كوبا هي عبارة عن أرخبيل من الجزر الواقعة شمال البحر الكاريبي الذي يفصل بينها وبين الجزر المكسيكية جنوباً، وتقع جغرافياً عند تلاقي المحيط الأطلسي (الأطلنطي) بخليج المكسيك بواسطة مضيق فلوريدا الذي يفصل أيضاً السواحل الشمالية لكوبا عن السواحل الجنوبية لفلوريدا الأمريكية، وحيث أعطى موقعها القريب هذا من السواحل الأمريكية أهميتها السياسية في الصراعات الدولية خاصة بين المعسكرين الشرقي والغربي أبان الحرب الباردة التي إبتدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وإستمرت الى نهاية القرن المنصرم تقريباً بتفكك الكتلة الشرقية والإتحاد السوفيتي السابق نهاية عام 1991م.
وربما من المفيد عرض بعض المعلومات بشكلٍ سريعٍ عن هذه الجزيرة التي كادت أن تتسبب بحربٍ نوويةٍ بين أكبر قطبين في العالم (الإتحاد السوفيتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية) أبان ما عرف عنها بأزمة الصواريخ الكوبية سنة 1962م.فجزيرة كوبا هي عبارة عن أراضٍ منبسطةٍ في معظمها فيما عدا بعض المرتفعات في الجنوب الشرقي للبلاد والتي تُعرف بجبال “سييرا مايسترا” والتي جاهد الثائرون بقيادة فيدل كاسترو وأخيه راؤول كاسترو والثائر الأرجنتيني الخالد أرنستو تشي جيفارا للوصول اليها والإحتماء بمرتفعاتها الشاهقة تمهيداً لإعلان الثورة والعصيان على نظام الدكتاتور “باتيستا” سنة 1956م بهدف توحيد قارة أمريكا الجنوبية.ويعتبر مناخ كوبا الإستوائي وخصوبة معظم أراضيها بيئة مثالية لزراعة قصب السكر الذي أصبح من الموارد الرئيسية للبلاد، إضافة الى زراعة التبغ وإنتاج السيكار (الچروت) الكوبي الأشهر والأغلى في العالم مثل “كريستوفر” و”كوبين أو كوهيبا” والتي تصل سعر السيكارة الواحدة منه الى أكثر من مئة دولار أمريكي في الأسواق الحرّة العالمية!!.
كما تعتبر كوبا من البلدان الغنية بالمعادن وخاصة الكوبالت الذي وضعها كخامس بلد منتج له في العالم، والنيكل كثاني أكبر إحتياطي في العالم بعد روسيا، إضافة الى وجود الحديد والنحاس والمنغنيز والسيليكا، كذلك أكتشف في السنوات الأخيرة النفط على أراضيها، وهنالك دراسات ميدانية لإمكانية إستغلاله تجارياً، وبسبب إحاطتها بمياه المحيطات والبحار فقد شملت منتجاتها الملح أيضا كثروة قومية تدر عليها المردودات المالية التي هي بأمس الحاجة لها، خاصة في ظل الحصار الإقتصادي الأمريكي لها الذي بدأ بالتلاشي في السنوات الأخيرة نتيجة الإنفتاح السياسي بين الدولتين.
ويبلغ تعداد الشعب الكوبي أكثر من أحد عشر مليون نسمة معظمهم يعيشون في المدن ويمتهنون مختلف المهن البسيطة مع إنخراط البعض منهم في المهن الخدمية التي لها علاقة بإنتعاش السياحة كنتيجة للإنفتاح الجزئي لنظام الحكم الشمولي على العالم في السنوات الأخيرة.
يُعتبر الراحل فيدل كاسترو الذي غادر العالم في السادس والعشرين من تشرين الثاني/2016م عن عمرٍ ناهز التسعين عاماً أكثر الثوريين تشدداً وتطرفاً في العالم والذي تسبب في أكثر من مرّة في زيادة التوترات السياسية الدولية بين القطبين الرئيسيين حينذاك ووصولها الى حافة المجابهات العسكرية بينهما، وربما تطرفه الشديد جاء نتيجة لِما كان يؤمن به من أفكار ثورية بلورها إيمانه المطلق بالأفكار الماركسية التي إقترنت مع مبدأ مهنته كمحامي للدفاع عن المظلومين وتحقيق العدالة الإجتماعية وكنتيجة حتمية لِما عانى منه شعبه في ظل الدكتاتورية الرأسمالية وأدواتها التي دعمتها حسب ظنّه الولايات المتحدة الأمريكية كأكبر قوة رأسمالية في العالم!!، علاوة على تمرسه النضالي وسيرة كفاحه المرير مع رفاقه الذين تطابقت رؤاهم مع منظوره الثوري على الأقل في السنوات الأولى من إعلانه قيادة العصيان تحت يافطة حركة أطلقوا عليها “حركة 26 يوليو”، فكان أخوه من والدته راؤول كاسترو الذي يقود البلد اليوم صنوهُ ورفيق دربه الذي وصفه فيدل كاسترو حين ذهب لإلقاء خطابه الشهير في الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1960م من أنه أكثر تطرفاً منه داعياً الحكومة الأمريكية للحفاظ على حياته لمصلحتهم التي سوف لن تكون أكثر أماناً في حال تبوّء أخيه الموقع الأول في السلطة!!!، وقد إكتمل ثالوثهم الثوري المتطرّف بإنضمام الطبيب الأرجنتيني الشاب أرنستو تشي جيفارا اليهما في المكسيك وتعاهدهم على البدء بتحرير كامل تراب أمريكا اللاتينة (أمريكا الجنوبية) من الهيمنة الرأسمالية تمهيداً لإعلانها فيما بعد كقارة حمراء بنظامها الشيوعي الماركسي!!، وحيثُ بدأت الخطوة الأولى بإبحار أعداد قليلة لا تتجاوز العشرات من (الرفاق) على متن مركب بائس مغادراً السواحل المكسيكية في الخامس والعشرين من تشرين الثاني سنة 1956م قاصداً السواحل الجنوبية الشرقية لكوبا (سواحل جبال سييرا مايسترا) مجتازاً البحر الكاريبي في رحلة خُططَ لها أن تكون خمسة أيام لكنها إستغرقت ضعف هذه المدّة لجهل المبحرين وقلّة خبرتهم، فوصل المركب في الخامس من كانون الأول الى موضع ساحلي بعيداً نسبياً عمّا خططوا له في مقاطعة “أورينتي” (حالياً قُسِمت الى خمسِ مقاطعات)، وقد كان في إنتظارهم القوة العسكرية الحكومية وطائراتها الحربية التي أبادت معظم الثوّار ولم يبقى منهم غير عدد قليل لا يتجاوز عدد أصابع اليد!!، ومنذ تلك اللحظة ترسخت للثائرين فكرة “الإنتصار أو الموت” حتى تحقق لهم النصر بعد ثلاث سنوات عجاف من الكفاح المسلّح الأسطوري الذي رسخ فيهم أكثر شرعية هذا الكفاح والذي سيكون لاحقاً السبب الرئيسي في مصرع أحد أهم الرموز الثورية في العالم وهو الثائر “جيفارا” الذي إختلف فكرياً فيما بعد مع رفاق نضاله وخاصة فيدل كاسترو فتنازل عن كل مناصبه الحزبية والحكومية في كوبا سنة 1965م، إضافة الى تنازله عن الجنسية الكوبية التي منحها له فيدل كاسترو وبدأ من جديد رحلة كفاحه المسلح الذي أنهى حياته في غابات بوليفيا بعد وقوعه في الأسر وإعدامه دون محاكمة في تشرين الأول سنة 1967م، ومن العوامل التي سرّعت من فشله ومصرعه بتلك الطريقة المأساوية هو ورفاقه تخلي الحزب الشيوعي البوليفي عنه بدفع من الكرملين وحثّهم على عدم مساندته ودعمه لإختلافه معهم في منظوره الثوري!!!.
في السابع والعشرين من كانون الأول/2012م سنحت لي الفرصة لزيارة كوبا كسائح لقضاء فترة أعياد رأس السنة في أفضل منتجع فيها وهو EL PATRIARCA “الپاتري یريرکا” والواقع في منطقة “VARADERO” الواقعة على ساحل مضيق فلوريدا، وإسم المنتجع يعني باللغة الإسبانية نوع من أنواع شجرة الصبّار الضخمة المتواجدة بكثرة في تلك المنطقة، والمنتجع لا يبعد سوى ساعتين تقريباً بالحافلة الى الشرق من العاصمة هافانا، وقد كان حديث العهد حيثُ لم يمضي على إفتتاحه غير أشهر معدودة، وبسبب علمي المسبق بالوضع الإقتصادي المتدني لكوبا، وتوقعي من رؤية أعلى درجات الخدمة السياحية لبلد هو بأمس الحاجة الى العملة الصعبة، وعلى الرغم من إرتفاغ سعر الإقامة لمدة أسبوع من الألف الى الياء في بلد تُعتبَر عملته الوطنية متدنية مقارنة بالعملات العالمية المعتمدة (بضمنها تذاكر الطيران ووجبات الطعام) ومقارنة بأحسن المنتجعات السياحية لبلدان البحر الكاريبي الأخرى ومنها المكسيك والتي لم تتجاوز نفس المبلغ بأحسن الأحوال (يوجد منتجعات لا تتجاوز ثلث هذا المبلغ ولنفس الفترة الزمنية ولنفس الخدمات في كل بلدان البحر الكاريبي ومنها كوبا والمكسيك أيضاً، لكنها أقل بكثير في نوعية خدماتها ومعالمها المعمارية ووحداتها السكنية وغيرها من وسائل الترفيه)، لكنني وللأسف فوجئت بالمستوى الهابط للخبرة والخدمة السياحية التي يجب أن يتمتع بها العاملون في هذه الأماكن، مع جهل المسؤولين أو القائمين على تلك المرافق السياحية لحاجة السائح عكس ما شاهدته في منتجعات المكسيك القريبة جغرافية من كوبا والتي تختلف عنها بنظامها السياسي (المقارنة تمت بين المنتجعين المصنفين عالمياً بنفس الدرجة السياحية)، إذ إنعكست على المرافق السياحية الكوبية القوانين (الإشتراكية) بمساوئها أيضاً، والتي لم يشفع لها عنوانها السياحي من الإستثناء لتلك القوانين خدمةً للسياحة ومردوداتها الإقتصادية، وإنصافاً للعاملين في المجال السياحي أقول لو وفرت لهم الحكومة الإمكانيات المادية والفنية اللازمة لإنجاح السياحة في كوبا لوجدناهم بلا شك في مقدمة دول البحر الكاريبي السياحية. ومن المفارقات لدولتين متخاصمتين لا يفصل بينهما غير مضيق مائي (أحداهما تتباهى بقيادتها للعالم الحر والأخرى تتباهى برفعها للواء الشيوعية وهما الولايات المتحدة الأمريكية وكوبا)!!، أن تتطابق الإجراءات الأمنية الإحترازية في مطاراتهما من حيث التقاط الصور للقادمين دون إستثناء وأخذ طبعات الأصابع وعدم السماح بإدخال فواكه معينة مثل الحمضيات أو قناني ماء الشرب، إضافة لبقية الإجراءات الأمنية الروتينية السارية في كل مطارات دول العالم لكن مع إختلاف الأسباب والمبررات لتلك الإجراءات المتشددة لكل من الدولتين!!.
ولنتوقف قليلاً لننصف الشعب الكوبي المسالم من وجهة نظر سائح وليس محلل سياسي أو صحفي في زيارة مهنية صحفية لبلد تباينت الآراء حول نظامه السياسي، وسأنقل مشاهداتي لواقع الحال الذي رأيته من خلال معايشتي لهذا الشعب لنهارٍ كاملٍ داخل العاصمة “هافانا” وسبعة أيام كاملة داخل المنتجع، وسأنقل حرفياً ما سمعته ورأيته من الشعب الكوبي.غادرنا المنتجع الكوبي في الساعة الثامنة صباحاً من يوم السبت المصادف التاسع والعشرين من كانون الأول/2012م متوجهين بحافلة سياحية الى هافانا التي كثيراً ما أطرب إسمها الثوّار الراديكاليين والغير راديكاليين في العالم لا بل حتى الناس العاديين الذين لا دخل لهم بالسياسة، وحيثُ إستغرقت الرحلة من المنتجع الى العاصمة هافانا بحدود الساعتين، توقفنا مرتين في الطريق لمدة قصيرة لتناول المرطبات وإختلطنا بالناس وحادثناهم، لكنهم كانوا حذرين جداً في التطرق الى الوضع المعيشي لهم، ومن محاسن الصدف أن التقيت بأحد المهندسين وسألته أسئلة عديدة وبفضول الإعلامي والصحفي فأجابني عليها بحذر وإختصار شديدين!!. وقد عادت بنا الحافلة الى المنتجع الساعة الثامنة ليلاً، وسأورد أدناه مختصر لما سجلته ذاكرتي وقلمي عن هافانا وكوبا بشكلٍ عامٍ:ـ يعتبر النظام في كوبا أكثر الأنظمة الشمولية قوة وأطولها بقاءاً في العالم.
ـ إسم هافانا باللغة الإسبانية يُكتبت ويُلفظ هابانا (HABANA)، وباللغة الإنكليزية هافانا (HAVANA).ـ الإستعمار الإسباني ترك أثره الواضح من حيث اللغة والعادات، وكما تبين لنا خلال جولتنا الحرّة وما أخبرتنا به المرشدة السياحية.ـ كانت عصابات المافيا متواجدة وبقوة قبل الثورة الكوبية وكما ذكرت المرشدة السياحية.ـ عدد نفوس هافانا لوحدها يصل الى (2.5) مليون نسمة.
ـ السيارات الأمريكية القديمة منذ زمن الدكتاتور “باتيستا” أي قبل الثورة الكوبية في 1959م لا تزال تعمل وبمحركات محوّرة لنوعيات أخرى روسية (فولكا، لادا ومسكوفيج)، ولم نشاهد غيرها في الشوارع عدا البعض القليل جداّ من السيارات الروسية القديمة!!!.ـ اللافت للنظر عدم وجود أي صور معلّقة لقادتهم السياسيين الأحياء، وإنما وجدنا وبكثرة وفي كل مكان صور الراحلين من القادة وبشكلٍ خاصٍ جيفارا الثائر، وقد أخبرتنا المرشدة السياحية من أنهم لا يمجّدون الأحياء من القادة!!!.ـ نسبة 85% من الشعب الكوبي لا يزال يعيش في حالة الفقر أو تحت خط الفقر، وقد شاهدنا العديد من الفرق الموسيقية الشعبية الجوّالة التي تتخذ من الموسيقى مصدر رزق وعيش لها، وهي إحدى الوسائل التي تعكس التراث الفني للكوبيين ودول أمريكا الجنوبية عموماً، كذلك تُعتبر إحدى الوسائل للتنفيس والترفيه من الضغوط الحياتية وتعكس الطبيعة المسالمة والطيبة للشعب الكوبي وفقاً للمقولة المأثورة “إذا طابت النفوس غنّت”.ـ كانت لنا جولة حرّة في هافانا لمدة (8) ساعات شملت المتاحف والمناطق الأثرية والساحات العامة والأسواق والمطاعم، والحقيقة فقد يبدو للسائح بأن هافانا وكوبا بشكلٍ عام أثرية وعبارة عن متحف مفتوح في الهواء الطلق، وحيثُ توقف الزمن فيها منذ الخامس من تشرين الثاني 1959م يوم إنتصرت الثورة الكوبية على الدكتاتورية!!، فلم نرى أي سيارة تجاوزت سنة صنعها 1959م كما ذكرت سابقاً، حتى السيارات الروسية لا وجود لأثرها بشكلٍ ملحوظ ومكثّف في الشوارع، وعندما سألتُ الدليل السياحي عن السبب قالت بإنها غالية الثمن وقد يصل سعر الواحدة منها الى (40) الف دولار أو أكثر!!، ومن الصعب جداً شرائها!!، أما الأبنية فقد بقيت على حالها مع الصيانة المستمرة لها دون وجود أي صرح معماري حديث إلا ما ندر والذي يخص الساحات العامة القليلة والمعروفة وحيثُ إبتدأ التغيير بصعود راؤول كاسترو الى سدة الحكم.
ـ الأبنية الحكومية جميعها محاطة بحراسة مشددة من الجيش والشرطة!!، تميّز رجال الشرطة بلون قمصانهم الزرقاء الفاتحة وبسراويلهم النيلي، أما الجيش فكان لون لباسهم زيتوني!!.
ـ عندما حاولنا أخذ الصور بكثرة في ساحة “الثورة” والأبنية المحيطة بها تحرك رجال الشرطة والجيش من أماكنهم الثابتة في الساحة وتوجهوا الينا بشكل ودّي إشارة الى التوقف عن أخذ الصور والمغادرة!!، وهذا ما حصل!!، حيثُ طلبت المرشدة السياحية من السائق مغادرة المكان. ـ نسبة السوّاح الكنديين تبلغ 45% من مجموع السوّاح سنوياً وتأتي بالمرتبة الأولى وبعدها السوّاح من روسيا!!، ولا يسمح بالتعامل بالدولار الأمريكي داخل كوبا.
ـ العملة المالية لكوبا هي الـ “بيزو” ولديهم نوعان منها: النوع الأول بدون غطاء نقدي دولي وتستعمل للتداول الداخلي (المحلّي) بين أبناء الشعب الكوبي وهي أقل بـ (25) مرة أو أكثر من النوع الثاني المدعوم نقدياً والذي يتداوله السوّاح والأجانب بصورة عامة، وتساوي العملة المدعومة الدولار الأمريكي تقريباً في سوق صرف العملات.
ـ الشعب الكوبي بشكلٍ عامٍ بعيد كل البعد عن التطور الحضاري بكافة أشكاله، وهذا ما كان واضحاً من الأبنية القديمة ووسائل النقل (فيما عدا الحافلات السياحية التي أيضاً لا ترقى الى مثيلاتها في بلدان أخرى)، وقد أذهلتني إحدى النادلات في احد المطاعم داخل المنتجع والذي صنّف بالخمسة نجوم ووضعتني في موقف محرج قبل أن تضع نفسها فيه حين طلبتُ منها تسخين الشاي البارد الذي جلبته لي بواسطة المايكرويف للسرعة، فوقفت مشدوهة أمامي، إذ لم تسمع بهذا (الإختراع) من قبل!!، وبعد أن حاولت تجاوز الأمر بشرحه لها إعتذرت لعدم توفره في كوبا!!، وقصّت لي بعد أن إطمئنت مني كيف أن السوّاح الكنديين قد عزفوا عن المجيء الى كوبا بعد السنة الأولى التي فتح فيها هذا البلد أبوابه للسوّاح، وبعد أن إستفسر المسؤولون الكوبيون عن السبب وجدوا بأن مطاعمهم السياحية لم تكن تقدم اللحوم في وجباتها الرئيسية وإنما تستعيض عنه بالبيض كحال الكوبيين!!، مما أزعج السوّاح القادمين للأكل والشرب والإستمتاع بالسواحل وأماكن الترفيه فيها!!!، فشعرتُ بالأسى على هذا الشعب الذي بدا لي ولجميع السوّاح من أطيب الشعوب التي عرفتها، فلعنت الأنظمة الشمولية وشعاراتها البرّاقة التي أوهمت شعوبها بحياة أفضل، لكن الحياة الأفضل لم تتحقق إلاّ لنخبة (المناضلين) الذين ساعدتهم شعوبهم في الوصول الى سدّة الحكم فتمسكوا بها وللأبد متنعمين بإمتيازاتها وتاركين شعوبهم على حالهم.
ـ سألت المرشدة السياحية مازحاً وقاصداً معرفة المزيد عن بطل الثورة الكوبية من أفواه مواطنيه في الداخل وقلتُ لها: هل بالإمكان مقابلة أو رؤية فيدل كاسترو؟!!، فنظرت لي بتمعن وقالت: من الصعب جداً رؤيته، فهو يتجول في بعض الأحيان ضمن قافلة متكونة من ثلاث سيارات نوع ميرسيدس ولا أحد يعلم في أي سيارة منها يكون (تعرض فيدل كاسترو لأكثر من ستمئة محاولة إغتيال منذ تسنمه لمنصبه وحسب زعمه، وقد إعترفت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالبعض القليل منها، لذا هو دائم الحذر)!!، ففهمتُ رسالتها المشفّرة عندما ذكرت نوعية السيارات، ولعلمي بثورية هذا القائد ومعاداته لكل ما هو مصنوع في الدول الرأسمالية وحسب ما قرأناه في مذكرات الثائر جيفارا عن سلوكية قائد ثورتهم فيدل كاسترو وأدبيات الثورة الكوبية، لذا فقد تناغم سؤالي الثاني مع جوابها المشفّر مستفسراً ومتظاهراً بالتعجب: كيف للثوري والشيوعي الماركسي فيدل كاسترو قبول إستملاك وإستخدام سيارة صنعتها إحدى أهم الدول الرأسمالية؟؟؟!!!، فكان جوابها بأنهم أرسلوها له هدية!!، وحيث كان الجواب متوقعاً كوننا خبرنا هذه الأجوبة في البلدان التي ترفع الشعارات دون تطبيقها على قادتها، وحيثُ بدا لي من أنها كانت قد هيأت الجواب مسبقاً ولعلمي من أن المرشدين السياحيين في الدول ذات الأنظمة الشمولية يخضعون لدورات مخابراتية وأمنية مكثفة وغالباً ما يكونوا وكلاء لتلك الأجهزة!!.ـ أخبرتنا المرشدة السياحية من أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية تدفع سنوياً (20) مليون دولاراً أمريكياً للكوبيين المناهضين للثورة الكوبية لزعزعة النظام في كوبا.ـ الرواتب متدنية، وكمثال على ذلك لا يتجاوز راتب المهندس شهرياً أكثر من (400) بيزو محلّي (أي بحدود 15- 18 دولاراً أمريكياً)، أي نصف دولاراً أمريكياً في اليوم الواحد، فما بال بقية الوظائف!!.ـ المناطق السياحية (المنتجعات) معزولة، وهنالك بوابة كبيرة بنقطة تفتيش تبعد بحدود (2-3)كم عن مركز مجمع الفنادق السياحية ومنتجعاتها. ـ الإستقرار الأمني عالي والأمان سائد على مدار الساعة ليلاً ونهاراً ويستطيع السائح مغادرة المجمع السياحي ليلاً لقضاء السهرة في النوادي المنتشرة في هافانا (هذا ما أخبرني به بعض السوّاح الذين التقيتهم هنالك والذين خرجوا بمفردهم من المجمع دون مشاركة المجموعات السياحية)، وحيثُ أن هذا الأمان غير متوفر بدرجته العالية في البلدان السياحية الأخرى المطلّة على البحر الكاريبي، ويعود هذا الأمر الى طبيعة النظام وحيثُ وجدنا من أن المسافات بين رجال الشرطة والجيش المنتشرين على طول الشوارع الداخلية لا تتجاوز عشرات الأمتار خاصة في المناطق المزدحمة.ـ على الرغم مما ذكرته أعلاه يبدو للزائر من أنّ الشعب الكوبي شعب حي يحب الحياة.وسأنهي تقريري هذا بإعتذار مسبق لمن لا يتوافقون مع طرحي الحيادي للحقائق مع أو ضد نظام الحكم في كوبا وأن لا يذهبوا بعيداً في تصوراتهم من أنّ ما ذكرته هو دعاية مؤيدة أو مضادة للثورة الكوبية وزعيمها الراحل، لكن الحقيقة التي مثلت أمامي بوضوح هي فشل التجربة الثورية الكوبية في تنفيذ برنامجها الذي أعلنته بعد الثورة، وحيثُ فشلت أيضاً في التأثير على بقية دول أمريكا اللاتينية ولأسباب عديدة أولها الدعاية المضادة، وثانيها عدم تنفيذ قادة الثورة للكثير من وعودهم، وثالثهما الحصار الأمريكي، وهذا ما كان واضحاً من خلال عدم تجاوب الشعب البوليفي وطبقته الكادحة مع دعوة الثائر جيفارا ورفضهم من الإنضمام الى مجموعته الثائرة حين أعلن عصيانه في غابات بوليفيا بعد ست سنوات تقريباً من إنتصار الثورة الكوبية التي كان عمادها المزارعين، وحيثُ صدموا بنتائج الثورة الكوبية، مما حدا بالطبقة الكادحة والمزارعين البوليفيين للعمل كجواسيس ومخبرين للحكومة بأكثريتهم الساحقة ضد حركة جيفارا وكما جاء في مذكراته التي تكلّم عنها بمرارة الثائر الواهب حياته لإسعاد الفقراء وتحقيق العدالة لهم!!.وسننتظر لنرى ماذا سيحصل بين كوبا الشيوعية ورئيسها الجديد راؤول كاسترو وأمريكا الرأسمالية ورئيسها الجديد ترامب؟، وهل ستنتهي حالة الشد والعداء بين الدولتين الجارتين؟، وهل سيغير راؤول كاسترو بشكلٍ مدروس نظام الحكم المغلق لينفتح على العالم الغربي قليلاً كما فعل قادة الصين بعد حكم ماو تسي تونغ؟؟!!.