لقد أثارت ردود الأفعال الشعبية على زيارة نوري المالكي الأسبوع الماضي لمحافظات جنوب العراق في ذي قار وميسان والبصرة، بما جوبه به من رفض شعبي وإحتجاجات مستمرة لم يحظى بها أي نائب لرئيس الجمهورية في أي دولة من دول العالم، أثارت تساؤلات عديدة ومشروعة أولها هل شارفت كذبة تحرير العراق وتحقيق الديمقراطية والرخاء الاقتصادي فيه على الانتهاء؟ وهل تكفي 14 عاما على كشف هذه الخدعة التي طال أمدها كل هذه السنين ومازالت؟ أن الشيء المؤكد إن هذا المشروع بما جلبه من كوارث بشرية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وحتى السياسية منها قد بدأ في التصدع ومن المتوقع إنهياره في أقرب وقت.وشئنا أم أبينا، فأن هذه الحكومة والتي هي نسخة من الحكومات السابقة منذ عام 2003 لأنها ولدت من ذات الرحم، قد وصلت الى طريق مسدود . فالتدخلات الدولية في الشأن الداخلي أصبحت واضحة لا لبس فيها، وصور المسؤولين الأجانب ترفع في شوارعها أكثر من صور المسؤولين العراقيين الذين بدوا أمامهم كدمى صغيرة ضئيلة الحجم والشأن.
وبالمقابل، فإن فكرة الولاء لأجنبي ، قد دفعت مكوناً أخر الى سلوك طريق العمالة ذاته ولكن في الاتجاه المعاكس، مما زاد الطين بلة. وغاب عن جميع الحمقى الأساس الرئيسي وأقصر الطرق لبناء الدول، الا وهو أساس المواطنة .ومن البديهي أن يقود ذلك الى تدخل الدول الأخرى، وهذا رأينا من الطبيعي أن تدفع بعض تلك الدول بقواتها المسلحة الى داخل الأراضي العراقية دون خوف أو وجل أو إجراء مضاد، ودون موافقة حكومتها الضعيفة التي لم تبقي على مقومات الدولة، فراحت تتوسل الدول في أي مناسبة، بطلب سحب قواتها، حتى لو كانت مكالمة هاتفية لتقديم العزاء لشهداء العراق على سبيل المجاملة الدبلوماسية ، كما فعل حيدر العبادي مع رئيس الجمهورية التركي في الأسبوع الماضي.في حين ظّل منصب رئيس الجمهورية فارغاً من أي محتوى وخالياً من أي فائدة باستثناء تعيين الأقارب وحضور مؤتمرات البيئة وإرسال برقيات التعزية لكل شخص في أقاصي الأرض، لا بل وصل الغباء حتى في هذا الشأن البسيط، الى إرسال برقية تعزية لعائلة فنان لم يتوفى بعد.
ومن جانب أخر، وهربا من الكثير من المشاكل، فقد حصر رئيس الوزراء نفسه في زاوية محاربة داعش، وهو هدف نبيل يجري تحقيقه بآليات ضعيفة متخلفة. فداعش ليست منظمة إرهابية فقط، لا تقوى عليها 60 دولة من التحالف الغربي ضد مجموعات إرهابية لا تملك الدبابات والطائرات والأسلحة النووية، مما يدّل على إنها مجرد صغير برعاية كبار يمنعون الاخرين من القضاء عليه رغم كل جرائمه. وأسطع مثل على ذلك ما يحدث اليوم في حلب بسوريا، حيث نرى الدول الغربية تسعى جهدها لضمان فتح ممر آمن لخروج الإرهابيين منها، والأكثر من ذلك إنها قررت تزويدهم بأسلحة متطورة. في حين يقاتل رئيس الوزراء العبادي بحشد شعبي تقوده غيرته ويفتقر لأبسط المسائل اللوجستية العسكرية في القتال. فالمقاتلين بلا خوذ عسكرية تقي رؤوسهم، وأرزاق تصل أحيانا حد الكفاف، ورواتبهم لا توازي تضحياتهم، مما جعل خسائرهم كبيرة، ناهيك عن تلاعب السياسيين بهم.
واستناداً لهذه الوقائع المريرة، وهي أكثر من أن تحصى، ساد شعور شعبي عام بالإحباط واليأس، وقاد الى الاحتقان والاحتجاج وربما سقود الى الانفجار وسلوك وسائل أكثر فاعلية في الأيام القادمة، لاسيما وإن الطبقة السياسية في العراق التي مهد لها المحتل، قد جاءت بسقط المتاع ليكونوا في موقع المسؤولية في العراق. ومن البديهي فإن هؤلاء لم يجلبوا الاّ من هم على شاكلتهم، وهكذا طردت الكفاءات من بلد مشهود له بها، فزادت البطالة وكثر عدد العاطلين بشكل كبير، في حين إنحصرت التعيينات بالأقارب والمتملقين وحملة الشهادات المزورة وحاملي الجنسيات الأجنبية وعملاء الدول الأخرى، وفتيات لا يصلحن الا للمعاشرة. لذا ليس غريبا أن نرى من كان يعمل في مطعم لغسل الصحون في الخارج قد أصبح دبلوماسيا، وأن نشهد قصابا وقد غدا وزيراً. ومن الطبيعي أن يلجأ هؤلاء الى وسائل لتمرير فسادهم أهمها الطيبة التي تنطلي على العراقيين البسطاء، فلا تراجع مسؤولا لتحدثه عن وضع كارثي الا وواجهك بنكتة أو فكاهة لخداعك. وكان جلال الطالباني أكثر الرؤساء فكاهة وتنكيتاً. وإذا ما حاصرته بالحقائق، لجأ الى تهديدك، كما هدد المالكي المحتجين بصولة فرسان ثانية، أو إقامة دعوى قضائية ضدك في قضاء منحاز، كما حدث للكاتب علي حسين وغيره. فكيف تستقيم الأمور وتقوم دولة على هذه الأسس الهزيلة.
والادهى من ذلك، إن الكثير من هؤلاء السياسيين قد بلغوا من العمر عتيا، وما زالوا متشبثين بمناصبهم، ومتمسكين بزمام السلطة ولا يغادرونها ود تجاوزا السبعين عاماً من العمر، ويعاني معظمهم من أمراض مزمنة كثيرة، ورغم كل ذلك يحرمون الشباب من أخذ حقهم في التوظيف ونيل فرصتهم في الحياة، وكان الله لم يخلق غيرهم. والامثلة على ذلك كثيرة، فرئيس الجمهورية معصوم بعمر 78 عاما، ومدحت المحمود بعمر 83 عاما، وإبراهيم الجعفري بعمر 69 عاما، ومسعود البارزاني بعمر 70 عاما، وهكذا غدا العراق دولة كهولة بالمعنى الصحيح، وهذا ما فصلناه في مقالنا (دولة الكهولة في العراق).
وإزاء هذه الأوضاع الشاذة، فعل أي مسؤول أن يتوقع أن يحصل له ما حصل للمالكي، وعلى الحكومة أن تتوقع أكثر من ذلك في الأيام القادمة، فقد وصلت الحكومة الى أرذل العمر.