نقد مقدّم من الناقدة السورية الدكتورة /عبير خالد يحيي/ لقصيدة الشاعر السوري/ سليم الجط /المعنونة ب (لماذا؟؟؟) والمنشورة كنص مثبت في رابطة الأدباء والنقاد والمترجمين العرب.
المقدمة :
الشاعر المهندس سليم الجط، شاعر سوري من بلد الياسمين، نشأ على ضفاف بردى ، وانتشى عبقاً بياسمينها، وانطلق ينشد في حبها عشرات القصائد، هو عصفور دمشقي وهذا لقب حازه بجدارة، من يسمعه وهو يلقي قصائده، يسمع تغريد العصفور الدوري الأسمر،الذي لا يتوقف عن الشدو، وكأنه إن فعل توقف عن تنفس الحياة ..لكن نصه هنا مختلف، فيه الكثير من الحزن والتأسي ، شاعر وجداني وقف قلمه في خدمة الوجدان الإنساني، واستحق بحق لقب العصفور الدمشقي.
الصورة الكلية للقصيدة:القصيدة شعر عمودي من بحر مجزوء الوافر
مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن مفاعلتن
النص وجداني فيه صرخة إنسانية غاضبة كلها أسى وجلد للذات على التفريط بما مضى والمحاسبة على ما أتى، أسئلة حيرت الشاعر وجعلته يدور في فلك الاستنكار، واستعراض لواقع مأساوي ، حزن وخوف جهل، وحرب وويلاتها، تهجير وتشريد وجوع وعري، فراغ فكري، ذُل وهوان، تقريع شديد اللهجة، ثم تلين قليلاً لتنتهي بدعوة إلى العودة من الغربة ، غربة الروح والجسد ،مع بث روح التفاؤل والثقة بعطاء الله.
النص متماسك، والعلاقة بين الألفاظ والمعاني علاقة مترابطة تبادلية محسوسة، إذا أسقطناه على بيئة الشاعر نجد اندماجاً شبه كامل..
النص وجداني بالكامل، من العنوان إلى نهايته، زخر بالصور الشعرية التي تنوّعت بتنوّع المواضيع فيه.
العاطفة جياشة تركت لتأخذ مداها في كل نواحي النص.
البيئة التي قيل فيها النص :
بلده المكلوم سوريا ، وبالمجمل كل الوطن العربي .
الفكرة العامة للقصيدة ( المعاني والقيم الجمالية ):
النص قصيدة من الشعر القريض، من مجزوء الوافر ، هذا البحر الجميل الذي تنساب موسيقاه سلسة متناغمة، تتفاعل معها الأذن تفاعلاً إيجابياً جميلاً ، قافيتها حرف الألف، من حروف المد التي تنطلق من الجوف لتنتشر في الهواء بامتداد يتوافق مع شدة العاطفة والمعنى.
تبدأ القصيدة باسم استفهام (لماذا ) مع ثلاث إشارات استفهام دليل على شدة الحيرة .
السؤال الذي يبدأ ب (لماذا) جوابه تعليلي وتفسيري يبدأ ب (لأن)،لكن الشاعر لم يحِرْ جواباً، لذلك انتقل من التساؤلات الحائرة إلى التقريع وجلد الذات والتهكم على واقع الحال وتعرية أمراض المجتمع ككل.
يستكثر الشاعر عذاباته بأسئلة حيرى، لا يجد جوابها، يستعرضها، لماذا يجري الحزن فينا جري الدم في العروق ؟ ولماذا يطغى على أغانينا، قدرنا أن يطربنا ويسامرنا، و إلى متى يقيم الجهل فينا؟ شبهه بالجن الذي يتلبّس بالجسد فيسلبه الإرادة ويحيله مجنوناً، يطرح مرضا ثالثاً ابتلينا به، الحرب بويلاتها وتوابعها ، الشقاء العراء، التهجير والتفريق بين آلاف بل بين ملايين البشر، تقتلنا تخنق أنفاسنا، وتقدّمنا أضاحي وقرابين على النصب..
مرض آخر أصابنا نحن العرب ليس من فقر أصيل وإنما من ثراء، لكن الواقع المزري جعل من الجوع وحشاً ينهش فينا..وجعل من الفقر داءً مستديماً.
وآفة أخرى تجذّرت فينا ، الخوف الذي بنى أعشاشه بالعيون، والذل الذي يقتلنا، والموت الذي نتجرعه شراباً.. الشهوة والأنانية التي أعمت بصائرنا، ووطن نأسف أنه غدا سكيناً يطعننا ، تتوالد الآهات فينا، تلك الأمراض التي تكالبت علينا ، من يملك لنا منها شفاء وبراء؟
وتأتي مرحلة أخرى وهي تعداد الخسائر والخيبات ، فقدنا الأصالة، وخسرنا العروبة ،الأماني ، أصابنا الخواء الروحي، نرتمي في المجهول، اجتهدنا اجتهادات الخيبة، أصدرنا الفتاوي التي استبحنا بها المحارم، القتل، والتكفير والمحاسبة، وضعنا قوانيننا الوضعية وكنا أول من خالفها، بعنا الكرامة، وصاحبنا الشياطين في سبيل غاياتنا، دفنّا أمجادنا فما زالت الحمراء بأسبانية تذكرنا و تبكينا حضارة سادت ثم بادت، وخنّا انتصاراتنا، بعنا القدس وخنّا حطين، ويسخر الشاعر مهنئاً : تهانينا تهانينا، ماتت فينا المحبة و قبرنا الفكر والعقل، واتبعنا الكذب والهلهلة، و بتنا كأن لا زمن ولا تاريخ ولا ماضٍ يجمعنا ، وكأن كل ذلك كان وهماً وسراباً، عبدنا المال وسيّدنا الظلم، وحكَمَنا الأنذال من الأقوام الذين عاثوا فساداً في ديارنا، ضاع العمر وبَقى خيالنا المريض يصوّر لنا أننا ملائكة وأن الباقي شياطين، لا نقبل الآخر ونظن أننا معصومين عن الخطأ، وما زلنا بعقلنا القاصر، ندعو الله ان يرزقنا الصبيان، تخيم علينا جاهلية عار البنات..
ويشتد تقريع الشاعر وتعلو نبرته، أين أنتم يا من تغرّبتم عن ذواتكم؟ لم تجعلكم الغربة لا وروداً ، ولم تفُح منكم رائحة الرياحين،
يلين الشاعر قليلاً وبنبرة متخافتة يدعو أهله وشعبه إلى العودة، فهو يرى في عودتهم خيراً كثيراً، ويبشرهم بأن الخير لا بد آتٍ ، يتدفق تدفق النهر، فقط ليحسنوا الظن بكرم الله وليتفاءلوا بالقادم ، ويؤمّنوا على الدعاء.
الفكرة في القصيدة ليست جديدة، كونها تحكي حالاً ما زال قائماً منذ عقود، لكنها وعلى الرغم من أنها قصيدة عمودية فقد طرحت عدة قضايا ، بخلاف القصيدة العمودية التي تحكي فكرة واحدة ..
لا نشك بصحة المواضيع لأنها معاشة .
المعاني الشعرية أيضاً ليست جديدة، لكنها مرتبة ترتيباً يجعل وقعها مباشراً دون التواء أو مخاتلة، عميقة جداً رغم تعدد مواضيعها، وهي تعكس مقدرة الشاعر على استخدام وتوظيف أدواته بدقة ومهارة .
العاطفة :
وجدانية إنسانية وطنية، حيرة وارتباك، وحزن وتأسي، سخرية سوداء، و تقريع وجلد ، ثم دعوة بالحكمة إلى ترك الغربة والاتحاد، والعودة إلى الأصل ، والثقة والتفاؤل بخير الله.
وهي عاطفة صادقة جداً، مجرّبة عند كل ذي وجدان .
خيال الشاعر :
لا يكاد بيت من القصيدة يخلو من صورة بيانية وعلى سييل المثال لا الحصر
(لماذا الحزن في دمنا) استعارة
(كجن ساكن فينا ) تشبيه
( تجعلنا قرابينا) تشبيه
( الجوع ينهشنا) استعارة
(فوضى الروح تأكلنا) استعارة
(صار المال مولانا) استعارة
–
–
–
الأسلوب :
أدبي راقٍ ، استخدم فيه الشاعرةالتراكيب الغنية بالصور البيانية والخيال والوصف ، ألبس المعنوي ثوب المحسوس
(الحزن في دمنا)
( أيبقى الجهل أعواماً كجن ساكن فينا)
(وصار الجوع ينهشنا)
( الخوف يسكننا)
(يعشعش في مآقينا)
-( الشهوة تمزقنا)
-( وآهاً أثمرت آهاً)
–
وألبس المحسوس ثوب المعنوي:
( تجعلنا قرابينا)
( قصائدنا ممزقة )
ولم تخلُ القصيدة من الحكمة والنصح ورسالة واضحة بالعودة إلى الأصل والوحدة ، والتفاؤل بالمستقبل
التمركز التفكيكي :
تمركز النص حول فكرة الغربة عن النفس وعن الواقع وعن الوطن، وكان الحزن والخوف والألم والسخرية والتفاؤل والحكمة هي المحاور التي دارت حول هذه النواة المركزية،
التكميم التفكيكي:
ويعتبر التكميم، أحد عناصر تحليل المضمون الهامة، في تفكيك النصوص، ويقصد به تحويل المعاني من مفردات أو تعابير أخرى إلى أرقام، ومن ثم اكتشاف دلالة الرقم، ويتم هذا التكميم أو التحليل الرقمي بمنهجية، وفق خطوات معروفة، ولغايات محددة، وتتوخى درجة الموضوعية و الحيادية فيه، وتجنب الأحكام الذاتية في هذا التحليل، و وحدات التحليل الأساسية هي : الحرف ، والكلمة، و العبارة، والفقرة، والفكرة، والشخصية، والزمان، والمكان …ومن ذلك يكتسب هذا المنهج العلمي التفكيكي منهجيته العلمية، بأنه يمكِّن الباحث من التعمق والاندماج في صلب الموضوع، و يساعده أيضاً على الوصول إلى إجابات مقنعة عن الأسئلة التي تثار حول النص، وذلك بفضل قدرة التفكيك على التفسير الذي يزيل الغموض، ويظهر الغايات المقصودة من النص بوضوح، وكذلك يساعد على إظهار المعاني الدفينة والمخبوءة في النص، وإجلاء مضامينه على نحو دقيق، ويفيد هذا المنهج العلمي، المجتمع والباحثين في الأدب والعلوم الأخرى بأنه يصف الظروف والممارسات في المجتمع، ويبرز الاتجاهات المختلفة، ويساعد على الكشف عن نقاط الضعف والقوة والتناقضات، ويساعد على تطوير الأداء، و إظهار الفروق في الممارسات، وتقويم العلاقات بين الأهداف المرسومة وما يتم تطبيقه على الكشف عن اتجاهات الناس وميولهم.
وقد استخدم الشاعر نوعين من المفردات :1-المفردات والمعاني الثابتة: وهي المفردات التي أخذت بنوعي المفردات النحوية الأساسية الاثنتين (مفردات المحتوى content words ومفردات التركيب function word)2- المفردات الدلالية المتكررة ، وتلك المفردات حركها الكاتب بشكل فني مدروس لإعطاء جمالية في النص ، فأعطى لكل مفردة وظيفة معينة ، وعمل على تكرارها بشكل واعٍ ، لتعطي دلالات تضيف عمقاً لبنية النص .
حاولت تطبيق التكميم التفكيكي على النص، أجريت حساباً رياضياً لجميع الكلمات المعبرة، بعد أن حوَّلتها إلى أرقام بدلالات
تفكيكية سيميائياً، ركزت على الكلمات التي تكررت في النص لأعطي دلالات تصوّر حسي لإحساسات الكاتب، تحمل معانٍ ودلالات تبيّن إمكانية الكاتب في كتابة النصوص بشكل متمكن .وقد بلغ عدد التكرارات الحسية((68وحدة حسية
بدلالات سلبية تشاؤمية مقدارها)(62)وحدة حسية
ودلالات إيجابية تفاؤلية مقدارها((6وحدة حسية
تفصيلها كما يلي :
الدلالات السلبية :
الحيرة :٦
الحزن :٣
الحرب:١٠
الخوف :١
الجهل :٣
الذل:٢
الموت والمرض:٤
التقريع: ٢٩
الأسف:٢
الأنانية :٢
الفقر ٢
الظلم :١
المجموع =٦٢
الدلالات الإيجابية :
الحب:٢
الخير :٢
الأمل : ٢
المجموع =٦فإذاً هناك غلبة كبيرة للدلالات السلبية، تنبئنا أن الشاعر تشاؤمي في هذا القصيدة، وهذا أمر طبيعي في قصيدة عرض فيها الشاعر لأمراض الواقع في أبيات امتدت من العنوان على مدى ((41بيتاً، بينما اقتصرت الدلالات الإيجابية في ال(5) أبيات
الأخيرة المتبقية.
بالنهاية : أتمنى ألا أكون قد قصّرت في إيفاء هذه القصيدة حقها، أتمنى أن أكون قد وُفّقت بالإحاطة بمفاصلها إحاطة مقبولة، وإن قصّرت فمن نفسي، فاعذروني ..
تحياتي إلى الشاعر المبدع العصفور الدمشقي : سليم الجط.
النص الأصلي :
لماذا؟؟؟
* سؤالٌ كم° يُعَذِّبُني
ولا ألقى مُجيبينا
*لماذا الحزنُ في دَمِنا وباقٍ في أغانينا؟؟
* ويُطرِبُنا،ويُسكِرُنا
ويشدو في ليالينا
*أيَبقى الجهلُ أعواماً
كَجِنٍّ ساكِنٍ فينا؟؟
* فيسلِبُنا إرادتَنا
ويُبقِينا مَجانينا
* فلا صَيفٌ غَدَا صَيفاً
ولاتِشرينُ تِشرينا
* لماذا الحربُ تقتُلُنا
تُشَرّدُنا،تُعَرّينا؟؟؟
* تُهَجِّرُنا، تُفرِّقُنا
أُلُوفاً ،بل° مَلايينا
* وتخنُقُنا بلا ذنْبٍ
وتجعَلُنا قرابينا
* ونبقى رَغمَ ثروَتِنا
بلا مَأوىً، مَساكينا
* وصارَ الجوعُ ينهَشُنا
وكادَ الفقرُ يُضنِينا
* لماذا الخوفُ يَسكُنُنا
يُعَشِّشُ في مَآقِينا؟؟
* وهذا الذُّلُّ يَقتُلُنا
وكأسَ الموتِ يَسقينا
*فواأسَفاً على وطنٍ
غَدَا في القلبِ سِكّينا
*وآهاً أثمَرَت° آهاً
هُنا في الصَّدرِ تكوينا
* وشهوَتُنا تُمَزِّقُنا
وحُبُّ الذاتِ يَعمينا
*غدَونا كُلُّنا مَرضى
فمَن° يأتي ويشفينا؟؟؟
* أصالتُنا فقدْناها
عُروبتُنا،أمانينا
*وفوضى الرُّوحِ تأكُلُنا
إلى المجهولِ ترمينا
* فكم° فتوى وضَعناها
عنِ المعبودِ تُلهِينا
*وحاسَبْنا،وكَفَّر°نا
وقطَّعْنا شرايينا
*وكم° جِئنا بقانونٍ
فدُسْناها القوانينا
* هنا بِعنا كرامَتَنا
وصاحَبْنا الشياطِينا
* سَلُوا الحَمراءَ تَذْكُرْنا
فنبكِيها، وتبكِينا
*وأمجادٌ لنا دُفِنَت°
وخُنَّا نصْرَ حِطّينا
* وبِعنا القدسَ والأقصى
تهانينا،تهانينا
* هنا ماتت° مَحَبّتُنا
نسَينا الحَقَّ والدِّينا
* هنا لِلفِكرِ مَقبرَةٌ
بَنيناها بأيدينا
* قصائِدُنا مُمَزَّقةٌ
وكاذِبةٌ قوافِينا
* فلا التاريخُ يَجمَعُنا
ولا الأزمانُ تعنِينا
* كأنَّا لم° نكُن°أبداً
وَوَهْماً كانَ ماضينا
* وصارَ المالُ مَولانا
وصارَ الظلمُ والِينا
* وكم° عاثت°حُثالاتٌ
فسَاداً في أراضينا
*وضاعَ العُمرُ من° يَدِنا
ومازالت° مآسِينا
* ومازِلْنا ملائِكةً
وباقي الناسِ خاطِينا
* نُصَلّي في مَعابدِنا
لَعَلَّ اللهَ يَهدِينا
* ويَر°زِقُنا بصِبيانٍ
فعَارُ البِنتِ يُؤذينا
* لماذا لاأرى فيكم°
وروداً أو رَياحِينا؟؟
* ومنكم°أشتهي عِنباً
ومن°أشواكِكُم° تِينا
* كأني لستُ أعرِفُكُم°
ولا كنتُم°أهالِينا
* فعُودوا من° تَغَرُّبِكُم°
تناديكم° شواطِينا
* أحبائي لكُم° قلبي
وبعضُ الحُبِّ يَكفِينا
* سَيَجري الخيرُ أنهاراً
ربيعاً في رَوَابينا
* وفي عينيَّ أغنيةً
نغنّيها، تغنِّينا
* وبالآتي لنا أمَلٌ
فقُولوا الآنَ آمِينا