5- الجزء الخامس – الاشتراكية … ومهمة ميخائل كورباجيف في انهائها
الاجراءات التي اتخذها الرئيس ريغان الوارد سردها في نهاية الجزء الرابع من هذا المقال لم تكن ردود أفعال عابرة بل سياسة ستراتيجية متكاملة تم اتخاذها بناء على دراسة معمقة متكاملة للحالة السائدة في المعسكر الاشتراكي وشملت الأوضاع الاقتصادية والعلاقات السياسية بين دوله. ففي عام1981 في العام الثاني من ولاية ريغان الأولى أنضم الى مجلسه للأمن القومي استاذ التاريخ من جامعة هارفارد Richard Pipes حيث قام هذا باعداد تقرير حاز على موافقة المجلس عام 1982 تضمن خطة للتغيير في الاتحاد السوفييتي سياسيا واقتصاديا وعسكريا تقرر بموجبها الانتقال من سياسة الاحتواء والدبلوماسية الى استراتيجية هجومية طويلة الأمد. رونالد ريغان كان على قناعة كاملة بأن بقاء الولايات المتحدة الأمريكية قوة أعظم عالميا هو المفتاح للحفاظ على بقائها ولهذا الهدف عمل منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض للوصول الى هدفه ولو أدى ذلك الى تدمير الاتحاد السوفيتي بالحرب النووية.
وعندما فوجئ القادة السياسيون السوفيت بالخطاب السياسي العدائي للرئيس ريغان حال دخوله البيت الأبيض صدموا ولم يجدوا من الخيارات السياسية الكثير فإما مواجهة السياسة الأمريكية الاستفزازية المعادية بمثلها أو رفع الراية البيضاء والانصياع للشروط الريغانية دون قيد أو شرط. رفع الراية البيضاء ليس خيارا والامريكيون يعرفون ذلك جيدا فللسوفييت العزم والقوة الكافيتين لردع اي اعتداء على بلادهم لكنهم يؤمنون ايمانا راسخا بالخيار السلمي وتشجيع الطرف الآخر للجلوس حول طاولة التفاوض ومناقشة كل القضايا بما فيها نزع السلاح الشامل وهو طلب كان مايزال مطروحا على الأمريكيين. وعلى عكس الدول الامبريالية التي تسعى للهيمنة على العالم لتأمين حصولها على مصادر الطاقة والمواد الأولية دون مصاعب وبشروط هي تضعها فان الدولة الاشتراكية تؤمن بالتعايش السلمي والتعاون والاخاء بين الشعوب واحترام سيادة الدول كافة.
لقد دأب الزعماء السوفييت الذين سبقوا كورباجيف على الالتزام بتلك المبادئ ودعوة الآخرين للحذو حذوها باذلين مساعيهم للتفاوض مع الرؤساء الأمريكيين السابقين ومع الرئيس ريغان نفسه من أجل تخفيف التوتر وعدم المواجهة فقام كل من القادة السوفييت ليونيد بريجنيف ويوري أندروبوف و قسطنطين تشرنينكو بارسال رسائل عبر القنوات الدبلوماسية اقترحوا فيها تحسين جو العلاقات السياسية والاقتصادية مبدين استعدادهم لبحث امكانية التخلص من المخزون النووي وأعداد الصواريخ لدى البلدين وانهم بذلك لا ينطلقون من موقع ضعف لأنهم يؤمنون بالسلام لكن الرئيس ريغان واجهها بعدم المبالاة والتجاهل.****
كان ريغان مصمما على معارضة الاتحاد السوفيتي في كل مجال محاولا بكل ما امتلك من وسائل شريرة ومراوغة لحمل السوفيت على الاعتقاد بأن التسلح هو الطريق المضمون لحماية الدولة السوفيتية منطلقا من شعوره العدائي بان سباق التسلح سيسبب ضررا بالغا للاقتصاد السوفييتي ولاشك أنه يدرك ان مثل هذا السباق يسبب الضرر نفسه للاقتصاد الأمريكي. ان كراهيته المفرطة للنظام الاشتراكي دفعته لمعارضة أية مبادرة سلام يبديها قادة ذلك النظام بنفس الوقت الذي كان مصمما على السير قدما لتدميره وهو الذي وصفه بامبراطورية الشر عامين قبل مجيئ كورباجيف الى السلطة. وحينها أعلن ان الولايات المتحدة تحتاج الى التفوق العسكري لحماية نفسها من امبراطورية الشر مبررا قراره ببناء نظام الصواريخ الدفاعية المعروفة بـ ( حرب النجوم.)
بعد انتخابه لقيادة الدولة السوفييتية عام 1985باشر ميخائيل كورباجيف محاولاته للاجتماع بالرئيس رونالد ريغان وبعد مرور بعض الوقت وافق الأخير على الاجتماع به وسط حملة اعلامية واسعة بان الرئيس السوفيتي يحمل مشروعا تجديديا. لقد عقد الزعيمان لقائين الأول في جنيف في شهر نوفمبر تشرين الثاني عام 1985 بعد ثمانية أشهر من وصول كورباجيف الى السلطة واللقاء الثاني في رايكيفك العاصمة الايسلاندية حيث اتفق الاثنان في اللقاء الأول كما اعلن على تخفيض المخزون من السلاح النووي لدى البلدين بنسبة 50%. كما اتفق على خفض عدد ما لدى البلدين من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي يتراوح مداها بين 300 – 3400 ميلا وتدمير ما يزيد عن 1752 صاروخا لدى الاتحاد السوفيتي و859 لدى الولايات المتحدة بما فيها الرؤوس النووية التي تحملها. واتفق كذلك على ارسال مراقبين متخصصين من كل بلد الى البلد الآخر ليقيموا لمدة 13 عاما في مواقع قريبة من مواقع محددة للمراقبة والتحقق من تنفيذ الاتفاق ، لكن لم تعرف تفاصيل الاتفاق فيما يخص التعهدات التي قطعها كورباجيف بخصوص رفع يد الدولة السوفيتية عن الدول الاشتراكية في شرقي ووسط أوربا ودول البلطيق الثلاثة استونيا وليتوانيا ولاتفيا التي كان رونالد ريغان يطالب بها بالحاح أثناء حملته الانتخابية وبعد دخوله القصر الابيض. *****
وفي 11 10 1986جرى اللقاء الثاني بين الرئيسين في العاصمة الايسلاندية رايكيفيك حيث خصص لمناقشة المخزونات النووية لدى الدولتين لكن لم يخرج عن اللقاء أي اتفاق معلن بخصوص البرنامج المثير لمخاوف السوفيت المسمى ببرنامج الصواريخ الدفاعية الستراتيجية(SDI ) الذي تعارضه الحكومة السوفيتية بشدة معتبرة ذلك شرطا مسبقا لأي مباحثات بين الدولتين حول نزع السلاح الشامل الجارية منذ عدة سنوات. ******
لقد جرت أربعة قمم سرية بين الرجلين لوحدهما وفقط بحضور المترجمين ومسجلي الملاحظات في القصر الأبيض في مناسبات عديدة لم يكشف النقاب عن تفاصيل المباحثات. وخلال وجود الرئيس ريغان في البيت الأبيض استمر تبادل رسائل عالية السرية بينه وبين كورباجيف بلغت 12 رسالة بعد اللقاء الأول بينهما في جنيف وخمسة عشر رسالة بعد لقائهما الثاني في رايكيفيك واستمر تبادل الرسائل السرية لتبلغ الأربعين رسالة وما سرب الى الصحافة .ان الرئيسان متفقان بأنه لايوجد منتصر في الحرب النووية ولا يجب أن تشن أبدا.
من الملاحظ انه خلال ما نشر في وسائل الاعلام ان الرئيس الأمريكي رونالد ريغان لم يتعامل مع الطرف الآخر الرئيس كورباجيف كرئيس دولة عظمى مكافئة في ميزان القوة فالدولتان أكبر دولتين نوويتين اذا لم تكن الدولة السوفيتية مكافئة في القوة مع المعسكر الرأسمالي برمته. فمن خلال ما تحقق على أرض الواقع بعد اللقاءات والرسائل والاتصالات التلفونية ان الرئيس الأمريكي حقق الكثير من مطاليبه الموجهة للحكومة السوفيتية خلال حملته الانتخابية وبعد تسلمه لمهامه في القصر الأبيض.
ومن تلك المطالب سحب القوات السوفيتية من افغانستان فنفذ طلبه دون تأخير متجاهلا ان ذلك سيؤدي ليس فقط الى سقوط الحكومة التقدمية في ذلك البلد بل الى تعريض حياة رئيسها وأعضاء حكومته الى موت محقق. وبالفعل تم اسقاط الحكومة وقتل زعيمها والكثير من اعضائها. لقد كان كورباجيف قادرا على الابقاء على حياة أعضاء الحكومة ورئيسها فهم أصدقاء وحلفاء للاتحاد السوفيتي وتحت حمايته لكنه لم يفعل. وهكذا الحال مع الطلبات الأخرى التي نفذت تباعا ولم يعلن الا عن القليل منها.
وفي المقابل لم يفي الرئيس رونالد ريغان بالتزامات مهمة وخطيرة تتعلق بامن الدولة السوفيتية بل تعهد شفاهيا بالوفاء بها لكنه لم ينفذ منها أي تعهد خلال وجوده في البيت الأبيض كما لم ينفذها الرؤساء الأمريكيين الذين جاؤوا بعده. ومن تلك التعهدات التي نشرت في عهد الحكومة الروسية الحالية كرد فعل على قيام الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما بتجاهلها كليا هو الآخر. وهذه عينة منها :
تحديد عدد الصواريخ الحاملة للرؤوس النووية.2- حل حلف الناتو بالتزامن مع حل حلف وارشو
3-عدم قبول دولة في حلف الناتو لها مشاكل حدودية مع روسيا. 4- عدم قبول الدول الاشتراكية السابقة أعضاء في حلف الناتو
5- عدم استضافة قواعد عسكرية أمريكية في دول اشتراكية سابقة.
6- عدم اقامة قواعد للصواريخ الأمريكية الموجهة في الدول الاشتراكية السابقة. 7- المساعدة في بناء الاقتصاد الروسي وفق نموذج مشروع مارشال الذي طبقته الولايات المتحدة في أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية.8- اعتبار البحر الأسود بحرا روسيا ولا يسمح للدول الأخرى استخدامه للاهداف العسكرية أو المناورات الا لفترة لا تزيد عن أسبوعين دون موافقة روسيا مسبقا.
هذه نماذج تعهدات الرئيس ريغان لكورباجيف أما عن تعهدات هذا الأخير فلم يعلن عنها لكن ما تحقق على أرض الواقع يشكل دليلا على التزاماته السرية تجاه الرئيس الامريكي. فقام كورباجيف أولا بانهاء المنظومة الاشتراكية لدول شرق ووسط اوربا. ففي آخر اجتماع له مع الدول أعضاء حلف وارشو ومنظمة مجلس التعاضد الاقتصادي ( السوق الأوربية المشتركة للدول الاشتراكية )أعلن للمشاركين في الاجتماع بأن هذا الاجتماع يعتبر آخر اجتماع له وان ا لدولهم الحرية الكاملة من الآن في اختيار السياسة الخارجية والاقتصادية والنظام السياسي الذي تختاره وبذلك تكون المنظمة قد انهت مهامها متجاهلا تماما رغبة الشعوب في تلك الدول وفيما اذا كانت ترغب بالبقاء ضمن مجلس التعاون الاقتصادي أو ضمن حلف وارشو ضمانا لها ضد أي عدوان كالذي شنته ألمانيا النازية عام 1939. وكان قبل ذلك قد نظم عملية التخلص على عجل من رئيس دولة رومانيا جاوشيسكو في مسرحية أدعي حينها ان محكمة خاصة قد اصدرت حكما باعدامه هو وزوجته.
ويعزى السبب في التخلص من الزعيم الروماني وزوجته فلأنه عارض مشروع كورباجيف التصفوي وفي الوقت نفسه طالب علنا بعقد مؤتمر عام عاجل للاحزاب الشيوعية في العالم لمناقشة برنامج كورباجيف واتخاذ موقف موحد بشأنه. ولأن مثل هذه الدعوة قد تربك مساعي كورباجيف بانهاء الاشتراكية في بلاده وهي رأس الحركة الشيوعية وقلبها في العالم لا يرغب في اضاعة الوقت في موضوع كان هو قد حسمه هو والرئيس ريغان.
بعد اتفاقه مع الرئيس رونالد ريغان على تدمير عدد من الصواريخ القصيرة والمتوسطة المدى التي يتراوح مداها بين 300 – 3400 كم قام بشحن الرؤوس النووية التي أزيلت عن الصواريخ المدمرة الى الولايات المتحدة لاستخدامها في توليد الطاقة في المفاعلات النووية الامريكية. كما تم بيع كميات من اليورانيوم المنضب والبلوتونيوم للأمريكيين بأسعار زهيدة جدا ما حمل العلماء السوفييت على ابداء معارضتهم لذلك معلنين ان تلك المواد عالية الثمن فكان رد المسؤولين الروس على ذلك بالقول – ان روسيا لن تحتاجها وان الولايات المتحدة دولة صديقة وهي بحاجة اليها- .******
واستنادا الى نفس المصدر فان القدرات النووية التي بقيت في حوزة روسيا نهاية عهد يلتسن لم تكن كافية لردع أي عدوان أمريكي عليها ، وكان الأمريكي الدكتور Strangeloves قد شجع حكومة بلاده بتوجيه الضربة النووية الأولى ضد روسيا مدعيا ان السلاح النووي الروسي اصبح عديم المفعول مقارنة بالقدرات النووية الأمريكية التي تم تحديثها وتجديد الصواريخ القادرة على حملها. لقد اشادت امبراطوريات الاعلام الغربية بكورباجيف بكونه رجل التغيير الداهية الذي كان له القدرات الخارقة للتأثير على الرئيس رونالد ريغان وكسبه الى جانب برنامجه الاصلاحي.
ولم تتردد بعض حركات اليمين السياسي التي تضم الاحزاب السياسية البرجوازية في أوربا الغربية خاصة من ابداء علامات النشوة والفرح بما سموه بالتغيير التاريخي والاشادة بقدرات كورباجيف الاستثنائية لاصلاح الاشتراكية ولم يدركوا ان الرجل لم يسع لاصلاح الاشتراكية بل لانهائها وهذا ما فعله بالضبط ونجح فيه وهو نفسه فخور بما فعل. لقد قام بكل أمانة بتنفيذ مشروع الرئيس الأمريكي رونالد ريغان بالاطاحة بالاتحاد السوفييتي والبلدان الاشتراكية. وبناء على دعوة كورباجيف لرونالد ريغان عام 1988 لزيارة موسكو عاصمة ” امبراطورية الشر” كما كان يسميها فزار جامعة موسكو وهناك ألقى كلمة في قاعة لينين دعا فيها الى الديمقراطية والحرية الفردية واقتصاد السوق وتلا مقطعا من شعر الشاعر الروسي بوشكين الذي قال فيه :
” It is time my friend, It is time my friend’ ” كان ذلك المقطع نداء صريحا واضحا للروس ان وقت الحرية قد حان فاحزموا أمركم وثوروا على النظام. ويظهر انه لم يدرك بعد ان كورباجيف قد قام بالمهمة خير قيام فانهى بدون ثورة النظام الذي خلق من دولة عبيد الأرض أقوى ثاني دولة في عالم اليوم.
المراجع :
” Obama and The and The Secret War on Laos “* Peter SymondsPaul Johnson ” What Was Pope John Paul Second Role In The Fall of The Soviet Union”** Ronald Hilton – ” The Collapse of The Soviet Union and Ronald Reagan”***Jason Salton-Ebin ” Recently Released Letters Between Reagan and Gorbachev Shed Light on The End of Cold War” The World Post ,2942013****David K. Shipler ” Reagan and Gorbachev Sign MissleTreaty and Vow to Work For Greater Reductions” New York Times, 912 1987*****Reykjavik Summit, 11101986, Encyclopeadia Britanica******