لقد صوت الشعب الامريكي لمرشح لم يحتل يوما منصبا رسميا أو مركزا سياسيا وعلى عكس المرشحين الاخرين الذين حاولوا منافسته انفرد بالتعبير عن آراء يعرف هو انها ستستغل ضده وقد يفقد بسببها تأييد شطر مهم من الناخبين الأمريكيين ولأنه لم يتراجع فقد منحه شعبه التكريم الذي يستحق فحاز على ثقته بانتخابه رئيسا له. ومن دراسة تصريحاته وخطبه خلال الحملة الانتخابية بدا وكأنه عازم على اعادة بناء اقتصاد بلده ليجعل من أمريكا دولة رائدة للتقدم والرخاء من جديد. فليس بدون معنى كان يعيد مقولته بانه سيعمل من أجل ان تكون أمريكا مزدهرة وعظيمة من جديد ملمحا الى خلق فرص عمل للعاطلين من خلال اعادة بناء الصناعة الأمريكية والبنية التحتية التي لحقها الاهمال لعشرات السنين واعدا باستعادة رؤوس الاموال الامريكية والاجنبية لتطوير الاقتصاد الامريكي. لقد استأثر بخطابه هذا جزءا واسعا من الطبقة العاملة والعاطلة على حد سواء فبالنسبة لهم ان تطوير الاقتصاد الوطني يعني تأمين فرص العمل ضد البطالة والعوز لهم ولأطفالهم ولهذا وقفوا معه حتى النهاية.
لقد استخف آخرون بنوع الخطاب الذي توجه به ترامب للأمريكيين فيما يخص الاصلاحات التي ينوي القيام بها والانتقادات التي كان يوجهها لمؤسسات الدولة وخاصة السياسة الخارجية والتدخل في شئون الدول الأخرى واصطناع الحروب في مناطق العالم المختلفة. داعما انتقاداته بالنتائج الكارثية التي سببها التدخل العسكري في العراق وليبيا وافغانستان التي كلفت ميزانية الدولة تريليونات الدولارات عدا ما خلفته من ضحايا بشرية. لكن خطاب ترامب ليس فقط لم يؤخذ مأخذ الجد لكونه وفق رأيهم لا يعتبر برنامجا انتخابيا كالذي اعتادوا سماعه من مرشحي الرئاسة السابقين بل جرى تشويهه لدرجة خرج الرئيس أوباما عن صمته وموقف الحياد الذي كان من المفترض التزامه تجاه المتنافسين فانحاز بشكل سافر الى جانب المرشحة هيلاري كلنتون. وفي أكثر من مناسبة وجه انتقادات قاسية لخطابات السيد ترامب السياسية مؤكدا فيها انه غير مؤهل لتقلد مهام رئيس الولايات المتحدة ، لكن الأخير لم يتراجع واستمر في طرحه لكافة الموضوعات مدار الجدل والاهتمام مما عزز من موقعه في عيون الكثير من المحللين السياسيين وزادهم ثقة بالخطوط العريضة لبرنامجه السياسي.
لقد فاز السيد دونالد ترامب بمنصب رئيس الولايات المتحدة على منافسته الرئيسية السيدة كلينتون محطما كافة التوقعات بخسارته السباق لصالحها وهي التي تحظى بتأييد الشطر الأكبر من وسائل الاعلام الكبرى ، لكن الفوز وحده والانتصارعلى المنافسين لا يكفي لتحقيق التغيير الذي ينشده هذا اذا كان حقا جادا في احداث تغيير في البنية السياسية والاقتصادية والعسكرية الامريكية. فجهاز الدولة وبخاصة وزارة الدفاع والخارجية يهيمن عليهما منذ عقود دعاة الحرب والتدخل في شئون الدول المستقلة الخارجة عن الطوق الامريكي. فاذا أراد بناء علاقات متوازنة مع دول العالم وفق مبدأ المصالح المتبادلة بما فيها العلاقة مع روسيا والصين فانه سيواجه عقبات جدية ستقف حائلا أمام تحقيق انفراج حقيقي في الأزمات السياسية الراهنة التي تدفع بالدولتين روسيا والولايات المتحدة سريعا الى صدام نووي قد ينهي الحياة على كوكب الأرض.
لهذا فان التغيير الحقيقي المنشود اذا كان فعلا هو المطلوب فهذا سيحتاج الى اعادة بناء مؤسسات الدولة بمعنى ازالة كادر الحرب الباردة الذي يعشعش في بنيتي وزارتي الخارجية والدفاع الذي نما وتضخم كالأورام السرطانية الذي بدون استئصاله فان دوامة الحروب والعدوان على الدول الصغيرة سيستمر ولن تجف أبدا بحيرات الدموع والدماء. فهل يتمكن الرئيس القادم دونالد ترامب من الثبات على مواقفه ويفي بوعوده للأمريكيين الذين خرجوا بعشرات الملايين نحو مراكز الاقتراع للتصويت له أو بالأحرى لمنع مرشحة الوول ستريت وتجار الحرب هيلاري كلينتون من الفوز في السباق نحو البيت الأبيض … ؟
بدون شك ستكون مهمة الرئيس المنتخب غاية في الصعوبة هذا اذا لم يتم اغتياله قبل تسلمه ومباشرته مهامه ، فمحاولة الخروج عن التابو الذي وضعت قواعده ابان عهد سلفه هاري ترومان خلال الحرب الباردة سيلقى مقاومة شرسة من جانب أمراء الحرب. فمتى ما تمكن من تغيير جهاز الدولة سيتمكن عندها من اجراء التغيير الحقيقي في السياسة الاقتصادية والعلاقات الخارجية مع الدول الاخرى وخاصة مع روسيا والصين الشعبية. فالموقف العدائي تجاه روسيا ليس وليد اليوم بل كان قائما منذ بدء الحرب على الشيوعية بداية خمسينيات القرن الماضي ولم تغيره تحول روسيا الى الرأسمالية فما زالت في نظر الغرب “روسيا الأمس ” واستمر زيادة الانفاق العسكري لمواجهتها حتى وهي عضو مشارك في اجتماعات حلف الناتو. فالنفقات العسكرية الامريكية تستحوذ على أكثر من 7% الناتج المحلي الاجمالي وهي نسبة عالية جدا وتخفيضها سيوفر أموالا هائلة لصالح اعادة بناء الاقتصاد الأمريكي الذي وعد به الرئيس الجديد الشعب الامريكي.
فمن دون ازالة هذا العدو المصطنع من مخيلة السياسي يصعب الحديث عن خفض ميزانية التسلح والذي بدونه ستضطر الحكومة الامريكية الى استدانة أموالا طائلة من السوق الداخلي أو الخارجي مما سيزيد من مبلغ الدين الامريكي الذي تجاوز لحد الآن 18 ترليون دولار والذي تكلف خدمته مليارات الدولارات سنويا. وبالعكس خفض النفقات على التسلح سيمكن الحكومة من الاستثمار في المجالات التي تخلق فرص عمل جديدة للامريكيين العاطلين عن العمل فتحسن من مستواهم المعيشي وتزيد من معوناتها للمقعدين عن العمل والمرضى الذين يتعذر عليهم العلاج والدواء والمأوى. مثل هذا الخيار لن تسمح به اللوبيات العسكرية وسيصطتدم بمقاومتها الشرسة لأن ذلك يعني حرمان صناعات السلاح من أمثال لوكهيد – مارتن وبوينك ورايثين من تدفق الآرباح التي يحلمون بها.
فهذه الشركات وغيرها لا تحقق الارباح وقت السلم والاستقرار ولهذا فهي تروج للحروب باصطناع الاعداء في مناطق العالم وخاصة في الشرق الأوسط حيث الموارد الهائلة من مبيعات النفط وليس صدفة استمرار الحروب هناك مشتعلة دون توقف منذ خمسينيات القرن الماضي مع بدأ الحرب الباردة. فشركات السلاح توظف شخصيات مرموقة مثل الوزراء ورؤساء الوزراء السابقين أمثال وزير الخارجية الأسبق جورج شولتس في عهد الرئيس رونالد ريغان حيث ترأس واحدة من اللوبيات العسكرية التي عملت لشرعنة غزو العراق عام 2003. والمهمة نفسها قام بها توني بلير رئيس الوزراء البريطاني أثناء وبعد غزو العراق الذي بسببها وثق صلاته بأمراء النفط في الخليج وأصبح فيما بعد المستشار الخاص لأمراء الكويت وقطر والامارات العربية والسعودية وغيرها مقابل منحة سنوية وصلت الى مئات ملايين الدولارات هي في الواقع مكافئة له لدوره في شن الحرب على العراق في التسعينيات .
فمهمة الرئيس الأمريكي المنتخب ستواجه المصاعب منذ اليوم الأول اذا ما ابقى على الجهاز الاداري والسياسي القائم ولن تجد وعوده للامريكيين النور ومن أجل تحاشي ذلك يحتاج الى فريق عمل جديد يأخذ على عاتقه اعداد السياسة التي تضع موضع التطبيق رؤية الرئيس ترامب حول اعادة بناء العلاقات مع دول العالم على أسس الصداقة والتعاون الاقتصادي من أجل استتباب السلم في العالم. فذلك سيسمح بتوجيه موارد مالية كبيرة كانت ستوجه للتسلح وفق سياسة حافة الحرب المتبعة لحد اليوم بتوجيهها بدلا عن ذلك نحو ازدهار الاقتصاد الامريكي وتحسين حياة الشعب الامريكي. سياسة مثل هذه هي الضمانة لانصاف ملايين الامريكيين من العمال العاطلين والمقعدين الذين أهملتهم الزعامات الامريكية السابقة.