , لكني وجدتها عند الشيوعيين في تلك الحقبة ماثلة و بقوة , في استلاب عقول الشباب و جعلهم مشاريع موت و قتل .ذكريات الزمن القاسي كتاب فيه تحريض للواعيين و للحكومات الحريصة على ابنائها , ان الشباب هم العمد الحقيقي لبناء الاوطان بالوقت نفسه هم الخاصرة الرخوة لتمرير مشاريع هدامة و فتاكة للوطن .الزمن القاسي كتاب انصح كل الواعين و الشباب بالتحديد لقراءته لأنه تجربة شخصية قادها و تحمل أعباءها و وزر أخطاءها المؤلف الاستاذ محمد الشبيبي .أعذرني يا صديقي فقد عشت مع محنتك اكثر مما عشت معك و تفاعلت مع أهلك و والديك أكثر منك ، و تألمت على ضياع مستقبلك الدراسي و انت الطالب الذكي أكثر من تألمي عليك و انت تجلد في أقبية السجون .اتمنى عليك ان تكتب عن إنطباعاتك و أخطائك عن تلك الحقبة و كيف تنظر لها الان .