22 نوفمبر، 2024 11:01 م
Search
Close this search box.

مسلمو بورما .. بين حكم العسكر وعقدة الانتماء

مسلمو بورما .. بين حكم العسكر وعقدة الانتماء

مثل كل الصراعات عبر التاريخ البشري وطبيعة أشكالها وأسبابها التي تظهر فيهما للعيان، نجد دائما إن هناك دوافع خفية تكمن بين طياتها، تكون هي المحرك الرئيسي لفصولها وأحداثها، فمنذ نشأة الأديان على هذه الأرض، والقلة القليلة من الحروب والنزاعات قد أخذت بعدا سياسيا معلنا فيما بين الناس في حراكهم عبر التاريخ، كون أغلبها قد طغى عليها البعد ألاثني والعقائدي، وأريد لها أن تكون بهذه الصبغة،

لكن من يبحث عن أسبابها الحقيقية الدفينة سيجدها عبارة عن، طموحات شخصية نفعية، أو اقتصادية، أو صراعات الهدف منها الاستحواذ على السلطة، وغيرها من الأطماع الدنيوية التي ليس لها أي علاقة بالدين لا من قريب ولا من بعيد، والتاريخ متخم بالشواهد والقصص التي تتحدث عن حروب وصراعات دموية جرت بين الشعوب والأمم اتخذت من الدين والعرق والعقيدة شعارا لها، وكان الهدف من ورائها أجندات سياسية اتخذت من هذه الأسباب  وسيلة لخداع الناس واستغلال عواطفهم وحماستهم الدينية والقومية لصالح هذه الأجندات، ابتداء بجزء كبير مما يسمى بالفتوحات الإسلامية، إلى الحروب الصليبية، وحروب البروتستانت والكاثوليك في أوربا القرون الوسطى، وفي العصر الحديث مجازر الهندوس والمسلمين في الهند بعد الاستقلال عام 1947 ، والهوتو والتوتسي في راوندا (1990 -1993)، وحرب البوسنة والهرسك التي حدثت  بعد انهيار المعسكر الاشتراكي في أوربا الشرقية إضافة إلى النزاعات الأثنية والعرقية التي تجتاح القارة السمراء على امتداد تاريخها الحديث، وغيرها العشرات من الشواهد والأحداث، والتي اغلبها سجلت حضورا واضحا للمحافل والمنظمات الدولية التي سعت إلى حل هذه النزاعات ومعاقبة الجنات والمعتدين..

لكن الذي يثير الاستغراب هو الصمت الدولي والإسلامي عن ما يحدث في جمهورية مينمار (بورما)، تلك الدولة المنغلقة على نفسها بسبب حكم العسكر لها منذ عام 1962 والواقعة ضمن دول الهند الصينية في جنوب شرق أسيا، حيث  انتهج هؤلاء العسكر سياسة التطهير العرقي والديني ضد الأقلية المسلمة في البلاد، لأسباب سياسية وبأسم الدين الهدف منها السيطرة على مدنهم و قراهم ومصادرة أراضيهم الزراعية وأموالهم وطردهم من للبلاد، فقد قام هذا النظام بتهجير أكثر من ستمائة ألف مسلم بورمي إلى بنغلادش بين عامي (1978-1992)..

وكانت توضع علامات على  القرى المهجر أهلها بأنها قرى خالية من المسلمين، وكذلك قام بسحب الجنسية البورمية عن مسلمي بورما عام 1982 بحجة إنهم متوطنون في بورما وليسوا مواطنين، وأصدروا قوانين منعتهم من التعليم ودخول المعاهد والجامعات فيها، مما سبب الجهل والتخلف بين أفراد هذه الطائفة التي تشكل  خمسة عشر بالمائة من سكان بورما ذي الخمسة والخمسون مليون نسمة، والذين يسكن اغلبهم في إقليم (راكان) الواقع على خليج البنغال، والذي يعتبر امتداد لسلسلة جبال الهملايا .. وقد وصل الإسلام إلى هذه البلاد بشكل رئيسي أبان حكم المغولي للهند، ويعتقد بعض المؤرخون  إن بداية العداء بين المسلمين والبوذيين  بدأ حين لجأ الابن الثاني لشاه جيهان الملك المغولي صاحب تاج محل إلى بورما في القرن السابع عشر الميلادي، وبالتحديد إلى إقليم راكان بعد أن خسر الحرب مع أخيه من اجل الاستيلاء على السلطة، وعندها أواه ملكها البوذي وطلب منه الزواج من ابنته وتبعا للأعراف الدينية عند المسلمين رفض أن يزوجه كونه بوذي الديانة، عندها قام بقتله هو ورجال الأسرة المغولية، وسجن نسائها وموتهن جوعا في السجن.. إلا إن بعض المصادر التاريخية تشير إلى إن الإسلام قد وصل إلى هذه البلاد في أزمنة ابعد من ذلك بكثير، وهناك أسطورة تقول إن بعض التجار المسلمون في القرن الأول الهجري سافروا إلى البنغال للتجارة فغرقت سفينتهم هناك قبالة السواحل البورمية والذين نجوا من الغرق عاشوا في بورما وتزوجوا من نسائها ونشروا الإسلام بين أهلها، وان الصحابي سعد بن أبي وقاص قد زارها للتجارة ..إلا إن هذه الروايات عائمة وغير ذات دلالة تاريخية رصينة ، وان أول مملكة مسلمة نشأت في بورما هي في راكان وأسسها سليمان شاه عام 1430 وقد تعاقب على حكمها ثمانية وأربعون ملك مسلم ودامت ثلاث قرون، ويشكل المسلمون هناك خليط من الأعراق (صينيون وهنود وأصول عربية وفارسية ) ويلقبون (الروهينجا ) ويبلغ تعدادهم اليوم أكثر من ثمانية ملايين نسمة .. وان الكثير من  المسلمين قد دخلوا بورما بعد الاحتلال البريطاني لها عام 1824ميلادي وهم الهنود حيث استقدمتهم السلطات البريطانية معها كموظفين إدارة وعمال وجنود، وقد تركت معظمهم بعد استقلال بورما عام 1948 ، وعلى الرغم من تعدد الأعراق لدى هذه الطائفة فان البوذيين ينظرون إليهم على إنهم حالة واحدة، وأثناء احتلال بريطانيا  لهذا البلد سعت إلى  تأجيج الصراع ألاثني بينهم وبين البوذيين من (مبدأ فرق تسود) وخصوصا بعد تنامي الحركات الوطنية المطالبة بالاستقلال والمدعومة من اليابان كحركة (الرفاق الثلاثون )

التي تأسست عام 1940والتي طالبت بخروج القوات البريطانية من بورما، وحدد الكاتب البريطاني موريس كوليس في كتابه (المحاكمات في بورما) الأسباب الحقيقية للصراع ألاثني في بورما والذي استند فيه على أجزاء من فصول الكتاب الأبيض للحكومة البريطانية الصادر عام 1919 بمجموعة من الأسباب، أكثرها ذات طابع اقتصادي وسياسي ومنها، اضطهاد المغول المسلمين للبوذين الهنود وإجبارهم على اعتناق الإسلام أثناء الحكم المغولي للهند، وانخفاض المستوى المعيشي للمهاجرين المسلمين من الهند واستعدادهم للقيام بأي عمل مهما كانت صعوبته أو خطورته مما شكل عامل منافسة على فرص العمل مع السكان الأصليين، إضافة إلى سيطرتهم على معظم الوظائف الإدارية في البلاد والتي منحتها لهم السلطات البريطانية على حساب سكانها أثناء الاحتلال البريطاني لها، وحدثت أول أعمال عنف ضد مسلمي بورما عام 1930 حين اجتاحت الأزمة الاقتصادية العالم فاضرب عمال الموانئ الهنود المسلمين عن العمل مطالبين الشركات البريطانية بزيادة أجورهم، وفي اليوم التالي استقدمت هذه الشركات عمالة بورمية بوذية

بدلا منهم مما سبب اندلاع أعمال العنف بين الطائفتين راح ضحيتها في اليوم الأول مائتين عامل مسلم، ومن ثم انتشرت أعمال العنف في جميع أنحاء بورما ولم يعرف عدد المسلمين الذين قتلوا في تلك الأحداث الدامية، ومن ثم مجزرة عام 1942 والتي راح ضحيتها أكثر من مئة ألف مسلم قتلوا بسبب نشر الصحف البورمية والتي تشرف عليها سلطة الاحتلال البريطانية صورا لثلاثة رهبان بوذيين هنود  قتلوا لخروجهم بمظاهرة ضد مسلمي بورما في إحدى أسواق المسلمين في الهند، وعندها اندلعت أعمال عنف ضد مسلمي بورما وقتل الأبرياء وهدم أكثر من مئة مسجد للمسلمين .. واستمرت هذه المذابح بحقهم متخذة شكلها الطائفي البغيض تحت أعذار وحجج واهية  

كما يحدث الآن ومنها، محاولة منع  المسلمين من ذبح الدجاج والمواشي لأكلها كون هذه الأعمال تتقاطع مع معتقدات الأغلبية البوذية في البلاد، مما استدعى ارتكاب المذابح بحقهم واضطر الكثير منهم إلى الهروب عن طريق البحر إلى تايلند، والتي يقوم خفر السواحل فيها بإلقاء القبض عليهم وضربهم وأعادتهم  للبحر مرة أخرى، وقد طالب الرئيس البورمي (ثين سين) الأمم المتحدة بإيواء مسلمي بلده في مخيمات تحت إشرافها أو ترحيلهم من البلاد .. إن هذا الصمت المطبق من العالم ومنظماته الدولية اتجاه ما حدث ويحدث في بورما بحق الأقلية المسلمة، يكشف عن زيف ادعاء دوله العظمى بتصديها للدفاع عن حقوق الإنسان وحماية الأقليات فيه، وان التحرك الأخير للأمم المتحدة وإرسالها وفدا برئاسة كوفي عنان لتقصي الحقائق، هو محاولة بائسة لا ترقى إلى خطورة ما يحدث هناك وجسامته.. وان هذا التجاهل والصمت الدولي، منبعه  كون موقع بورما تقع جغرافيا في أقصى الشرق من العالم، ومواردها الاقتصادية الفقيرة لا تشكل أي أهمية لهذه الدول الكبرى، التي تتحكم وتسيطر على معظم الهيئات الدولية، وأن تدخلها في بقعة من العالم يكون تبعا لأطماعها ومصالحها الاقتصادية .. وأما الدول الإسلامية ومنظماتها وهيئاتها فقد انشغلت بربيع التطرف العربي، وسعيها لتأجيج الصراع الطائفي بين مسلمي المنطقة، وسيبقى ما يحدث هناك وصمة عار بجبين الإنسانية وصرخة مدوية تكشف كذبة شعارات (الحرية وحقوق الإنسان والمواطنة )..والتي استباحت بها  أميركا وأوربا الحرة بجيوشها وترسانتها العسكرية، بعض دول العالم تحت هذا العنوان الزائف. …. العراق

أحدث المقالات