انفجار يهز وسط بيروت صباح الـ15 من كانون الاول من عام 1981 ، راح ضحيته 61 شهيدا، سمع الرجل الجالس في مكتبه بشارع الحمراء صوت الانفجار، خفق قلبه، فنطق “ياساتر يارب” بعدها بلحظات جاء من ينعي الخبر..
نسفت السفارة العراقية ..
قال بتلقائية ..
بلقيس راحت..
ذاك الرجل هو الشاعر الكبير نزار قباني وتلك الشهيدة المناضلة البطله كانت زوجته، السيده بلقيس ابراهيم الراوي.
ولدت بلقيس ابراهيم الراوي عام 1939 في بغداد بين احضان دجلة وسكنت مع عائلتها في مدينة الاعظمية وتحديدا على كورنيش نهر دجله، كانت بلقيس جميلة جدا كجمال بغداد حينها، وفي زيارته الى بغداد في ستينات القرن العشرين، اعجب بها نزار قباني عند مشاهدته لها في احدى القاعات التي كان يلقي فيها الشعر فتقدم لخطبتها فلم يوافق والدها، وغادر قباني العراق محزونا وضلت بلقيس تراود افكاره حتى عاد في مهرجان المربد الشعري وكتب قصيدة اقتطف منها :
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك وبعـضٌ من الغنـاء بكـاء مرحباً، مرحباً.. أتعرف وجهاً حفـرته الأيـام والأنـواء؟ أكل الحب من حشاشة قلبي والبقايا تقاسمتـها النسـاء كيف أحبابنا على ضفة النهر وكيف البسـاط والنـدماء؟ كان عندي هـنا أميرة حبٍ ثم ضاعت أميرتي الحسـناء أين وجهٌ في الأعظمية حلوٌ لو رأته تغار منه السـماء؟ إنني السندباد.. مزقه البحر و عـينا حـبيبتي المـيناء
بعد سماع قصيدته تعاطف العراقيون معه ومنهم الرئيس الراحل احمد حسن البكر فتوسط لنزار، وارسل لخطبة بلقيس لنزار، وزير الشباب شفيق الكمالي ووكيل وزير الخارجية شاذل طاقه فكلاهما شاعران، فوافق والدها بعد ذلك وتم الزواج عام 1969 واستمر حتى 1981 حيث استشهدت بلقيس في انفجار السفارة العراقية ببيروت، عندما كانت تعمل في الملحقية الثقافية للسفارة تاركة نزارا يشدو جراحه وعمر وزينب باشد الحاجة لحنان الام، وفيها اطلق نزار رصاص كلماته بقصيدة طويلة يرثي بها زوجته الشهيده، ساذكر مقتطفا منها ولكن قبلها ساذكر اوجه التشابه بين بلقيس وبغداد وبين قاتل بلقيس وقاتلنا..
ما اشبه بلقيس ببغداد فلهما الجمال ذاته والشموخ عينه، وذاك البهاء والزهو والعزة والكرامة والنهاية المأساوية المتشبعة بالانفجارات التي ضيعت اشلاء بلقيس واشلاء بغداد، لكل من يبحث عن سبب الانفجارات في الكرادة، مدينة الصدر، سامراء، الموصل، وكل العراق السبب واحد والفكر واحد والهدف واحد وقاتل بلقيس وقاتلنا واحد، ذاك الذي اضاع ثلث العراق، وذاك الذي سرق قوت الفقراء، واولئك اللذين يستترون بالدين ويدعون بحزب ظاهره عباءة دينيه وباطنه حزام مفخخ.
كتبت هذه المقالد تخليدا للذكرى الـ 35 لرحيل المناضلة العراقية العربية الشهيدة “بلقيس ابراهيم الراوي” رحمها الله واسكنها فسيح جناته ورحم الله رئيس جمهورية الشعر نزار قباني والرحمة والمجد والخلود لشهداءنا الابرار.
مقتطف من قصيدة الرائع نزار قباني بعد عام من استشهاد زوجته بلقيس:
شُكْرَاً لَكُمْ
شُكْرَاً لَكُمْ
فحبيبتي قُتِلَتْ وصارَ بوسْعِكُم
أن تشربوا كأساً على قبرِ الشهيدة
وقصيدتي اغتيلت ..
وهَلْ من أُمَّةٍ في الأرضِ ..
– إلاَّ نحنُ – تغتالُ القصيدة ؟
بلقيسُ …
كانتْ أجملَ المَلِكَاتِ في تاريخ بابِلْ
بلقيسُ ..
كانت أطولَ النَخْلاتِ في أرض العراقْ
كانتْ إذا تمشي ..
ترافقُها طواويسٌ ..
وتتبعُها أيائِلْ ..
بلقيسُ .. يا وَجَعِي ..
ويا وَجَعَ القصيدةِ حين تلمَسُهَا الأناملْ
هل يا تُرى ..
من بعد شَعْرِكِ سوفَ ترتفعُ السنابلْ ؟
يا نَيْنَوَى الخضراء ..
يا غجريَّتي الشقراء ..
يا أمواجَ دجلةَ . .
تلبسُ في الربيعِ بساقِهِا
أحلى الخلاخِلْ ..
قتلوكِ يا بلقيسُ ..
أيَّةُ أُمَّةٍ عربيةٍ ..
تلكَ التي
تغتالُ أصواتَ البلابِلْ ؟
أين السَّمَوْأَلُ ؟
والمُهَلْهَلُ ؟
والغطاريفُ الأوائِلْ ؟
فقبائلٌ أَكَلَتْ قبائلْ ..
وثعالبٌ قتلتْ ثعالبْ ..
وعناكبٌ قتلتْ عناكبْ ..
قَسَمَاً بعينيكِ اللتينِ إليهما ..
تأوي ملايينُ الكواكبْ ..
سأقُولُ ، يا قَمَرِي ، عن العَرَبِ العجائبْ
فهل البطولةُ كِذْبَةٌ عربيةٌ ؟
أم مثلنا التاريخُ كاذبْ ؟.
بلقيسُ
لا تتغيَّبِي عنّي
فلنَّ الشمسَ بعدكِ
لا تُضيءُ على السواحِلْ . .
سأقول في التحقيق :
إنَّ اللصَّ أصبحَ يرتدي ثوبَ المُقاتِلْ
وأقول في التحقيق :
إنَّ القائدَ الموهوبَ أصبحَ كالمُقَاوِلْ ..