مما لاشك فيه أن العنوان هو العتبة الأساسية الأولى التي تُسهم في تحديد سمات النص الإبداعي ، بالإضافة الى عناصر أخرى ، وكشف بعض دلالاته الأولية أو العميقة ، الأمر الذي يجعلنا نسميه ب ( سيمياء النص ) أو على حد تعبير الدكتور صلاح فضل : (( سيمولوجيا النص )) .ان عتبة العنوان هي علامة أو إشارة سيمولوجية تؤدي وظائف معينة ربما أبرزها تزويد المتلقي بعناصر دلالية تدفعه للقراءة أولاً وتعينه في الكشف عن الدلالات العميقة للمتن الإبداعي ، بوصفها عنصراً إستر شاديا ، إضافة الى وظيفتها كعنصر إثارة يقود القارىء أو المتلقي لعبور أسوار النص وعتباته الأخرى وسبر أغوار دلالاته . لا نأتي بجديد بقولنا أن العتبات النصية الأولى هي المداخل التي يهتم بها المتلقي لتعينه على قراءة النص وفهم شفراته ، وربما أن كلمة ” عنوان ” الاَتية من جذرها الفعل الثلاثي ( عَنَنَ )تُشكل حجر الزاوية في تلك العتبات .من جانبه يذكر ( معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب ) أن ” العنوان TITLE
هو ( الإسم الذي يدل عادة على موضوع الكتاب ) ” 1 ” . وفي مصادر أجنبية أخرى أن أصول كلمة TITLE تعود الى الكلمة اللاتينية TITULUS التي تعني كلاما مكتوبا او لقبا او غيرها .وهنا يجب التفريق بين كلمة (العنوان TITLE) و(الترويسة HEADING الإنكليزية ) والأخيرة تعني (الكلام الذي يقف على رأس سطر والتي يترجمها بعض المعاجم خطأً الى العربية “عنوانا” )”2″ .
بنفس الوقت هناك تعاريف أخرى للعنوان في مجال الادب تولي في نصوصها أهمية قصوى للقارئ باعتباره عنصرا فعالاً في عملية إعادة قراءة النص لذا فأن (جيرار جينت) يورد تعريفا بهذا المعنى لاحد مؤسسي علم العنونة المعاصر وهو (ليوهوك LEO HOCK ) يحدد فيه (ان العنوان مبنى وشيء مصنوع لغرض التلقي والتأويل ) “3” .ومهما يكن من امر ، فأن الشواهد الشعرية العربية تدلنا على ان المجاميع الشعرية أخذت طابعاً بأن تسمى بأسماء شعراءها ، كما يقول الدكتور فاروق مواسي : (كان لكل شاعر ديوانه ، فهذا ديوان البارودي ، وذلك ديوان الخليل ، واشعار شوقي هي الشوقيات … الخ ، وكانت القصائد تسمى بمطالعها ) “4” .
وينقل الدكتور مواسي رأيا لعباس العقاد يفيد ان الامر في التعامل مع العناوين الشعرية ، قصائداً ودواوين ، استمر على هذا المنوال لحين ظهور مدرسة (الديوان) في المهجر اذ تغير نمط العنونة الشعرية واصبح للقصيدة وحدة شخصية .”5″ .
ان هذا الامر يعيدنا الى ماهية التعريفات الخاصة بالعنونة الشعرية التي هي جزء من فضاء النص اذ تتكون من مجموعة تراكيب لغوية بسيطة او مركبة تعبر في الاغلب عن مضامين المتن الشعري وهي (نص موازٍ او مقطعاً في اول النص يحدد الرؤيا الشعرية )”6″.
او انها (كالاسم للشيء ، به يعرف وبفضله يتداول ، ويشار به اليه ويدل به عليه ، يحمل وسم كتابه ، وفي الوقت نفسه يسمى العنوان – بايجاز يناسب البداية – علامة من الكتاب جعلت له لكي تدل عليه . “7”
اذا كان عنوان العمل الشعري يحتل كل هذه الأهمية فما هي الاليات التي يتبعها مبدع النص في اختيار عنون نصه ؟من المؤكد لاتوجد وصفة سحرية معتمدة عند كل الكتاب والشعراء في اختيار عناوين أعمالهم ، اذ كل كاتب او شاعر له طريقته في انشاء عنوان عمله ، لكن المتفق عليه ان العنوان ، غالبا ، لاحقُ للنص وليس قبله . وربما يأخذ من الشاعر جهدا موازيا لجهده في ابداع النص نفسه .
لقد سبق ان اشرنا الى احد التعريفات الخاصة بالعنوان التي تعنى بالمتلقي ، وهنا ينبغي الإشارة الى التفريق الذي اكد عليه(جيرار جينت ) بين متلقي عنوان الكتاب ومتلقي الكتاب نفسه ، اذ يخلص (جينت) في هذه القضية الى القول (بأن العنوان يرسل نفسه الى عدد من الأشخاص يفوق عدد الأشخاص الذي يرسل النص “الكتاب نفسه اليه” . واذا كان النص عبارة عن غرض للقراءة فأن العنوان ، كأسم الكاتب ، عبارة عن غرض للاحاطة والاتصال .”8″
من جهة أخرى يرى باحث اخر هو الشاعر الدكتور علي جعفر العلاق ان العنوان اكتسب اهتماما متزايدا لان علاقته بالمتن اتسمت بالتعقيد الشديد بسبب قدرته على توجيه القارئ نحو مضمون النص “9” .
لذا طرح عدد من الباحثين في مجال العنونة أفكار أخرى اكثر تشدداً لصالح (العنوان) الى حد اعتبار اللوحة او القصيدة التي لاتحمل عنوانا ليستا بلوحة او قصيدة .
في تراثنا الشعري لم يحظَ العنوان بتلك الأهمية ، وكانت الدواوين الشعرية تسمى بأسماء شعراءها: ديوان ابي نؤاس ، ديوان البحتري ، ديوان المتنبي … وغيرها كثير ، دون ان نغفل وجود نصوص شعرية متكاملة الفكرة والموضوع والغرض حملت عناوين واضحة مثل (لزوم ما لايلزم للمعري) و(سقط الزند للمعري) ، لكن الاهتمام بوضع عناوين للمجاميع الشعرية بدأ منذ حوالي القرن التاسع عشر وبروز ما يعرف (باليقظة العربية) الذي بدأت في مصر ثم سوريا والعراق وبقية بلدان الوطن العربي ، واستمر تطور هذا لاهتمام ليبلغ قمته في مرحلة الشعر العربي الحديث حيث اعتاد الشعراء على وضع عناوين لدواوينهم باستخدام اليات مختلفة ابتداءً من السجع المعروف الى التهويمات الصوفية واللغوية التي لا اصل او فصل لها مرورا بالعناوين المبدعة المستندة الى موهبة ووعي لغوي وشعري حاذق ودقيق.
في ضوء ماتقدم ، اصبح للعنوان في العمل الإبداعي ، الادبي خاصة ،خصائص من المفيد المرور عليها نظريا وبشكل مختصر : النص الادبي وجزء منه (العنوان) مادته الأساس هي اللغة بوصفها وسيلة اتصال بين (المرسل ) و (المرسل اليه) ومضمونها (الرسالة).
ومادام الامر كذلك فأن العنصر الطباعي/ الكتابي/ البصري/يكون عنصرا مهما في تمييز العنوان ، (شكلا ومساحةً ونوعاً) ، وتحديد نوعية تأثيره في المتلقي او عموم (تركيب المتن الشعري). (العنوان) “يقدم ايحاءات اكثر من تقديمه معنى محدداً )”10” .لذا فأن العنوان كما يذكر محمد فكري الجزار في كتابه (العنوان وسيموطيقيا الاتصال الادبي) نقلا عن مصدر باللغة الإنكليزية عن شعر محمود درويش ، ان العنوان نص موجز مختصر لانه يمثل اعلى اقتصاد لغوي ممكن من شأنه ان يجعل المتلقي فعالا بشكل كبير في عملية تلقيه للعنوان ، الامر الذي قد يؤدي بمبدع النص الادبي الى جعل العنوان غامضا ، وقد يتلاشى هذا الغموض فور قراءة النص او يتضاعف ، والخلاصة (العنوان لايجب ان يكون مثل قائمة الطعام ، فكلما افشى بمحتويات اقل كلما كان ذلك افضل ) لذا فأن ذلك يجعل من العنوان منفتحا بشكل كبير على احتمالات تأويلية مختلفة ومتعددة “11”.
ان مسألة (تأويل) العنوان ، بمختلف صيغه قد عالجها مهتمون في هذا المجال دريدا Derrida ) و (جي.فشرj.Fisher ) و( ليفنستن ادمزLevensteon Adams ) حيث كان الأخير (ادامز) ينتقد نظرية (فشر) القائلة بأن العنوان يمكن ان يكون مرشدا لتأويل العمل الفني ، بقوله : ان العنوان هو نفسه موضوعاً للتأويل اذ كثيرا ما يلعب النص نفسه دور المرشد لتأويل العنوان وليس العكس “12”. حسب وجهة نظره .
ان عناوين الدواوين الشعرية او القصائد بشكل عام يمكن تصنيفها من حيث العنونة الصريحة الواضحة المنسجمة مع روح النص وموضوعه وهذه واضحة لا تحتاج الى تأويل او تفسير ، وأخرى يمكن ان نصفها دلالية وهي جميعا تقع في صنف ما يمكن ان نطلق عليه (العناوين الانزياحية) ، ومنها الاستعارية والحكائية او فنطازية مفتوحة او ذات وصف ترتيبي مثل (القصيدة الأولى) او (القصيدة الثلاثين ) او غيرهما .
اما العنونة الصريحة فيقع في مجالها أسماء اشخاص او امكنة او احداث متميزة بتأثيرها على الشاعر وغالبا ماتكون مختصرة جدا او مفردة واحدة تحيل القارئ الى ما يريد الشاعر التعبير عنه . ان العنوان في تلك الحالتين ، الدلالية والصريحة يمارس وظيفة اشارية تحدد طبيعة المجموعة او القصيدة وتشير بشكل واضح او تأويلي الى موضوعها او مجموعة افكارها .ومع ذلك اجد من المفيد الإشارة الى الجهد الكبير الذي قدمه (ادمز) في تصنيفه العناوين في المجال الإبداعي الادبي خاصة فيما يتعلق بالعناوين الدلالية حيث أشار الى عدد من اصنافها :
1- العناوين المحايدة (Neutral Titles) وهي ابسط أنواع العناوين لان اختيارها يأتي اوتوماتيكيا عادة .
2- العناوين المشددّة (Underlining Titles) وهي جوهرية لاصل العمل وتضيف وزنا إضافيا على محتوى العمل وتركز على جزء أساسي منه .
3- العناوين المركزة (Focusing Titles) وفرق هذا العنوان عن العناوين المشددة انه يقترح ثيمة من بين الثيمات المتنازعة واعطائها مركزية في عملية تأويل العمل ، ولكن بنسبة معينة وليست مطلقة .
4- العناوين المقوِّضه ) Undermining – Opposing Titles ) ان ظاهر مضمون هذه العناوين مضاد لما تقصده بالفعل وهي تعتبر ساخرة (Ironic) لانها عكس ماتصرح به خاصة في الاعمال المركبة والطويلة .
5- العناوين المُربِكة (Mystifying Titles) هذا الصنف من العناوين يعتبر الحيلة المفضلة عن الدادائيين والسرياليين ، ومثال ذلك عناوين بعض اللوحات التي لاتوجد بينها وبين اللوحة التي تحملها علاقة واضحة .
6- العناوين الكاشفة للغموض (Disambiguating Titles) وهي تشبه الى حد ما العناوين المُتممّة ، ودون مساعدتها يبدو العمل طلسماً .
7- العناوين التلميحية (Allusive Titles) تربط هذه العناوين العمل الإبداعي بامور خارجية محددة وبشكل غير مباشر ، خصوصا الإشارة الى اعمال مبدعين اخرين او احداث تاريخية معروفة .”13″ وقبل الانتهاء من هذا البحث النظري نجد من المفيد الإشارة بشكل مختصر الى وظيفة العنوان بعد ان عرفنا تصنيفاته المختلفة . تقول ناريمان القاضي في بحثها المشار اليه اكثر من مرة هنا ان الأبحاث التي عالجت وظيفة العنوان قليله بالرغم من أهمية هذه الوظيفة في اصل العمل الإبداعي ، الا انها اشارت الى الباحث (جيرار جينت) تناول في احد بحوثه هذه المسأله حيث أشار الى باحثين اخرين عالجوا القضية ، وخرجت بنتيجة ان للعنوان ثلاث وظائف هي : تعين العمل ، تعين محتوى العمل ، جذب الجمهور اليه ، وقد ركز (جينيت) في ملاحظاته ان الوظيفة الاصلية للعنوان هي (تعيين العمل الإبداعي) اما الوظيفتين الأخيرتين فهما ليستا الزاميتين مثل الوظيفة الأولى ، خاصة وان الوظائف الثلاث غير متعلقة ببعضها لان العلاقة بين العنوان وبين المعنى العام للنص هي علاقة متغيرة ، تبدأ من التعيين الأكثر مباشرة وتصل الى العلاقات الرمزية الأكثر غموضا التي تتطلب من القارئ بذل جهد في التأويل “14”.
اخلص الى القول ان العنوان في النص الادبي عامة والشعري خاصة يحتل ، كوحدة نصية مستقلة ومتفاعلة في الوقت نفسه ، أهمية خاصة في العمل الإبداعي وجسده ، لذا اولت الدراسات الاسلوبية بشكل عام اهتماما خاصاً له ولتصنيفاته واشكاله ووظائفه ، لما له من دور فعال لعلاقته مع المتلقي من جهة ومع النص نفسه من جهة أخرى . هوامش البحث :
1- مجدي وهبة / كامل المهندس/ معجم المصطلحات العربية في اللغة والادب / مكتبة لبنان / 1984 / ص :262 .
2- Adams – H .1987.”Titles – Titling –And Entitlement To “
The Journal Of Aesthetics and Criticism
نقلا عن نريمان الماضي .
3- Genette –G.”Structure and Functions of the Title in Literature”
Critical Inquiry
نقلا عن نريمان الماضي4- دكتور فاروق مواسي : هل يقرأ الكتاب من عنوانه ؟ مدونة الككترونية .
5- المصدر نفسه .
6- جبور عبد النور / المعجم الادبي / دار العلم للملايين / بيروت /ط4 /1984 /ص:185 .
7- محمد فكري الجزار / العنوان وسيموطيقيا الاتصال الادبي / الهيئة العامة للكتاب / القاهرة /ط1 /ص: 15.
8- جيرار جينت / نفس المصدر .
9- د. علي جعفر العلاق : الشعر والتلقي دراسات نقدية / دار الشروق عمان /1997 /ص:173 .
10- نريمان الماضي/العنوان في شعر عبد القادر الجنابي / مدونة الكترونية.
11-محمد فكري الجزار: المصدر نفسه.
12-المصدر نفسه.
13- اّدمز : المصدر نفسه.
14- جيرار جينيت: المصدر نفسه.