منذ أكثر من أربعة عقود والعراقيون غرقى في مستنقع يعج بأشكال الروائح النتنة المستهجنة، وهم تارة يدركون مصدرها ويعرفون المتسبب بنشوئها، وتارة يتوه عنهم المصدر والمتسبب معا، ومافتئت معاناتهم تتضاعف يوما بعد يوم إزاء روائح تنبعث من أماكن عدة، ومن شخوص عديدين في البلاد، بعدما كانت تسمى دار السلام والجمال والحب والشعر والأدب، فمن تلك الروائح ماينبعث ممن تبوأوا المناصب العليا، وهؤلاء قطعا تسلقوا سلم الانتخابات وعرجوا على مصعد المحاصصة، وتشبثوا بحبال الأحزاب والكتل، وتعلقوا بتلابيب العشيرة والمنطقة والطائفة، فكانت النتيجة تعليق مبدأ التكنوقراط الى إشعار غير مسمى، فانزلقت مؤسسات البلد بفضل سوء التفكير وقلة التدبير شر منزلق، فتوقفت بالنتيجة عجلة البلد، وتداعت الى حيث التقهقر والرجوع الى المربع الأول. والمربع الأول هذا كان ومازال التهديد به ديدن السياسيين من أرباب المصالح الخاصة والفئوية والحزبية، إذ هم يلوحون دوما بالعودة اليه بغية تمشية أمر كان قد دبر بليل، فيكون لهم مايرومون على حساب البلاد وملايين العباد. ومن مصادر الروائح الخبيثة أيضا ما تقذفه رياح التدخلات الخارجية القادمة من بلدان الجوار لاسيما الجار الجنوب على يد سفيرها، فاختلط أمر تلك الروائح باتباع وسائل التغطية والتتبيل مواراة ومراءاة، بواجهة تعكس مظهرا جميلا لجوهر نتن ونيات مبطنة ومكائد مبيتة.
كذلك من مستجدات الأماكن التي انبعثت منها روائح نتنة في الآونة الأخيرة، هي شمال البلاد.. مصطاف العراقيين ومربعهم، عقب ماكانت تهب من هناك النسائم العليلة والهبوب العِذاب، وتحديدا من رئيس إقليم كردستان العراق هناك، فمنذ منتصف التسعينيات وهذا الرجل يتجسد فيه بيت الشعر:
إذا ماخلا الجبان بأرض
طلب الطعن وحده والنزالا
فلو أردنا عد تصرفاته المعرقلة للعملية السياسية العراقية، لضاع بنا العد وسط أرقام مهولة، وكي لايتعبنا التعداد والتذكر، نستحضر ماحدث قبل عامين ونصف العام، إذ هو ينم عن نيات مبيتة مخطط لها مسبقا، ذاك هو تسهيل أمر عصابات داعش في توغلها داخل الأراضي العراقية، كما أن وضع يده على نفط العراق والعراقيين، يدل على بيعه وطنيته وقوميته وناموسه وأشياء أخرى كثيرة مقابل هذا المكسب. ويوما بعد يوم يتبين ماكان يتأبطه هذا الرجل الجبلي الذي كان حريا به التحلي بأخلاق أبيه، في مقارعة الطغاة والوقوف أمام الظلم بأشكاله، فراح عكس هذا بتسليم أرض البلد ومائه وسمائه وثرواته. وما التداعيات في كركوك إلا نتائج تسهيلات من لدنه، فهو خبير بأرض محافظات الشمال، وحذلقي وفطن جدا بهضاب كركوك، وعلى دراية تامة بما موجود في باطن أرضها من ثروات وخيرات وفيرة. وكلنا يذكر ادعاءه أن قوات البيشمركة تولت حماية نفط كركوك من هذا التنظيم، وهي قادرة بإمكانياتها وعدتها وعددها -حسب قوله- على التمسك بهذا المرفق الحساس والخطير. وكلنا يذكر أيضا كيف تميعت وعوده وذابت أمام أول هبة من عواصف -حليله- تنظيم داعش؟ إن لم يكن هناك اتفاق مسبق بتسليم أرض واستحواذ أخرى بالتناوب معه، وهذا طبعا لغايات بعيدة وأخرى قريبة.
لاأظنها غريبة على مسامعنا قصة الرجل الذي أقدم على شراء سمكة، وأراد التأكد من كونها طازجة أم (خربانة)! فراح يتفحص رائحة ذيلها، وحين نبهه أحدهم أن فحص جودة السمكة يكون بشم رائحة رأسها أجابه: (أدري أدري.. بس اريد اشوف الخياس وصل للذيل..!)
لقد حار العراقيون في وضع سمكتهم.. وتاهت عليهم أماكن خرابها وفسادها.. واشتبك حابل أمرهم بنابل التكالبات التي اجتمعت فيها الرؤوس والأذيال للنيل منهم ومن عراقهم. فهل مثلنا الذي ذكرته بات ينطبق علينا تماما؟ وهل مايحدث سببه خراب الرؤوس؟ ام الأذناب.. أم الاثنين معا..!.
[email protected]