لابد لنا لكي نفهم ( صيرورة الخلق ) أو فكرة البدأ و البداية ، من الناحية النفسية للبشر .. علينا أن نُدرك أن نفسانية المعرفة تحتاج دائماً لصورة متكاملة ، موحَّدة ، لا تفصل بين خلق الإله نفسه و خلق الأشياء ..! فالإنسان في أعماقه لا يريد أن ينفصل عن الطبيعة و لا أن يكون منقسماً على نفسه ، إنه لا يستطيع تقبـُّل ألـوهة مُفارِقة عنهُ دون أية صلة بها ، ولهذا فإنه كخالق لأبسط الأشياء يريد أن يكون إلهاً كامل الصلة مع كائناته .. و بذلك فهو يقيم علاقة حقيقية مع الكائن المقدس القائم في داخله ..! إن الإنسان يريد أن يرى الصلة التي تربطه مباشرة بالبدء و البداية .. و معرفته كلها تستند على هذا المبدأ .. شعوره الأعمق ينبع من لحظة البدء نفسه ..! — ( إنوما إليش) أو ملحمة الخلق البابلية .. اكتشفها العالم هنري لايارد عام 1849م في مكتبة آشور بانيبال – في نينوى / العراق .. و طبعها جورج سميث عام 1867 .. ملحمة الخلق البابلية نفسها يرجع تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد تقريباً .. تقع أهميتها في كونها تشبه قصة الخلق التي جاءت في سفر العهد القديم / التكوين .. أشعيا / المزامير ..!
— تتألف الأسطورة مِن ألف سطر تقريبا .. على سبعة ألواح فخارية باللغة البابلية القديمة .. في كل لوح 115 إلى 170 سطراً .. النص كامل تقريبا عدا اللوح الخامس و الذي اكتُشفت نسخة عنه في تركيا ..! و سُميّت بهذا الأسم أستناداً لأوّل كلمتين وردت في الأسطورة ..! تُعتبر ملحمة ( أنوما إليش ) أحد أهم المصادر لفهم نظرة البابليين للعالم و تُظهر أهمية الآله ( مردوخ ) و خلق البشرية ، هدفها الرئيسي الأصلي ليس دينيا بل لتمجيد إله بابل الرئيسي ( مردوخ ) على غيره من آلهة بلاد الرافدين .. و هناك عدة نسخ للملحمة في بابل و آشور ..!
لم تكن افكار العراقيين القدماء عن الخلق والتكوين أفكاراً بدائيه , بل أفكار ناضجه بالدرجه التي تُـتيحها معارف تلك الفترة من بدايه حضاره الأنسان ، فلقد اثبت السومريون و البابليين مقدره فائقه على الملاحظه الذكية و الربط و استخلاص النتائج المنطقيه ..! — موجز التسلسل الأسطوري لعملية خلق العالم حسب الأسطورة البابلية :
1- في البدء كانت الآلهة (نمو ) ولا أحد معها ، و هي المياه الأولى التي انبثق عنها كل شي ..!
2- – أنجبت الألهة ( نمو ) ولدا و بنـتا .. الأول ( آن ) إله السماء المذكّر .. و الثانية ( كي ) إله الأرض المؤنث .. و كانا مُلتصقين مع بعضهما و غير منفصلين عن أمهما ( نمو ) ..!
3- ثم قام ( آن ) بالزواج من ( كي ) .. فأنجبا بِكرهما ( أنليل ) آله الهواء الذي كان بينهما في مساحة ضيقة لا تسمح له بالحركة ..!
4- ( إنليل ) الإله الشاب النشيط لم يُطِق ذلك السجن .. فـقام بقوته الخارقة بفصل أبيه ( آن ) عن أمه ( كي ) ، فرفع الأول فصار سماء ، و بسط الثانية فصارت أرضاً .. ومضى يرتعُ بينهما ..!
5- – و لكن ( إنليل ) كان يعيش في ظلام دامس ، فأنجب إنليل أبنه ( نانا ) آله القمر .. ليُبدد الظلام و ينير الأرض ..!
6- – ( نانا ) آله القمر أو ( سين ) فيما بعد , أنجب بعد ذلك ( أوتو ) أو ( شمش ) آلـه الشمس ..!
وبعد أن أُبعدَت السماء عن الأرض ، و صدر ضوء القمر الخافت و ضوء الشمس الدافئ ، قام ( إنليل ) مع بقية الألهة بخلق مظاهر الحياة الأخرى ..! —
أنتقلت أسطورة الخلق البابلية الى اليهود على يد أحبارهم بعد عودتهم مِن الأسر البابلي .. و عدّلـوا عليها بعض التفاصيل و الأسماء .. و نسبوها للـتوراة ، لتدخل في أوّل ألـواح العهد القديم ( لوح التكوين ) ..!
[email protected]