كان يوسف يقف على جانب الطريق السريع الممتد على مرمى البصر. الرياح شديدة تكاد أن تقذف به الى جهاتٍ مختلفة. يوم ثلجي ليس كباقي ألأيام. إعتاد في كل صباح أن يقف في ذات المكان كأن القدر قد رسم له مكاناً يقضي فيه بقية عمره. غيومٌ كثيفة تغطي السماء وتوشك أن ترسل ماءأً ليس له قرار. رفع يديهِ مرات عديدة لسيارات تسير بسرعة جنونية كأنها لاتعترف بوجوده مطلقاً. بين الحين وألأخر يخرج يداه وينفخهما بقوة لعله يجلب لهما دفئاً كان قد فقده منذ سنوات وسنوات. حاول أن يوفر من نقود راتبه كل شهر جزئأً يسيراً ليبتاع سيارة بسيطة تحمله الى أماكن مختلفة بَيْدَ أن غلاء المعيشة وحالة عائلته وقفت عائقاً دون تحقيق هذا الهدف الذي كان يراوده أكثر من ثلاثين عاماً. كان ينظر الى هذا الكم الهائل من السيارات المتدفقة أمامه ويهجم على ذهنه سؤالاً مستمراً كلما وقف في ذلك المكان المخيف كل صباح ” من أين حصل هؤلاء البشر على هذه السيارات ؟ لماذا لم يحصل هو على واحدة؟” مارس التدريس سنوات جاوزت الثلاثين عاماً لكنه لم يستطع تحقيق ذلك الهدف. يعود الى ذاته ويستغفر الله لابل يحمدهُ على نعمة الصحة التي وهبها له الله سبحانه وتعالى. كان دائماً يستذكر كلمات والدته حينما تؤكد له أن راحة البال والصحة تعادل كل كنوز ألأرض.
كانت ترفده بحكم عن سر السعادة وراحة البال. رفع – ياقة – معطفه السميك ووضع يدهُ اليسرى في جيبهِ وظل ينظر الى السيارات القادمة من الجهة البعيدة وهو يلوح لكل سيارة تمر من أمامه. قبل أن يدب اليأس الى قلبه توقفت سيارة صغيرة بيضاء نوع بارس 2013 وراح سائقها يشير له بالتقدم صوبها. في البداية إعتقد أن صاحبها يريد منه إستفساراً عن شيءٍ ما فقد حدثت له حكايات كثيرة مثل هذا من قبل. تقدم ببطء ناحية السيارة وهو يحاول أن يُدفيْ يديهِ بحركات سريعة لا إرادية. سقطت نظراته على فتاة جميلة جدا بعمر إبنته- بلقيس- . توقف ينظر إليها بهدوء إلا أنها أشارت إليه بالصعود. لم يصدق ألأمر في البداية إلا أن صوتها الجميل راح يصرخ بطريقة تنم عن نفاذ صبر ” ..إصعد عمو أنا ذاهبة في هذا ألأتجاه” . جلس في المقعد ألأمامي وقد إعتراه إرتباك ملحوظ.كانت الفتاة تسعل بصورة مستمرة وكأنها في نوبه هيستيرية. بين فترة وأخرى تلتقط منديلاً ورقياً تمسح فيه عينيها وفمها. كان ينقل نظراته بينها وبين الطريق الطويل. حاول أن يستفسر عن سر سعالها المستمر إلأ أن حزنه عليها جعله يتوقف عن طرحِ أي سؤال. بلا مقدمات أخبرته أنها مصابة بسعال حاد منذ عدة أيام وإنها أخذت عدة أنواع من ألأدوية إلا أن السعال لم يتوقف. أخبرتهُ أنها مجبرة على الذهاب الى العمل لحاجة الشركة الماسة إليها. أخبرته أنها كانت تراه كل يوم يقف في نفس المكان وسألته عن عمله وعن أشياء كثيرة تدور في هذه الحياة. كانت مرحه جداً كأنها تعرفه منذ ولادتها .
حدثها أن والدته كانت تقول له بأن الصحة تعادل كل شيء في هذا الوجود وقد صدقت في قولها. أخذت الفتاة نفساً عميقاً كأنها كانت تحمل هم الدنيا على كاهلها. قالت له بطريقة حزينة ” ..هل تعرف ماهو حلمي في هذه الحياة ؟ بعضهم يحلمون بسيارة مارسيدس والبعض ألآخر يحلم ببيت كبير..لكن حلمي يسيط جداً أن أنام وأغفوا كل ليلة وهناك بسمة على وجهي..لادمعة ..لاوجع ولاألم..حلم بسيط ولكن صعب تنفيذه” . تَسَمَّرَ – يوسف – في مكانه كأن عاصفة هوجاء تكاد تقتلعهُ من مكانه. لم ينبس ببنت شفة. شعر أن هذه الفتاة تموج في حالةٍ من حزنٍ ليس لها مثيل. هناك شيء ما يحيل حياتها الى بؤرة من تعاسة رغم إمتلاكها هذه السيارة الجميلة التي كان يحلم بها منذ أكثر من ثلاثين عاما. هل حقاً ماتقول ؟ أم أنها تريد أن تواسيه في هذا الظرف الذي يمر فيه. أخرج منديلاً بسيطاً من جيبه وراح يمسح دمعه كادت أن تفضح رجولته أمام هذه الفتاة التي هي بعمر إبنته الوحيدة. لاحظت مدى تأثره فمنحته مسحة من الزمن يعيد فيها هيكلة رجولته المبعثرة . صمت هو وصمتت هي وكأنهما يسيران في مأتمٍ جنائزي لفقيد ضاع في ميادين القتال منذ أشهر بعيدة. حينما شعرت أنه إستعاد هيئته قالت بتحدي ” ..لماذا خرجت دموعك؟ أنا لاأريد أن يأسف لي أي أحد لقد إعتدتُ على هذا الوضع ” . نظر إليها كمن ينظر الى حكاية خرافية لم يصدق سماعها. ” ..لم أبكِ عليكِ لكنني تذكرتُ حديث والدتي وهي تشرح لي سر سعادة ألأنسان وكيف عليه أن يكون قانعاً بكل شيء. في بداية الرحلة معك كنتُ أحسدك وأحتقر ذاتي لعجزي عن تحقيق مالم أستطع تحقيقه لكنني في هذه اللحظة لاأريد من الله سبحانه وتعالى إلا الستر والصحة وراحة البال فأنها تعادل كل كنوز ألأرض.” بعد لحظات أخبرها أن تقف لأنه وصل الى المكان الذي يريده. توقفت بطريقة إنسيابية وهي تخبره بأنها ستنتظره في نفس المكان غداً وفي نفس الساعة. إنطلقت وظل يراقبها وهي تلوح له من بعيد حتى توارت عن ألأنظار.