تكمن الانتقادات التي تواجهها نظرية ماركس بالنتائج العملية السلبية التي حصلت عندما تم تطبيقها من قبل الدول الشيوعية منذ الثورة البلشفية في روسيا عام 1917، وكذلك في الصين بعد فوز الحزب الشيوعي في الحرب الأهلية في عام 1949. فلم تفلح كلتا الدولتين في أن تتفوقا إقتصادياً على مثيلاتها من دول الغرب التي تبنت النظام الرأسمالي. فالجدل القائم عندنا والذي تُنتقد فيه النظرية الماركسية هو أن كل التطور الصناعي الذي حدث منذ القرن الثامن عشر وحتى يومنا هذا كان في الدول الرأسمالية. فسقوط الإتحاد السوفيتي والدول التي تبنت النظام الشيوعي في عام 1991 عُدَّ نصراً للدول الغربية بنظامها الإقتصادي الرأسمالي والسياسي الليبرالي.
يعزى سبب التأخر الاقتصادي للدول الشيوعية الى نظامها السياسي الدكتاتوري. فالنظام السياسي كان لينينياً بحتاً (نسبة الى لينين)، ولم يكن جزءاً من النظرية التي طرحها كارل ماركس. فالنظرية كانت تنظر الى النظام السياسي والإجتماعي والثقافي والديني كإنعكاس للنظام الإقتصادي في الأمة والدولة. يفترض ماركس بأن هنالك تطور طبيعي
في الحياة، فعندما تتغير طبيعة النظام الإقتصادي، فإن ذلك سيُحدث تحولات في الوضع السياسي للدولة الحاكمة وكذلك في التركيبة الإجتماعي للأمة وحتى في المعتقدات التي يومن بها أفرادها.
إن النظام الشمولي المستند على مبدأ قيادة الحزب الواحد (الحزب الشيوعي تحديداً) إنما هي من إضافات قائد الثورة البلشفية، لينين، والتي أساء إستغلالها كل من ستالين في الإتحاد السوفيتي وماو في الصين، اللذين حكما بلديهما ما يقارب الثلاثين عاماً، فوضعا بصماتهما على طبيعة الحكم في تلك البلاد، وجرى استنساخ التجربة فيما بعد في الدول التي حذت حذوهما. ومع أن الأنظمة السياسية الشمولية ليست مقتصرة على الأنظمة الشيوعية، فقد طبقت في ألمانيا النازية وأيطاليا الفاشية واليابان القومية واسبانيا الفرانكوية ومصر الناصرية وكوبا الكاستروية، وعراق البعث طبعاً، ولكن أغلب تلك التجارب (وخاصة في دول العالم الثالث) أستندت أو إستلهمت اسلوب حكمها السياسي من اللينينية-الستالينية.
فأدبيات الحركات الإسلامية وتنديدها بالماركسية إنما هو موجه لتلك التجربة السيئة في حكم الإنظمة الإشتراكية. فكل ما نقل عن نظرية كارل ماركس إنما كان من قبل اليساريين والشيوعيين الذي كان مَثلُهم الأعلى هو تجربة الحكم في
أنظمة المعسكر الشرقي (الإتحاد السوفيتي ودول أوربا الشرقية والصين)، وقد إعتمد قادة الحركات الإسلامية في فهم الماركسية على تلك الترجمات النابعة من زاوية ضيقة في نظرتها الى الإشتراكية بصورة عامة والى الماركسية بصورة خاصة.
لم تكن نظرية ماركس معنية بالوضع السياسي، وإنما كانت نظرية لدراسة النظام الاقتصادي الرأسمالي وبيان منابع القوة والضعف في طبيعته، بالإضافة الى تأثيراته وإنعكاساته على الوضع السياسي والإجتماعي. وبما أن إحدى مبادئ النظرية هو مبدأ التطور الملازم لحركة التاريخ، فإن هذه الرأسمالية على الرغم من كونها نظاماً تقدمياً حل محل النظام الإقطاعي الزراعي والنظام التجاري، فإن الرأسمالية (التي جاءت مع الثورة الصناعية) ونتيجة لتناقضاتها البنيوية فإنها سوف تؤول الى الإنهيار، ومن ثم السقوط بفعل التغيير الحاصل في الظروف الموضوعية في الحياة الإنسانية. فالعوامل السلبية والتناقضات سوف تتضخم ولا يمكن تجاوزها إلا بقيام نظام إقتصادي جديد يستجيب لمتطلبات التغيير الحادث لا محالة في مسيرة الحياة الإنسانية. فهنالك حتمية تغيير مستمرة في حياة الإنسان، وهذا التغيير سوف يحطم إنظمة ويقيم أخرى على أطلالها ثم لا تكون مثلها لتستجيب مع متطلبات الحياة الإنسانية المتطورة.
من التناقضات التي أمعن كارل ماركس في إلقاء الضوء عليها هي ان النظام الرأسمالي قائم على الربح والفائدة التي يحصل عليها صاحب رأس المال نتيجة سيطرته على وسائل الإنتاج. ولتقريب الفكرة من خلال عدم إستعمال هذه المصطلحات العلمية الصعبة، فإن أصحاب الشركات الإقتصادية الكبرى إنما يجنون تلك الملايين والمليارات من إتعاب العمال والفنيين والمهندسين والعلماء والمخترعين الذين يقومون بصناعة وإنتاج كل ما نستهلكه في الحياة. فمثلاً ما يملكه صاحب شركة أبل المشهور عالميا (المرحوم ستيف جوب) إنما كان بسبب ما يخترعه المهندسون وما يصنعه العمال والفنيون من الأجهزة الالكترونية فيتفانى المستهلكون من أمثالنا على شرائها، فيجني هو الأرباح ولا تصل الى من صممها وصنعها. فأن ما يملكه أصحاب الشهرة والمليارات من أمثال هؤلاء إنما هو ما يستقطعوه من عرق جبين وجهد وأتعاب الذي من يقومون بصناعة ما نشتريه ونستهلكه (وفي حال شركة أبل – ما يخترعه المهندسون في كاليفورنيا ويصنعه العمال في الصين). فماركس كان يعتبر بأن هذه المليارات هي حق العمال والفنيين الذين يقومون بإنتاجها وصناعتها وعليه فأن ملكيتها تعود اليهم، لا الى أصحاب الأموال أو من يسيطرون على تلك الشركات. فبينما يسير العامل والمهندس مثلاً الى ساحات العمل والإنتاج إما مشياً على الأقدام أو يقودون الدراجات الهوائية
ووسائل النقل العامة، يستغل أصحاب الشركات أتعابهم فيحصلون على الثروات ليمتلكوا بها السيارات الذهبية والطائرات الخاصة والقوارب (اليخت) العملاقة.
فالنظرية الماركسية لم تكن نظرية معنية بالنظام السياسي، فهي تنظر للعملية السياسية على أنها إفرازاً للنظام الاقتصادي. فاصحاب رؤوس الأموال من المليونيرية والمليارديرية هم الذي يسيطرون على العملية السياسية؛ وهم كذلك يسيطيرون على علماء الدين ويستميلون رهبانهم، حتى يمكنهم ترويض عقول الجماهير بما يخدم النظام (السياسي والإقتصادي القائم). فما إستنتجه كارل ماركس بأن نشوء البروتستانتية في الدين المسيحي مثلاً إنما كان لمنفعة النظام الرأسمالي الإقتصادي والنظام الديمقراطي السياسي. ومن هذا قال كلمته المشهورة (الدين إفيون الشعوب) والتي إستحق على أثرها حملات التكفير الدينية من الجميع واللعنات الى اليوم ؛ فإنما كان يعني بها عملية ترويض الجماهير التي يقوم بها علماء الدين من أجل مصلحة المتسلطين على النظام الإقتصادي والسياسي، فأصبحوا بذلك شركاء لأصحاب السلطة والمال.
نظرية ماركس كان أساسها إيجاد الحلول للقضاء على ظاهرة الظلم المستفحلة في النظام الرأسمالي والتي تجحف بحقوق العمال والفنيين والكادحين الذين يقومون بعملية الإنتاج الصناعي والزراعي. فإن الأرباح التي يحصل عليها أصحاب الأموال ومالكي الشركات والأراضي الزراعية إنما هي سرقة لأتعاب من يقومون بعملية الإنتاج المباشرة، فهي حقهم. فالعمل هو أساس ملكية الأموال، ومن لا يعمل لا يأكل، إلا من له إعاقة جسدية أو نفسية، وأصحاب الأموال لا يعملون وإنما يفسدون نتيجة ثرائهم، كما في الوصف القرآني: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا .
ومن هذا أصبحت النظرية الماركسية دعوة للثورة ضد الظلم الواقع على غالبية مواطني الشعب وأبناء الأمة. فمن هذه الرؤية العميقة أو الجديدة هي نظرية قصدها أخلاقي تسعى للقضاء على الظلم وتدعو للتوزيع العادل للموارد الإقتصادية بين الكادحين والعاملين، وليس حكراً على طبقة دون أخرى. فهي نظرية تدعو الى المساواة في توزيع الموارد المالية بين الناس جميعاً. أليس هذا هو هدف الأديان، وخاصة الديانات الإبراهيمية (اليهودية والمسيحية والإسلام) القائمة على أساس المساواة والعدل؟!
ومع أن كارل ماركس بحث التناقضات الإجتماعية من بعدها الإقتصادي، ولكن الهم الرئيس في نظريته كان حول إقامة العدل في توزيع الموارد بين الكادحين، وليس للمتطفلين عليها من أصحاب رؤوس الأموال حق فيها، إلا فيما يقومون به من عمل وتخطيط إداري، ولكن تعطى لهم الأموال بحسب ما يبذلوه من جهد، ومهما كانت قيمة العمل تلك فإنها لا تكون بمقدار الملايين والمليارات. هذه النظرة الثاقبة لدراسة التناقضات في النظام الرأسمالي التي أنفرد ماركس في تحليلها في أواخر القرن التاسع عشر هي التي أعطت له الشهرة بين علماء الاقتصاد السياسي. فقد كانت الدعوة للإشتراكية منتشرة في زمنه، ولكنها كانت دعوة سياسية غير علمية، ولكن أعطى كارل ماركس المغزى الأخلاقي وبين مكامن الخطر وإنعدام العدالة في الرأسمالية (ولهذا نعته الشهيد محمد باقر الصدر في تفسيرة الموضوعي للقرآن بأنه صاحب الذكاء الفائق). وبمرور الوقت، نشأت هنالك حركتين في الإتجاه الإشتراكي: الأولى هي التوجه اللينيني السياسي الذي تبنته الأحزاب الشيوعية والذي إندحر حال سقوط الإتحاد السوفيتي؛ والآخرى هي التوجه الإشتراكي نحو تحقيق العدالة الإجتماعية في النظام الإقتصادي والذي تبنته الكثير من الأحزاب الإشتراكية العاملة في الأنظمة الديمقراطية، كما هي الآن في الدول الإسكندافية وألمانيا وفرنسا، وحتى في بريطانيا وكندا ونرى تداعياتها الجزئية في الولايات المتحدة. فلولا هذا البعد الإشتراكي-الأخلاقي في العملية السياسية الديمقراطية لما أزدهرت رفاهية المواطنين الكادحين في الدول الرأسمالية المذكورة وجرى تقنين مبادئ العدالة الإجتماعية في توزيع الموارد الإقتصادية في الأنظمة الليبرالية والمحافظة في الغرب.
فالمبادئ التي كان يدعو لها الأنبياء والأئمة في التوزيع العادل للموارد الاقتصادية إنما جرى تحقيقها في النظم الإشتراكية في الغرب. ألم يدعو القرآن لتوزيع الموارد المالية على: .. ذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ ؛ أو ما أمر به الإمام علي مثلاً عند تسنمه الحكم بإسترجاع أموال أصحاب الثروات الضخمة الى خزينة الدولة: كل قطيعة اقطعها “فلان” وكل مال اعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال. فالعدالة النبوية والمساواة التي دعت لها الأديان إنما يجري تطبيقها في عصرنا الحاضر في النظم الإشتراكية الديمقراطية. ومن هذا نرى أن المهاجرين من دول المسلمين إنما يطلبون الحياة في تلك الدول التي ينعتوها بـ “الكافرة” (ظلماً وجوراً)، لأن فيها تطبق العدالة وتحفظ فيها الحقوق السياسية والاقتصادية والثقافية، أو لأن فيها نظام لا يظلم فيه أحد – كما في قول النبي (ص) عندما طلب من أصحابه الهجرة الى الحبشة (أثيوبيا). فالإشتراكية هي الضامن لحقوق المواطن (أو حقوق الفرد في المجتمع وإن لم يكن مواطناً) فيحصل على معاشه اليومي الكريم (فوق خط الفقر)، ويؤمن له السكن
والمواصلات والتقاعد والضمان الصحي والتعليمي. في النظام الرأسمالي ، كل هذه الحقوق الإشتراكية إنما تُعدّ “إمتيازات” أو”سلع خدمية” ليست من الوظائف والواجبات التي تؤمنها الدولة للأمة، ولكنها خدمات عليها أن تكون مربحة للشركات المستثمرة التي تعتمد على الربح والفائدة وليس هنالك من حق يتمتع به المواطن مالم يملك من الموارد المالية للإنفاق عليها، ومن ليس له مال فلا حق له بها. ومن هذا نجد أنه في الدولة الرأسمالية الكبرى في العالم (الولايات المتحدة) هنالك أكثر من 50 مليون مواطن ليس له ضمان صحي لأنهم ليس لهم القدرة على دفع تكاليفها. فعمل الرئيس أوباما على تشريع قانون يضمن تقديم الخدمات الصحية لبعض منهم (20 مليون نسمة)، ودعى المرشح الديمقراطي (اليهودي) ساندرز خلال حملته الإنتخابية الى تأمين الضمان الصحي لجميع المواطنين كما في الدول الإشتراكية (مثل كندا والدنمارك) بالإضافة الى التعليم الجامعي المجاني لجميع الطلبة.
في السجال السياسي الدائر عندنا في الأوساط “الثقافية” نرى هنالك دعوة الى تطبيق نظام “إقتصاد السوق” (وهو إستعارة تعريفية غير علمية للنظام الرأسمالي). فنسمع هنالك من يريد خصخصة قطاع التعليم والصحة وجميع الموارد الطبيعية ويتخلى عن البطاقة التمونية وتقليل التقاعد، وإحالة الخدمات البلدية والموصلات وجميع مرافق البنى التحتية للقطاع الخاص. جميع هذه الطروحات الكارثية الحمقاء تقدم الينا ضمن أفكار سطحية تُملى على “مثقفينا” من الإنترنت بكرةً وأصيلاً، أو يسمعونها من الورشات التي تُلقى عليهم من “أشباه باحثين” خلال الإيفادات التي يستمتعون ويستجمون فيها في الخارج. فالسمة العامة لما يرددوه هؤلاء في وسائل الإعلام إنما هي أقل ما يقال عنها شطحات “فكرية” لا تمت للتقدم الإقتصادي الحاصل في الدول المتقدمة (مثل اليابان وأروبا وكندا) أو حتى في الجدل السياسي الحاصل في الولايات المتحدة، فما تقدمه الحكومة الإمريكية من خدمات في القطاع الصحي والتعليمي والضمان الإجتماعي الذي يكفل جميع المواطنين. فهذه من واجبات الدولة (محلية كانت أو مركزية) تقدمها كخدمات للمواطنين يجب أن تشرح عن الضرائب هنا لأنه ليس مثل العراق . فبينما تخطوا الدول المستقرة والمتقدمة في مجال المواطنة وحقوقها، فتسير بخطى حثسثة لتخطي تناقضات الرأسمالية وتصحيح مسارها، نرى “الأساتذة وفطاحل الفكر” عندنا يدعون الى العودة الى رأسمالية القرن التاسع عشر. كل هذا لأن فهمهم للإشتراكية ينحصر بالنظام البعثي الذي جرى تطبيقه في عهد صدام حسين، وكأنهم لم يتطلعوا أو يدرسوا الأنظمة الإقتصادية الإشتراكية في الغرب ما بعد ماركس، أو ما يمكن أن يطلق عليه النظام الرأسمالي المعدل – أو النظام الإشتراكي الإنساني، أو ما
أطلق عليه الرئيس الأمريكي ريغن – النظام (الرأسمالي) المحافظ الرحيم. فالأنظمة الإشتراكية الديمقراطية إنما هي أقرب الأنظمة إنسجاماً لما دعى اليه الإمام محمد باقر الصدر في بحوثه حول الإقتصاد وبنى نظريته عليها.