17 نوفمبر، 2024 4:46 م
Search
Close this search box.

بر فارس والثقافة العربية

بر فارس والثقافة العربية

باستثناء المصادر البريطانية التي نشرت على الملأ في النصف الثاني من القرن العشرين، وترجم بعضها للعربية، فإن أحداً لم يطلع على التاريخ الحقيقي لمنطقة الخليج ولاسيما الجزء الشرقي منها، المعروف ببر فارس. على الرغم من أن معظمها يعود إلى ثلاثة قرون ميلادية لا غير!ولاشك أن معرفة الأسباب التي جعلت الساحل الشرقي للخليج يقبل بكل حماس على الثقافة العربية، ويتحول إلى مهجر للقبائل القاطنة في الغرب هي خطوة مفيدة لفهم حركة الثقافات في مناطق التخوم وقدرة البعض منها على تجاوز الحواجز العرقية والقومية فيها. ومع أن الكثرين ينظرون إلى التقدم الكبير الذي أنجز في تلك الأيام، بشئ من الإعجاب الممزوج بالفخر، فإن الواقع يشير إلى أنه حدث طبيعي حتمته القوانين التاريخية والاقتصادية، ولم تكن فيه أية غرابة على الإطلاق.

ولمن لا يعرف فإن بر فارس الذي يزيد طوله عن 400 كيلومتر مايزال حتى هذه اللحظة منطقة عربية ذات طبيعة قبلية. وقد أعانته الجغرافيا على الاحتفاظ بخصوصيته هذه بسبب وجود حاجز جبلي وعر بينه وبين الهضبة الإيرانية. وهو في ماعدا ذلك شريط ساحلي ضيق يصل عرضه في بعض الأماكن إلى أقل من كيلومتر واحد.  أي أن صلته بالبحر هي أقوى من صلته بالبر. ووسيلته إلى النجاة، إذا ما ضاقت به الأرض سهلة متيسرة. وهي ليست سوى قارب صغير ألف استخدامه للصيد أو الغوص أو الدفاع عن النفس في وقت الشدة!

ولأن أي ثقافة حية تمتلك نزعة الانفتاح والمصالحة والتنوع قادرة على الامتداد شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، فإن الثقافة العربية تمكنت من الولوج إلى هناك، والعيش في ذلك الشريط الساحلي الضيق. وسرعان ما جذبت إليها قبائل فارسية لم تلبث أن استعربت وتكيفت للعيش معها حاملة معها اسماً جديداً هو الهولة (بضم الهاء وكسر الواو). ويعني – في أكثر التفسيرات شيوعاً – المتحولة. وهو معنى لا يخلو من تمييز. حتى أن أصحابه الذين هاجروا في ما بعد إلى الساحل الغربي ونجحوا في الحصول على مراكز اقتصادية وعلمية لم ينجوا من هذا التصنيف. ولم ينظر إليهم على أنهم مواطنون من الدرجة الأولى. فالعرب الذين نعموا بمنتجات الحضارة الحديثة، وتربوا على الانغماس في نعيمها، انكفأوا للوراء، وخسروا الكثير من ميزاتهم القديمة التي سمحت لهم بالعيش في أماكن نائية عن أرض الوطن.

وبوسع أي متأمل لسير الحوادث أن يدرك أن العرب المقيمين هناك أقاموا مستوطنات زراعية مهمة بالاستفادة من نظام الأفلاج الشائع في المناطق الجبلية. ومايزالون حتى هذه اللحظة ينعمون بأحد عشر فلجاً منها. وهي بديل طبيعي عن الأنهار غير الموجودة فيها. والأفلاج مسارب مائية ضيقة يسير بعضها أكثر من عشرين كيلومتراً، للشرب وري المزروعات. وليست هناك دلائل على العصر الذي احتفرت فيه ولكن من الواضح أن الحياة هناك مدينة بوجودها إليها.

لقد كان العرب المهاجرون مثل أقرانهم في الساحل الغربي يفتقرون إلى السلاح القادر على منحهم المزيد من القوة للتقدم نحو الشرق وهو العلم. وفي ما إذا ما فكروا اليوم بالحصول على قدر منه عبر المدارس الرسمية التي أنشأتها الحكومة الإيرانية بلغتها الرسمية فإنهم سيكونون قادرين على الاستمرار بحمل هويتهم الخاصة والنفوذ نحو الداخل، وقد أصبح أكثر قرباً من ذي قبل، دون شك. وبدون ذلك فإن من العسير التنبؤ بالمصير الذي ينتظرهم في ما يأتي من عقود. 

أحدث المقالات